شبكة ذي قار
عـاجـل










(1)

 

في مثل هذه الأيام من عام 1920 اندلعت ثورة العشرينات في عاصمة الخلافة ضد المحتل الانجليزي،ولم تهدا الثورة حتى أتت أكلها وأجبرت الإنجليز على الجلاء عن العراق غير مأسوف عليها...وهام المستقبل عشقا بأرض الرافدين..

 

وبعد مضي أعوام من هذا التاريخ الماجد وجدت العراق وشقيقتها فلسطين تعيش نفس الليالي العاصفة بعد إن عاشت هادئة البال ردحا من الزمان..

إنا لا أعجب لشيء عجبي لتلك المدائن ،تحزن فتستسلم،وتألم فتظن أن آلامها وأحزانها  لن تنتهي...وهل نعرف نحن البشر أن تغريد البلابل من فرح أو حزن أو شجو الحمام من بشائر أم نواح؟؟ ولقد آثرت أن أبدا هذه الرقعة بأبيات مغردة لا اعرف فعلا ااطلقها من فرح بمستقبل أم من نوح لحاضر، ولكني أطلقها فحسب:

 

نمسي ونصبح ُ ظلُّ الموت ِ مأوانا       أين المفر ُ وقتلي صار عنوانا
يا لهف نفسي فظهر ُ الأرض مقبرة        ٌبها ا استبد أخو التلمود طغيانا
إني كفرت ُ بقوم ٍ لا يؤرقهم ْ           ** رقص ُ اليهود ِ على أشلاء قتلانا
وأنا كفرت ُ بحكام الخنا علنا ً              * وأنا أكفـّرهمْ سرا ً وإعلانا
في القمة اجتمعوا والغرب سيدُهم     ْ وبأمره افترقوا ضعفا وإذعانا
يكفي احتشادهمُ في كل ّ قارعة        ٍ شأن الذليل ِ مراسيلا ً وغلمانا
وعلى بلاطهم ُ يجثو بلاعمة  *         ٌ تخفي بجـبّـتها البلهاء شيطانا
جل ُّ الشيوخ ِ قد اعتمروا طيالسة    ً قامت ْ عمائمهم ْ للحَبْر ِ أعوانا
سود ُ الوجوه كلاب ٌ بلـّها مطر       ٌ تعنو عقيرتـُها ذلا ً وخسرانا
شاهت ْ وجوهكم ُ لولا تواطؤكمْ    ما كان دنـّس َ كلب ُ الأرض مسرانا
إن التباكي الذي ما عاد يخدعنا       حتى نظن دجاج القن عقبانا
لا لن يبرئكم ْ من سوء فعلتكم ْ رف ُ   الدموع وملء الأرض أحزانا
أو ما سمعت بأرض العز صرختنا    في أرض غزة " إن الله مولانا
وفي العراق عراق الله مأسدة ٌ      قامت ْ تزف لحور العين عرسانا
بالذبح جاءكم ُ والله ناصره ُ        حتى تذوقوا كؤوس الموت ألوانا
يا أرض غزة يا عنوان عزتنا       كُفـّي دموعك ِ إن القتل َ مسعانا
إن يقتلوك ِ فإن القوم قد قتلوا       يحيى الشهيد وياسينا ً وريّانا


كُفـّي دموعك ِ همْ بذلوا نفوسهم         ُ حتى نُحكـِّم في الأوطان قرآنا
إن يخذلوك ِ فإن القوم قد خذلوا          طهر العراق ولم يبكوا ضحايانا
ما كان يحدو الذي فاضت نسائمه         ُ بالمسك ِ متخضبا ً عَرَض ٌ بدنيانا يا غزة العز إن الله حافظكم ْ           * الله مولاكم ْ شيبا ً وشبانا
 
ما سعـّرَ الحرب َ مَن ْ جاشت ْ حناجرهم      ولا العويلُ على أطلال أقصانا
لن يدحر الكفر َ إلا من به ِ اشتعلت     ْ عُرى اليقين ِ وسـل َّ السيف َ إيمانا
وعصبة ُ الحق ِ إمـّا هيعة ً سمعوا     تغلي مراجلهم ْ في الصدر ِ بركانا
هبـّوا وحثوا إليها السيرَ فامتلأت ْ        كل ُّ الثغور ِ قساورة َ وفرسانا
لا يدفع الظلم َ إلا ثلـّة ٌ كانوا في       الحرب آسادا ً في السلم رهبانا
 
إن زمجر الموت ُ نادوه وما وجدوا          هلعا ً ولم يجدوا قبرا  ً وأكفانا

 

أيتها المدينة الأسطورية التي تقف اليوم على بوابة ثورة عام 1920 وتتذكر كيف أنها بصلابة وحدتها ومقاومتها الباسلة أفلحت في طرد البريطانيين من كل شارع من شوارع العراق..يا مدينة الرشيد... لا تبكي كثيراً... إحفظي دموعك،لعلها تغسل جراحك أو لعلها تسقي العطاش من أطفالك وأطفالنا فقد كنت نعم العون والسند لآلامنا وقضايانا.

 

فعلى مدى التاريخ ، كان أعداء العرب يشتركون بالعديد من الصفات والمظاهر ، وان اختلفت هوياتهم وألوانهم .

وبسبب ذلك شاعت العبارة التي تقول (التاريخ يعيد نفسه).....

وعلى مدى مراحل التاريخ المختلفة تعرضت بلداننا التي طالما أثارت إطماع هؤلاء الأعداء ، لأشكال مختلفة من محاولات الاحتلال ،  لكنها في كل مرة تفرز مظاهر تدل على أن أعداء العرب وان بدلوا جلودهم وهوياتهم  فهم ثابتون ومتشابهون على مر التاريخ ويدورون حولنا تبعا لقوتنا وضعفنا .

وفي فلسطين والعراق تظهر مظاهر العداء نفسها لتقول لنا أن العدو واحد أو أن الأعداء وان تعددوا فإنهم  يشتركون في توجه أو إستراتيجية واحدة  .

فكما في فلسطين استهدف الصهاينة ومن ورائهم  من أعداء العروبة (الوجود العربي)  وجعلوا العنصر البشري وقيمة الوجود العربي ونسبة قوته  بمقابل الوجود اليهودي عنصرا هاما من عناصر الصراع حتى أصبحت الدوائر الصهيونية تحسب ما تلد الأرحام الفلسطينية على مدى الحاضر والمستقبل ، وأصبحت هذه الدوائر تختلق الذرائع لتهجير الفلسطينيين من كل قرية أو مدينة فلسطينية دون ذرة حياء ودون حساب لأي ردود أفعال .

 

بالمقابل نجد أن الأعداء نفسهم الذين تكالبوا على العراق يفعلون ذات الفعل ، إذ أصبحت الهوية العربية للعراق مستهدفة على مستوى الدولة والأفراد فعمدت  دوائر العدوان إلى تفكيك الهوية العربية  بإثارة النعرات الطائفية وأضعفت كل ما يذكر بعراقية وعروبة العراقي وناصرت طائفة على حساب أخرى وأصبح الصراع الطائفي إضافة لافتراءات أخرى عديدة سببا  للتصفية والتهجير ، فتهتك نسيج المجتمع العراقي ، وأصبحت عملية تلبيس التهم سهلة ومقننة ، وكان الوطنيون والرافضون للاحتلال هم أول المستهدفين ، وتعرضوا  للتصفية الجسدية ومضايقات مختلفة الألوان جعلت  احدهم بين خياري القتل أو الهجرة .

 

وكما في فلسطين حاصر الغزاة كل أسباب الحياة وعطلوا  أسباب التقدم والنمو الاقتصادي  من خلال تجريف الأراضي ، وتخريب الصناعات والبقاء على كل أسباب الضعف  من تردي في المستوى التقني والعلمي ومحاربة النخبة التي يمكن أن تسير بالمجتمع نحو التطور بشكل قد يعادل كفة الصراع الحضاري الذي يطبع التنافس التاريخي بين الطرفين.

 

نجد ذات المعادلة تعمل في العراق وقد أدت هذه العملية إلى تخريب نسبة كبيرة من البنية التحتية .

 واستمرت العملية على مدى السنوات التسع للاحتلال  من خلال الفساد المالي لبعض المسؤولين الحكوميين ،  ومن خلال العصابات وفرق القتل المنظمة التي تقودها الأجهزة المخابراتية لدول الاحتلال والتي تستهدف النخبة السياسية والعلمية وأصحاب رؤوس الأموال  بشكل يهدف إلى التصفية والتهجير وتعطيل إعادة البناء .

وبهذه الوسائل وغيرها تستمر عملية التصفية والتهجير لتغيير بنية المجتمع العراقي وتغيير هويته لان أعداء العراق  المذكورين يريدوه أرضا بلا شعب (إن تمكنوا من ذلك)  .

 

وإذا تناولنا مظهرا آخر يذكرنا به حصار غزة الذي استهدف كل  أسباب الحياة الكريمة .

نجد أن الحال نفسه وأسوا منه يحصل في العراق بعد أن تقصدت دوائر الاحتلال والذين قدموا معه  ومنذ تسع  سنوات افتعال حصار غير مكشوف من خلال إهمال كل أسباب التقدم ، فهربت الأموال ، وتركت المصانع معطلة ، وأهملت الزراعة  ، ولازال العراق الدولة الوحيدة بالعالم بدون كهرباء ، وأصبح هذا البلد النفطي يستورد وقود السيارات (البنزين ) .

 

 وبهذه الشاكلة حوصرت أسباب الحياة بشكل مقصود لكي يستمر أعداء العراق بإنفاذ  مخططات التصفية  والتهجير تمهيدا  لتغيير هوية هذا البلد وتنفيذ المخططات التي أعدها كل طرف من إطراف العدوان وحسب ما تتيح له ظروف الصراع ، وليتقاسم  أعداءه المتنافسون حصتهم منه على طريقة المستثمرين الجشعين  .

وهكذا في الكثير من الشواهد التاريخية التي تظهر تشابه الأعداء الذين يستهدفون الوجود العربي بصور مختلفة لتبقى عبارة (التاريخ يعيد نفسه) صالحه لفترة لا يعلم مداها الا الله ، ما لم يتدارك العرب تداعيات المرحلة الحالية ويضعوا حدا لتجرأ الآخرين عليهم ....

 

لا تبك بغداد ولا تبك نينوى فأنت مازلت النور بظلمتنا،بل الأمة التي قصرت معك هي الظلام وأنت رغم النوائب والجراح... الشمع والضوء واللهب على رؤوس الجبال تهدي الحيارى والتائهين ...  

 

لا تبك بغداد أنت الدم ينهمر دفاعاً عن الشرف والفضيلة والشموخ...وغيرك  لهم الكلام والشجب والسخط والغضب.... لا تبك يا  مدينة العلم والعلماء... يا قمحاً بجعبتنا ففيك الجياع ولكن في أجزاء كبيرة من المعمورة ينتهب الخير.... لا تبك بغداد من شرخ طائفي أو مذهبي غذاه المستخرب و فرق شملك لحين فأنت الشهيدة،وأجزاء كبيرة من الأمة رضيت أن تكون الموس الذي يختضب..

 

لا تبكِ بغداد يا ذنباً يُؤرِّقنا
أنتِ الضحيةُ نحن الذنبَ نرتكبُ

لا تبكِ
فالوجة من حِلْفٍ يُعاهدنا
منه البراءةُ إنْ حاقت بنا النُّوَبُ

لا تبكِ
بصرة من ذئبٍ يُهاجمنا
فهُمُ القطيعُ وأنت الكبشُ قد هربوا

فهُمُ المشاهدُ للتشجيعِ قد طربوا
أنتِ الفريقُ وأنتِ اللاعبُ النَّجِبُ
أنت الدفاعُ وأنتِ الحارسُ الفَطِنُ
لا تركعين لغير الله إن غلبوا
لا تبكِ يا حُلْماً يُراوِدُنا
نحنُ الّليالي وأنتِ الصُّبحُ والشهُبُ
لا تبكِ يا عِشقاً يُلازمنا
أنتِ الحبيبُ ونحن الهَجرُ يَنتحبُ
لا تبكِ يا ذنباً يُؤرِّقنا
نحن الخطيئةُ نحنُ الذنبُ والسببُ
لا تبكِ يا نجماً بليلتنا
أنتِ العلوُّ وأنتِ التِّبرُ والذهبُ
لا تبكِ يا رمزاً لعزتنا
أنت العصِيُّ فلا شكٌّ ولا عجب
.

 

(2)

 

أيتها المدينة المسافرة في الحزن والقهر والآلام..هل تسمحين لشقيقة مثلك تسافر كل ساعة مع الحزن والأتراح أن تضع يدها على جبينك المتعب،وتمسح الشحوب الكثيف الذي يغطي وجهك الجميل؟ أيتها المدينة التي منذ عام 2002 وهي ترفل ثوب السواد وفي هذه السمة فأنا أكبر منك ب 35 عاماً على الأقل،وأحزاني أعتق من جراحك بخمس وثلاثين سنة،وتجربتي مع المحتل والدموع أقدم من تجربتك..

 

قد تكون مساحة أحزاني أكبر من ساحة أحزانك،وقد يكون عمري التاريخي والديني أكبر من عمرك،ولكني أعتقد أن قواسم مشتركة كثيرة تجمع وتربط بيننا وهو رفضنا بقاء المحتل الهمجي فوق أرضنا وترابنا.. والهمجيون يا عزيزتي هم دائماً الهمجيون أيا كانوا .. وإن اختلفت التسميات،فالذين دمروني في الماضي كان أسمهم"صليبيون"ثم رحلوا واليوم أسمهم"إسرائيليون!!" والذين دمرونا في الماضي كان أسمهم"مغول" ثم رحلوا والذين يدمروك اليوم أسمهم"أمريكان".. وكل هؤلاء من عائلة واحدة وينتمون لعشيرة واحدة لا تقوى إلا بشرب دمنا عزيزتي : في كل يوم أصحو وإياك سوياً على صوت دمار وخراب وانتهاكات للحرمات،وفي كل يوم أرى تقارير وريبورتاجات مصورة عن الخراب الذي يلحق بك وشقيقاتك البصرة والنجف وكربلاء،فأتذكر أيام عصرك الذهبي حيث كان الأهل ينعمون بالأمن والسلام وأتذكر أيام عزّي وسؤددي وكيف وذات يوم وعلى حين غرّة انتهى زمن الفرح.. وألغى الهمجيون اللون الأخضر من حياتنا.. مكيجوا!! السماء الزرقاء بالحبر الأسود..حولوا كلتينا،منازل وشوارع ومساجد.. وكنائس وساحات ومدارس ومستشفيات.. وطيور وأشجار إلى كتلة من الرعب والدم والفحم والحصاد،وإن كان الفرات في الماضي حقيقة لا تهويلا أسودت مياهه لسنوات بعد أن ألقى المغول  في قلبه الكتب والأسفار، وغطيت ساحات المسجد الأقصى بالدم الأحمر القاني فإن التاريخ يعيد نفسه من جديد... وبات ترابك وترابي من كثرة ما شرب من دم وقهر ورعب تراباً مختلفاً.. ولم يبق ما قيل في ستالينغراد محصوراً بها حيث قال المؤرخون فيها (أن البقول والخضراوات التي نبتت فيها بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب.. كان فيها شيء من نكهة لحم الأطفال.. والأنسجة البشرية المختلفة).

كلانا يا عزيزتي ندفع اليوم ضريبة العزة والحرية،وهل يستوي في المقام من يدفع ثمن الحرية دماً ومن يدفع ضريبة العبودية إنحناءاًً واستكانة؟؟

 

هل تستوي المدن التي تعرف أن تموت عزيزة وتريد أن تقهر الموت وتجبره أن يرفع قبعته لها مع المدن التي لا تراها إلا في حالة شخير متواصل من كثرة ما شربت من كأس مدام،وارتكبت كل الموبقات قبل أن تسلم نفسها لسلطان الكرى؟..

 

هل تستوي يا عزيزتي المدن التي نحلم بتغيير أنظمة الكون المستبدة والمدن المنبطحة على ظهرها تعد كواكب السماء؟..

 

هل تستوي المدن التي تأبى كرامتها عليها إلا وأن تصدر مواقف العز والشموخ إلى العوالم الخفية وتطمع في امتلاك شموس العز مع المدن التي لا تريد أكثر من دفتر شيكات؟

 

هل تستوي المدن التي تقتحم البحار والمحيطات مع المدن التي تصطاد على الشواطئ وتصطاد الأسماك على شواطئ البحار؟

أم هل تستوي المدن التي لها شراسة العاصفة وتسكن البرق والرعود والهاوية والقفز فوق الحواجز العالية مع المدن التي تؤثر السلامة كالخراف والأرانب أو تسكن السفوح ولها قناعة الأشجار؟..

 

(3)

 

عزيزتي بغداد... إنني لا افهم سببا لهذه المناحة التي تحاول إطالة عمر الأمريكان وغيرهم من الهمجيين في أرضنا  واعتباره حامل حمى وزين   الشباب  أو كأنه وليا عربيا يشفي الأبرص.... والأبكم والأعمى .... ويحيي الموت ويقرا الغيب .... ويعرف ما قد يتشكل في الأرحام , بل لا افهم سببا للتعلق بأهدابها  والتشبث بها وقد تبهدلت اليوم أكثر مما تبهدلت في فيتنام وهي التي تتصرف معنا كما لو كنا من مخلفات والدها .

 

ونحن لا نتذكر أن والدها ترك مالا أو عقارا أو ذرية من البنين والبنات في ارض الرشيد أو الحجاز أو مهد ومهبط  النبوات والوحي, كما لا نتذكر أن البيت الأبيض .... صاهرنا أو ناسبنا أو تزوج أمنا فصار عمنا .... بحيث يسمح لنفسه التدخل في شؤوننا الداخلية أو طريقة عيشنا وقضايانا الخاصة والعامة, بما في ذلك عدد وزاراتنا , وعدد جيوشنا .... وماذا نأكل وماذا نشرب .... وأين نتنزه ونصطاف ونتشمس  .... وعدد الأرغفة المسموح لنا بتناولها .... وماذا ننتج.... وأجرة المنزل الذي نسكنه .... وشكل الزوجة وهيئة الزوج الذي سنقترن به ..... وأسماء الأولاد الذين سنرزق بهم وإعدادهم ..... وماذا نتعلم ..... وماذا نعلم ..... وأين نتعلم أو نعمل !  .

 

ثم لا نتذكر أن الولايات المتحدة كانت لها تجارة في قديم الزمان مع أهل العراق أو الشام أو الخليج العربي أو ارض الكنانة حتى تأتي بعد سنين وقرون لتحاسبنا على عدد براميل النفط التي ننتجها , وأشجار النخيل التي نغرسها ونربيها وكم نقطف من إنتاجها، ثم لتقول مجازا أو تورية انها لن يسمح لحفنة من العراقيين المتخلفين !!!! والإرهابيين !!!! أن ينقعوا أرجلهم في بحر من البترول ومحيط من شتى الكنوز الباطنية ويهدم حضارة الرجل الأبيض.

 

لو أننا نقعنا أرجلنا في نهر المسيسيبي أو نهر الهودسون ،أو أخذنا(دوشاً) في مسبح من مسابح فلوريدا..لكانت الولايات المتحدة على حق!!! في صراخها واحتجاجها وأمور أخرى.أما أن تحتل أرضنا وتخرب اقتصادنا وتحرق الأخضر واليابس ثم تلصق بنا شتى التهم وتأتي بعسكرها لتنورنا!!وتحضرناا!! فهو كلام سائب لأن العراق منبت البابلية والفينيقية والعربية احتضنت حضارة استحقت اسمها لأنها قدمت للإنسان عصارة عقلها وفلسفتها وأخلاقها الرفيعة،وأضاءت له طريق الخير والمعرفة والسعادة.

 

فهل ظنت أمريكا بأبنية الكونكريت والجسور المعلقة والأوتوسترودات وناطحات السحاب التي انهار بعضها في دقائق رغم قوتها.. وكل الماكينات الالكترونية التي تفرم الوقت ولحم الإنسان..كل هذه الإنجازات التي هي عبارة عن خربشات على دفتر الحضارة وليست حضارة.. أنها لمجرد ذلك يمكنها التحكم بمصائر الشعوب وحريتهم؟

 

عزيزتي بغداد..

لما كانت السيرة قد انفتحت فلنا أن نتذكر أن حضارة أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر،هي سلسلة من الإرهاب المنظم والهمينة وأكبر عملية نهب مسلحة عرفها التاريخ..

 

(فاللوردات الإنجليز ظلوا مئة سنة وأكثر يشربون شاي ليبتون في منازلهم في حي مايفير في لندن..ويلبسون جاكيتات الكشمير الفاخرة..وقمصان اللينو المصنوعة من قطن مصر.. ويصنعون غلايينهم من عاج الهند..

 

كان اللوردات الإنجليز يعتبرون أن ألفي مليون من سكان افريقيا وآسيا مسؤولون عن تقديم شاي الساعة الخامسة..مع البسكويت..لهم ولزوجاتهم وأولادهم..

كان أطفال الإنجليز يترعرعون في الهايد بارك والريتشموند بارك على الزبدة..والكاكاو..وزيت السمك...بينما كان أطفال الهند والصين وسنغافورة،ومالطة،وعدن والسودان،ومصر،لا يجدون الحليب في أثداء أمهاتهم..

 

هذه هي المعادلة اللا إنسانية التي قامت عليها حضارة الغرب.. إنها علاقة

بين العلقة والدم..وبين الشاة وذابحها..والبقرة وحالبها..واللؤلؤة وسارقها)...

 

لقد صدمت الولايات المتحدة الأمريكية من مقاومتنا العربية( قارة الخدم بنظرهم) ومن كمها الهائل ولكن الغريب أنها ما زالت تراهن إذ لم تحفظ مادة التاريخ جيداً ولم تستفد من تجاربها السابقة ولا من تجارب حلقائها،فهي لا تزال تعتبرنا جارية سوداء.. أو baby sitter وظيفتها تسلية أولادهم باصطناع حركات بهلوانية ريثما يعود أصحاب البيت من السهرة.

 

وربما كانت ال بيبي سيتر في أمريكا تحظى باحترام أكثر مما يحظى زعماء المنطقة اليهودية بالكاوبوي وصنائعه وهي أحسن حالاً منهم من حيث مستوى التعامل.. فهي على الأقل تتمتع بحرية التصرف والحركة داخل ا لمنزل الأمريكي فتشاهد برامج التلفزيون،وتقرا الصحف والمجلات،وتشوي قطعة (ستيك)،وتصب لنفسها كاس نبيذ،....وحين يعود سيديها إلى المنزل يدفعان لها الأجر المتفق عليه،ولربما رافقاها في رحلة عودتها إلى منزلها بكل تهذيب ولياقة...

 

اما البيبي سيتر العربية،فوظيفتها الخنوع لأمريكا لوجه الله تعالى،وعلى روح الأجداد...دون الاعتراض ودون أن تتمتع بامتيازات...لان حقها في  ذلك عمل من أعمال الحضارة والتمدن ،والعرب!لا يزالون من أكلةالحبوب!.

 

ولان العراق وقفت وناصرت المستضعفين وقالت لأمريكا لا..فقد قررت أمريكا معاقبتها،ولكنني على قناعة ان الإنسان العراقي الذي اعترض على الكاوبوي الأمريكي سيتغلب عليه بشرف..

 

أن أمريكا لم تكن(زوجنا)لنشعر بعدها أننا أصبحنا أرامل..ولم تكن(أبانا)لنصبح بعد رحيلها – حيث لا ألقت أم قشعم – أيتاما..ولم تكن(صهرنا)لنخشر أن تكون أزماته إن تركنا سبباً في طلاق بناتنا.

 

(4)

 

إن اكبر عاهة من عاهاتنا التي نرجو ألا تكون مستديمة هي هذه التوكيلة 

هي هذه التوكيلة  القاتلة في تفسير السياسة التي تدعي أن بقاء أمريكا في أرضنا سيحمي دويلاتنا..

بأيدينا نحن اوكلنا أمريكا رسم مستقبل هذه المنطقة،ونحن الذين أعطيناهم الصلاحية ليعرفوا عدد شعرات رؤوسنا وحبات رمالنا.ويعرفوا أين نولد وكيف سنموت، أما نحن فاكتفينا ان نكون المتفرجين في المسرحية،نضحك ونبكي و نصفق بإذن،وتارة نقذف الممثلين بالورود..ومرة بالبيض ولم نحاول أن ننتقل من مقاعد المتفرجين إلى صفوف صانعي الأحداث..

 

كل أبطالنا من(بلاد برة)....

وكل النصوص والسيناريو مكتوبة من(بلاد برة) وكل المؤثرات الصوتية وثياب الممثلين من(بلاد برة)..... مجموعة كومبارس وديكور من خشب نحن ليس إلا.....

كل سلوكنا السياسي هو مجموعة من الآفات والسلبيات..سلسلة طويلة(لدفش )مسؤولية الازدهار والتحرر عن ظهورنا،وربطها بأمريكا وقوى خارجية عالمية وإقليمية لا قدرة لنا على دفعها أو ردها.

 

واعتبار الرجل الأبيض شيخ حارتنا.. يذكرني بالأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية حيث كان الناس يربطون كل حوادثهم اليومية بمشيئة القنصل البريطاني بما في ذلك هبوب الريح،وسقوط المطر،وتأخر ظهور أسنان الحليب لديهم،وانتشار جرثومة الملاريا وارتفاع أسعار الأحذية،وسوء موسم البطاطا،وزيادة نسبة مواليد البنات...

 

ويبدو أن هذا المنطق الخنفشاري لا يزال يؤثر في تفكيرنا وممارستنا السياسية،كما يبدو أن القنصل الانجليزي لا يزال يسكن عقلنا الباطني..

 ويجب أن نكف فوراً عن اعتبار أزلام البيت الأبيض شفيعين لنا في الدنيا ويوم الحساب،وإن المقاومة الباسلة التي شهد لها البعيد قبل القريب هي المناسبة النادرة التي لا يتكرر نموذجها كل يوم للتحرر من كل الاستيطان!!(الاستخراب)الذي استوطن نخاعنا الشوكي،فقد أعادت المقاومة المتصاعدة التي تسير اليوم ولكن بخطى حثيثة على منوال مقاومة العشرينات القضية العراقية إلى مسرحها الطبيعي،وأبطالها الحقيقيين،وأكدت ان مفاتيح فلسطين ومفاتيح كلاهما موجودة في جيوب أحرارها ومواسير بنادقهم..

 

أن روح العشرينات يجب أن لا تسقط مرة أخرى،وليس من الصحيح الإعتقاد أن الولايات المتحدة تغيرت إستراتيجيتها في المنطقة وستخرج!! قواتها بعد عام أو أنها إكتشفت خطأها وخيبتها فقررت تغيير إتجاه السفينة ومصادقة العراقيين.. الصحيح،هو أن المقاومة العراقية في لحظات توهجها واكتشافها لذاتها وصلابة عودها،هم الذين سيقلبوا المعادلة ويجبروا الهمجيين على المغادرة بعد أن يحدثوا زلزالاً مدوياً في جسد العالم يقلبوا الأمور رأساً على عقب،وهذه هي اللحظة المواتية كي..تُشتري المستقبل.

 

المهم المحافظة والعض بالنواجذ على هذا الإنسان المقاوم الذي تبرعم من جديد،فالانسان هو الذي يعمر المدن،وهو الذي يقرر في كل لحظة أن يعيد تعميرها.

المهم أن لا تسقط إرادة إنسان الفرات ودجلة لأن الأهم هو إنسانها..

 

وإنسان بغداد كانسان القدس الذي سبح في الدم وما يزال شقيقه الغزي يغرق فيه وإنسان ناكازاغي وهيروشيما..فحسبه لا يزال واقفاً على قدميه..مغروسا في أعماق الأرض كالرمح والوتد..

 

صحيح ان الفاشيين الجدد أكلوا لحم بغداد ولم يتركوا منه سوى كومة عظام،وسرقوا كنوزها وتراثها وأوقفوا نهرها من الجريان وينابيعها من الاندلاق ومنعوا سنابل القمح من الارتفاع،وأبقارها وأغنامها من الحمل والولادة وإفراز الحليب،ودجاجها من التفريخ والتناسل...

 

وصحيح أنهم وضعوا الشمس والأقمار والنجوم والأفلاك في الإقامة الجبرية مدة تسعة أعوام،وفجروا المدارس وقطعوا آذان المآذن بأمواس الحلاقة، ونهبوا إيقونات الكنائس وصلبانها وكنائسها...صحيح أن الحجارة لم تسلم من أذاهم وانتقموا من حجارة بابل ومن كل شجرة، وغيمة عابرة،لكن هذه الأعمال على بشاعتها وانحطاطها حتى على مستوى الجريمة المعقولة !لن تستطيع تحريك نهر التاريخ المتوهج بوصة واحدة عن مجراه الطبيعي...فمن الرماد المحترق ستخرج بغدشيما،وكربلينغراد ...إني أشم رائحة الورد تنبعث من مساماتها...اسمع زقزقة العصافير عائدة الى أعشاشها بعد طول هجرة وغياب...وارى الجداول والينابيع والنخيل تولد من شقوق الأبنية التي نسفت على رؤوس ساكنيها...هل تشمون الرائحة العبقة مثلي؟؟...

لست والله بشاعر متوهم ولست خراصا،فللبطولة رائحة  طيبة تتحدى كل ما تنتجه مصانع. العطور الفرنسية..

 

يا عشاق الأرض ...انتظروا..ستهدون غدا حبيباتكم ورودا حمراء من بساتين بغداد..

والى من أصابهم الخور والهوان بعد الشامة والسؤدد ...لا تبتئسوا فانتم على موعد قريب لمصاحبة الانتصار،كما يقف مسافر ضل سبيله في فلوات الأرض ومجاهله بروضة فيحاء وسط فلاة جرداء عند منقطع العمران، ما إن تخطون فيها بعض خطوات حتى تروا ما شاء الله ان تروا من أنوار بيضاء،وورود حمراء وألوان بهيجة من النبات،مشتبهات وغدران مطردة متسلسلة تنبسط في تلك الديباجة الخضراء تبسط النجوم البيضاء في الديباجة الزرقاءواسراب من الحمائم والعصافير والبلابل والشحارير،تتطاير من فرع إلى فرع ،وتنتقل من غصن إلى غصن،وتجتمع لتفترق متحابة،وتفترق لتجتمع من جديد على الوئام،وتتخاصم تارة، وتتصالح وتتلاءم تارة أخرى،وتصعد حتى تلامس بأجنحتها جلدة السماء،ثم تهبط حتى تصافح صفحة الماء،ولا تزال تغرد في صعودها وهبوطها تغريدا شجي ومختلف النغمات، متنوع وزكي النبرات فيتألف من ذلك الاختلاف والتنوع نغم عذب لا نعرف عن شبيهها إلا تلك التي نتخيلها في نغم الحور الحسان ،في فراديس الجنان...

كأني والله يتمثل ذلك اليوم أمام عيني...فازحفوا إليه زحف المستقتل المستبسل، واعدوا له العدة...

 

الشيخ خالد مهن - رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية - ام الفحم / الداخل الفلسطيني





الاربعاء٠٢ شعبـان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٤ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الشيخ خالد مهنا نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة