شبكة ذي قار
عـاجـل










لا أحد ينكر أن شعار "دولة القانون والمؤسسات" شعار ينم عن فكرة راقية توحي بنضج المجتمع والحكم الرشيد، غير أن الواقع المعاش يناقض تماما مضمون ذلك الشعار كما هو حال الكثير من الشعارات الأخرى إذ تحمل "دولة القانون والمؤسسات" في طياتها أخطر أنواع القهر المقنن والمنع المعلل والاحتكار المبرر. وعليه فإن دولة القانون والمؤسسات على نقيض من دولة العدل والمساواة بما رتبته من قيود على حركة المجتمع وقواه السياسية والمدنية وبما وضعته من حدود لمجالات التفكير والتدبير والتسيير. فكرة دولة القانون والمؤسسات سجنت المجتمع المدني في قوالب سياسية وأمنية وقانونية متقنة التنصيب والإسقاط.. لم يشارك فيها المجتمع مشاركة حقيقية فلا دور له في سن قوانين الدولة ولا مساهمة حقيقية في إنشاء مؤسساتها. والواقع أن هذه الدولة في حد ذاتها كانت مسقطة أي لم تكن وليدة المجتمع ولا صنيعة نضجه وحاجاته، وإنما الاستعمار وما أقره من تجزئة سياسية وتفتيت اجتماعي للواقع العربي وما حرض عليه من انفصال وانعزال أفضى إلى نشأة كيانات سياسية مصطنعة سرعان ما تحولت بعد انحسار الاستعمار وبدعم منه إلى دويلات ودول غير طبيعة، هي في الحقيقة أجزاء من وطن أكبر وأشلاء من أمة واحدة. ومثل هذه الدويلات والدول لا تعبر عن نشأة تاريخية ووظيفية للدولة ولا تجسد أمل وإرادة المجموعة البشرية فيها. ولكن القائمين عليها وبرعاية من أصحاب الوصاية الاستعمارية عليها لم يدخروا جهدا في تحويل الوصاية الأجنبية إلى وصاية محلية بقيادة الزعيم الأوحد والحزب الواحد وسمو الأمير والملك المفدى فالحكم العائلي والوراثي. وهذا النوع من الوصاية كرس التحوز المطبق على مقاليد الحكم والتصرف المطلق في مصير الدولة وثرواتها وهذا أمر يحول دون ارتقاء الدولة وتحررها من قبضة التفرد القيادي والاحتكار السياسي. فمهما كان نوع النظام ملكيا أو أميريا أو جمهوريا، فإن النكبة الشاملة التي أصابت ولا زالت تفتك بالشعب العربي من المحيط إلى الخليج هي واحدة في منطلقاتها واتجاهاتها وفي عمومها وتفاصيلها. شعب منكوب بحكامه ظل دون مقامه عاجزا عن تحقيق تحرره وتفعيل إرادته. 


في إطار هذه الكيانات المصطنعة لا معنى لدولة الشعب ولا معنى لقوانينها ومؤسساتها نظرا لفقدانها الشرعية وعجزها عن بناء الوطن وتأسيس المواطنة لأن الدولة الحقيقية لا تقام أصلا على جزء من الوطن، والمواطنة تبقى مفقودة أو منقوصة إذا ما ظل المواطن منزوع الإرادة، فاقد الحرية، مكبوت التطلع ومحروم من المشاركة في تقرير المصير. إن الأنظمة الفردية، الملكية والحزبية الشمولية والوراثية تحتكر مصير الدولة. وحتى تضمن وتستديم احتكارها صنعت لها مجتمعا خاصا يحسن النفاق الفكري والثقافي والولاء السياسي، يتقن المدح والتمجيد والتصفيق ويعجز عن النقد والتجديد والتطوير خوفا وطمعا مما حول السلطة القائمة إلى مجرد جهاز لترويض وتطويع المجتمع ولتحريكه وتجميده حسب الظروف ومقتضيات أمن واستقرار النظام القائم.


ومن وعى وأدرك وتحرك بالاتجاه الصحيح ناله التهميش وأصبح غريبا ملاحقا، مقيدا محاصرا باسم القوانين والمؤسسات التي لم تأت لتحريره بل جاءت لتكبيله. وظل الوطن المأمول أملا معلقا والحرية المنشودة مسلوبة وظلت الكرامة وهما والديمقراطية جوفاء والتنمية مهدورة ومرهونة وباتت الدولة تابعة ومديونة تستمد بقاءها من عجز المجتمع ومن قوة أصحاب المصالح فيها من الداخل والخارج. إن الدولة بهذا الشكل ومضمونه هي مجرد كيان ذي منظومة (لا طبيعية ولا شرعية) من القوانين والمؤسسات التي تفتقر إلى مفهوم الوطن والمواطنة لأن من هم تحت وصايتها ليسوا مواطنين حقا رغم ما توحي به مضامين الدساتير والقوانين التي سُنت خارج إرادة الشعب وطموحاته من مجالس نيابية وتشريعية ورئاسية انتصبت غصبا وقهرا أو تزويرا وتغريرا لتكون مكسبا ومغنما للنافذين وجهازا طاحنا وقامعا لحريات وتطلعات المجتمع الذي لم يكن في نظر "دولة القانون والمؤسسات" غير مجموعة بشرية في خدمة النظام وأمنه وليس العكس. إذن عن أي دولة نتحدث والقوانين فيها منتهكة ومؤسساتها فاشلة حتى أصبح الفساد المالي والإداري وما فيه من رشوة ومحسوبية سبلا سالكة للكسب والارتقاء ؟؟.

 

وليس من العجيب ولا الغريب أن تبدو هذه الانتهاكات والانحرافات خارج طائلة القانون لأن مرتكبيها هم من داخل النظام ومن حراسه وهم في الحقيقة عيون لا تنام لحفظ ديمومة النظام وحماية عرش الحكام. وعلى هذا المنوال، فإن دولة القانون والمؤسسات لا خوف عليها طالما أن حاميها حراميها. وأما دولة العدل والمساواة فلا سبيل إليها في ظل التسلط والانحطاط. وإذا كان العدل أساس العمران لدى الشعوب الحرة، فإن الاستبداد والفساد قد صار أساس دوام النظام وتأبيد الحكام لدى الشعوب المغلوبة على أمرها. ونحن من المحيط إلى الخليج لسنا خارج الكيانات المصطنعة ولسنا داخل دولة العدل والمساواة فقد جاد علينا أولياء الأمر فينا بدولة القانون والمؤسسات. فنعم دولة الأمجاد حامية الفساد والاستبداد.

 

الأستاذ الهادي المثلوثي ، تونس





الاحد٠٨ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٠ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الأستاذ الهادي المثلوثي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة