شبكة ذي قار
عـاجـل










أكد البعث منذ المرحلة التأسيسية- أي قبل الاعلام الرسمي عن تأسيسه- ان العمق الفكري في فهم العروبة يأتي من خلال الاكتشاف الحقيقي للإسلام، فكانت فلسفة الفكر القومي للبعث تنطلق من أن الإسلام احد أهم مقومات الأمة، وتطور هذا الفهم العميق للاسلام وعلاقته بالعروبة الى ان الامة العربية هي امة الاسلام، فالقائد المؤسس أحمد يوسف عفلق يقول في اربعينيات القرن العشرين (بدافع من الحب للامة العربية احببنا الاسلام). ولكنه في سبعينات القرن الماضي يقول: (وبعد أن اقتربنا أكثر من فهم الاسلام، أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للاسلام، وفي كون الأمة العربية هي أمة الاسلام).


انا كبعثي عشت مرحلة التحول الفكري في فلسفة البعث ونظريته الفكرية، في فترتي الدراسة الاعدادية والجامعية في بغداد قبل ثورة 17تموز 1968وبعدها، كان تثقيفنا الرئيسي ينطلق من التقرير السياسي للمؤتمر القومي السادس وادبيات الحزب البسيطة، وكان فيه كثيرا من الصعوبة بالفهم علينا نحن الشباب في ذلك الحين، فقراءاتنا المتعددة والمتنوعة كانت تثير فينا اسئلة كثيرة عن حقيقة الاختلاف بين ما نجده في كتابات الماركسيين وبين ما نجده في كتابات القوميين العرب، خصوصا كتابات القائد المؤسس، ماذا تعنى الاشتراكية العربية؟ وبما ان الاشتراكية منهج علمي كيف يكون هناك اختلاف بين الاشتراكية العربية والاشتراكية العلمية التي تبناها الفكر الماركسي والنظرية الشيوعية؟ ما معنى العلمانية؟ ماذا يعني المشروع القومي الاشتراكي العلماني؟ كيف يرفض الحزب الالحاد ويناهض الشيوعية فكريا؟ ما موقفنا من الاحزاب الدينية؟ وكان رفاقنا المسؤولين عن تثقيفنا لا يستطيعوا الاجابة بوضوح شاف لتساؤلاتنا الكبيرة، فلم يكن الجميع على مستوى تعليمي وفكري قادر على تحليل فكر الحزب بشكل واضح، كانوا يعدونا أن يحضروا لنا الاجابة لاحقا عندما يرد جواب مكتب الثقافة في الحزب على ما نطلبه من اجابات،وجاء الانشقاق عام 1966ليضيف ضبابية اكبر على فهمنا الفكري لفلسفة الحزب القومية، خصوصا عندما بدأوا المراهقين السياسيين والمتطلعين للسلطة، يطرحوا قضية اليمين واليسار في الحزب واعتبار جناح الحزب الشرعي يمينيا، فعانينا كثيرا، وكنا نواجه هجمة شرسة من جهات متعددة:


1. الاحزاب الشيوعية في الوطن العربي، والتي كان انضجها وافضل مفكريها يعتبرون البعث مرحلة من مراحل التطور سيكون مآله ليكون جزءا من الماركسية في مراحل التطور الحتمي، وان الفكر القومي الذي يطرحه البعث ما هو الا مرتبطا بمرحلة التحرر والاستقلال الوطني.


2. التيارات الدينية الاسلامية، التي تعتبر الدين بمنهجهم الضيق الافاق والذي يجعل دين عسر وتنفير للشباب وحالة انغلاق غير قابلة لاستيعاب التطور الفكري والعلمي والاجتماعي، ويعتبروا الالتزام بالنصوص الحرفية اساس العودة الحقيقية للعرب الى طريق التحرر، وتعتبر البعث صورة وغطاء للفكر الالحادي الشيوعي، وتسترا من مواجهة الدين للفكرالالحادي، وان الفكر القومي هو فكر عنصري يناهض الدين الاسلامي في تشريعه.


3. التنظيمات الحزبية الدينية والتي تعتبر البعث فكرا اوربيا تخلى عن الدين وتأثر بالعلمانية الغربية، وانه وجه من وجوه العدوان على الاسلام ومحاولة لتقويض الايمان بين الشباب العربي، خصوصا الاخوان المسلمين وبعض التنظيمات الجديدة مثل الفاطميين (الدعوة لاحقا) والتحرير وغيرها من الاحزاب الدينية، التي تعتبر اي حزب لا يطبق الشريعة بحذافيرها كما هو السلف السابق كفرا وخروجا على احكام الشريعة.


4. تنظيم المنشقيين عن الحزب، والذين اغرتهم الماركسية والشيوعية في طروحاتها وكذلك بعض القوميين العرب الذين انحرفوا بالفكر القومي نحو الماركسية والاشتراكية العلمية، التي تناقض ديننا وتراثنا، وضاعوا بين القومي والماركسي.


ظلت هذه التساؤلات تطرح نفسها بقوة علينا وفي عقولنا، حتى كان أول لقاء مباشر بيننا وبين مفكري الحزب في معسكرات العمل الشعبي في ابي منيصير والخالصة، فقد التقينا القائد المؤسس وبعض من مفكري الحزب وطرحنا عبر الندوات التي تمت خلال تلك المعسكرات بعض مما كنا نريد أن نعرفه عن نظرية حزبنا وفلسفته الفكرية، وكان أكبر جواب لكل تساؤلاتنا جواب القائد المؤسس، البعث ليس حزب نظرية كاملة ولا فلسفة معينة، بل انه حزب قومي ايماني يعتبر الرابط بين الاسلام كدين وثورة وبين العروبة كامة هو اساس تكوينه الفكري، وان نظريته ستتكامل من خلال النضال اليومي وما هذه التجربة التي تكتبوا صفحاتها بفعلكم الحالي الا اغناءا لنظرية الحزب، كنا نرى الاسلام من خلال العروبة واليوم نرى العروبة في الاسلام، فالمرحوم احمد يوسف عفلق مؤسس البعث ورد في حديث له مع مجلة افاق عربية الصادرة ببغداد في ايلول عام1976: (في قراءة جديدة للاسلام، كشفت لنا حقائق اساسية في روح شعبنا ونفسيته، واضاءت لنا طريق العمل الثوري .. وثمة واقع ذاتي، جاء في الوقت نفسه تعبيرا عن واقع موضوعي. الواقع الذاتي: هو انني شخصيا، في بداية تكوين الحزب اكتشفت الاسلام. أقول اكتشفت، ولا أعني أنني لم أكن اعرف الاسلام .. فقد كانت هناك ألفة منذ الصغر .. اكتشفت الاسلام كثورة .. كتجربة ثورية هائلة، وقرأته قراءة جديدة من هذا المنظار .. في أنه: عقيدة، ونضال في سبيلها .. وقضية هي قضية الامة، وقضية الانسانية .. بل انه قضية امة بتصور انساني أوسع)، هكذا ربط البعث ومؤسسه أحمد يوسف عفلق العروبة بالاسلام.ويضيف في نفس اللقاء (ان المسلم لا يكتشف الاسلام .. وكذلك البعيد عن الاسلام. الذي يكتشف، ينبغي أن يجمع بين الاساعداد النفسي وبين الجدّة .. أي ذلك الذي لم تضعف العادة والالفة حساسية عينيه واذنيه .. فالمسلم الذي نشأ في بيت مسلم من طفولته، واعتاد دوما سماع الكلام عن الاسلام، يتكون عنده نوع من الضعف في رهافة الحس والذهن، فلا يرىالجديد في هذا الكلام، ولا يدرك المعنى العميق والهزة الروحية، كما يحصل حين يهزك الكلام الذي تسمعه لاول مرة) مجلة افاق عربية عدد ايلول 1976.


ويعود القائد المؤسس ليوضح منشأ الفكر البعثي في خطابه بكناسبة ميلاد الحزب 7نيسان عام 1977بقوله: ( بالنسبة الى بذور فكرة البعث، التي كانت ارض سوريا العربية موطنها الاول .. كانت بداية لقائين حاسمين في أثرهما العميق: لقاء مع الفكر العلمي العقلاني التحرري الحديث، ولقاء مع الاسلام العربي ورسوله الكريم، لقاء الحب والاعجاب والانتماء الحميم) في سبيل البعث الجزء الثالث خطاب القائد المؤسس في 7/4/1977.


ان اكتشاف القائد المؤسس للعلاقة بين العروبة والاسلام هو الذي ميز المشروع الفكري والبرنامج العملي للبعث العربي الاشتراكي، فابعده عن الفكر القومي الشوفيني المنغلق والمناهض لمبادئ الدين، التي تعتبر البشر متساويا وخيرهم عند الله اتقاهم، وعن الليبرالية الغربية العلمانية الرافضة للدين من خلال الفصل الكامل بين الدين والدولة، وعن الماركسية الشيوعية الكافرة بالدين والتي تعتبر الدين افيون الشعوب، حتى وصل الفهم البعثي للعروبة انها جسد روحه الاسلام (لذلك لم يكن غريبا ان يعود الحزب بين الحين والآخر ليؤكد على من منطلقاته الاساسية التي لم تعطى الاهتمام الذي تستحقه، ولم يستخرج منها العبر الكامنة فيها، كالموقف من التراث والاسلام).


يقول القائد المؤسس ( نحن مهددون بأن تحل المادة محل الروح، وأن يحتل الالحاد مكان الايمان، والانفلات محل الاخلاق، اذا لم يعي الشباب مسؤوليته الخطيرة، وهي في أن يعطي المفاهيم الروحية والقيم السامية معناهاالحقيقي حتى تعود الروح فتسيطر مرة اخرى على الواقع وتفهمه وتستجيب لضروراته. فاذا ارجع الشباب الى هذه القيم الروحية معانيها الاصيلة الحقيقية أنقذ امته من اخطار العقلية المادية التي تهددنا في أخلاقنا وحيويتنا وحرية فكرنا وأفرادنا، كما تهددنا في قضيتنا القومية)، في سبيل البعث صفحة 134/دار الطليعة/ بيروت 1974 (معالم الاشتراكية العربية).


وفي خطابه في ذكرى الرسول العربي في نيسان عام 1943م يؤكد القائد المؤسس على ان الايمان كونه طريق البعثيين لمواجهة العبئ الثقيل والتحديات الكبيرة التي يواجهونها، فيقول: (لايفهنا الا المؤمنون، المؤمنون بالله.. اننا نؤمن بالله، لاننا في حاجة ملحة وفقر اليه عصيب. فعبئنا ثقيل، وطريقنا وعر، وغايتنا بعيدة)، في سبيل البعث صفحة 134/دار الطليعة/ بيروت 1974( في ذكرى الرسول العربي( .


ويؤكد (لقد ظهر البعث في حياة العرب الحديثة، وفي وسط الجمود والجحود والانحلال، حركة ايمان عميق، تستقطب النفوس النقية السليمة .. فنشوء البعث العربي انما هو دليل ساطع على الايمان، وتوكيد للقيم الروحية التي ينبع منها الدين .. وقد دعا البعث العربي الى مفهوم جديد للحياة القومية، والحياة بصورة عامة، قوامه الايمان بالقيم الروحية الانسانية، وبقيمة الروح العربية الاصيلة، ومضهره الانفصال الحاسم عن مفاسد الواقع ومكافحتهافي طريق صاعدة شاقة تسير فيها الامة ببطئ وجهد نحو الاتصال بروحها من خلال الصراع الدامي بينها وبين واقعها.لذلك لم يبق في مفهوم البعث العربي مجال لأي تدين لايحمل هذا الايمان المثالي. والبعث العربي، الذي هو جركة روحية ايجابية، لايمكن أن يفترق عن الدين او يصدم معه، ولكنه يفترق عن الجمود والنفعية والنفاق .. فصفة الايمان، هي التي فرضت عليه الاصدام بجميع الحركات التي تنكر الايمان، أو تتستر بايمان سطحي زائف)، في سبيل البعث الجزء الاول (العرب بين ماضيهم ومستقبلهم).


ويؤكد القائد المؤسس على اهمية الدين والاسلام بشكل خاص وانه مصدر فكر البعث والاخلاقياته بقوله: (نحن شعب مسلم، تراثنا ليس للماضي فقط ، وانما هو نور وضوء على المستقبل، ومنه نستمد المثل والمبادئ الانسانية والاخلاقية، منه نستمد الروح والنظرة الى الانسان بوجه عام. في سبيل البعث جـ5(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية تتصل بأعمق مبادئ حزبنا الثوري23/10/1974.


سؤل القائد المؤسس عن الاسلام كتراث للامة، فاجاب: (نعم .. هو تراث.. لكنه حي في هذا العصر أكثر من اي شيء آخر، عصري، ومستقبلي أيضا، لأنه خالد، يعبر عن حقائق أساسية خالدة ... وما دامت الأمة العربية على هذه البسيطة، فالاسلام هو التراث الروحي، وهو المحرك لها، هو ملهمها، هو مرجعها الروحي، وهو الحركة الثورية المثلى..)، في سبيل البعث جـ3 (أصالة الامة قوة متجددة) 19/1/1976.


هذا العداء الغربي للاسلام، هو الذي جعل الغرب يوجه جهودا كبيرة – ضمن غزوه الفكري- لمحاولات اعاقة التجديد الاسلامي، الذي يجدد هذه الحضارة ذات الامكانات العالمية المنافسة لحضارته الغربية .. انه عدو الاحياء العربي والتجديد الاسلامي، بينما لايؤرقه ولا يقلقه التدين الشكلي، أو ذلك التفسير الافرنجي للاسلام) ... ان اوربا التي تخاف على نفسها من الاسلام .. نراها تصادق الشكل العتيق للاسلام وتعاضده. فالاسلام الاممي، الذي يقتصر على العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة، آخذ بالتفرنج، ولسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون انفسهم المدافعين الوحيدين عن الاسلام، ويضطرون لأن يبعثوا فيه معنى خاصا اذا ارادوا أن يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء..) في سبيل البعث(في ذكرى الرسول العربي) عام1943.


هذه هي رؤية البعث للاسلام كدين .. وكثورة عظيمة .. وكهزة ايجابيةعميقة للروح العربية، للتعبير عن انسانيتها وابداعها .. وكعقيدة ومنهج للامة العربية، لإعادة وحدتها وبعث قيمها وقدراتها، لتواصل واجبها الرباني بدعوة البشرية لفعل الخير وقيم الانسانية ورفض البغي والعدوان.

 

 





الخميس١٠ شعبـان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٢ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سعد ابو رغيف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة