شبكة ذي قار
عـاجـل










إنها النشأة البسيطة المتواضعة الصحية، العميقة الصلة بحالة الأمة وظروفها الصعبة القاسية، ظروف الاستعمار الأجنبي والاحتلال، والتي تبدأ بمقاومة الاستعمار بشكل حاسم، ومهاجمة ركائزه من زعامات كانت تقبل بالمساومات والتسويات.


إنها النشأة النضالية التي تجسد المبدئية التامة والنضال الصلب العنيد، والروح الوطنية التي بقيت والتي ستبقى في البعث على رأس الفضائل، والتي تعبر عن التعلق ألصميمي بقضية الأمة، والإيمان بحقها في الحرية والاستقلال والنهضة، وان يكون لها دورها الإنساني إنها النشأة الفكرية التي طرحت أفكارا ذات صلة حية بخط النهضة العربية الحديثة، إلا أنها سجلت خطوة نوعية متقدمة بحكم نضج الظروف الذاتية والموضوعية، في الفترة التي ظهرت فيها حركة البعث. إنها النشأة الشعبية الاجتماعية التي ربطت تلك الأفكار بمصلحة وتطلع العدد الأكبر من أبناء الأمة. إنها الانطلاقة التي رأى فيها الشعب مكملا لنضاله الوطني وطموحه القومي، والتي اعتمدت على الطلاب والشباب المثقف، كرسل يحملون إليه أفكارها، بحرارة وصلابة وعنفوان كانت الحركة الوطنية التقليدية قد افتقدتها إلى حد ما.


إنها المعاناة الشاملة التي أوصلت الأشخاص الذين بدئوا هذه الحركة، إلى قرار مصيري في حياتهم وفي حياة أمتهم. إنها الولادة التاريخية في الظروف القومية الصعبة، التي أكسبت البعث القدرة على ترويض الصعوبة وتحويلها إلى عوامل تصليب وتعميق للنضال والصبر واكتساب الفضائل الجديدة، بعمل تاريخي طويل النفس، بعيد الأهداف. كما أنها من جانب آخر أعطت للحزب وجودا موضوعيا كحركة تاريخية، تصب في مسيرتها جهود لا تحصى: جهود الجنود المجهولين المناضلين من أبناء الشعب والأمة.


ولم يكن التصور القومي للبعث منفصلا عن الصلة الحية بالتراث الروحي والحضاري للأمة العربية، فإلى جانب العلاقة الموضوعية بين العروبة والإسلام، التي كانت إحدى الركائز الأساسية التي قام عليها فكر البعث.. قامت علاقة ذاتية وجدانية مصيرية بين البعث والإسلام، نبعت من مصدر أساسي، ومنطلق مكمل للمنطلق القومي، هو حب الشعب والأمة.كما أنها جاءت نتيجة للتصميم على الاضطلاع بالمسؤولية القومية. وقد أصبحت هذه العلاقة أهم محرك وملهم ومميز لحرب البعث.


كان لابد للبعث أن ينطلق من هذا الشعور النفسي الوجداني، من حب الأمة وحب الشعب، والتجرد التام في حمل المسؤولية القومية وأهداف الأمة. هذا المنطلق الذي يفسر اليوم سر الصمود التاريخي للحزب، رغم كل المصاعب التي واجهها ورغم الهجمات والافتراءات والمؤامرات.


ولقد تسلح البعث منذ بدايته بهذا الدافع، دافع الحب للأمة، والمراهنة على الصعوبة، واستخلاص كل ما تنطوي عليه الصعوبة من عبرة وحافز، ومن حكمة ومن إيحاء بضرورة الصبر والتعمق والمراجعة والنقد الذاتي، والامتزاج دوما في حياة الشعب وروح الشعب مع تفاؤل وإيمان وثقة عميقة ومتجددة بأصالة الشعب وبطيب معدنه، وسلامة حسه، وباستعداد الأمة للانبعاث الحقيقي، أي للتعرف على الجوهر، والتغلب على المظاهر البراقة والسطحية الخادعة.


وبهذا السلاح، انتصر البعث على الصعوبة وامتلك النفس الطويل، وظل واثقا ومؤمنا بان حقيقته لا بد وان تنجلي مهما يطل الزمن، وحتى للذين عادوه وقاوموه وحملوا له الكراهية، لان تعامل الحزب مع السياسة ومع الأحداث والزمن كان تعاملا استراتيجيا، وبأفق الحركات التاريخية، وبمستوى أخلاقي لم يعد مألوفا في العمل السياسي.


فالصدق والتعلق المصيري بقضية الأمة، والإخلاص في البحث عن الأفكار المؤهلة لا تسهم في نهضتها وفي إنقاذها، وتلمس الطريق إلى هذا الإنقاذ بإخلاص العالم للحقيقة، قد جعل نشأة البعث تتسم بالأخلاقية والتفاني في العمل لمصلحة الأمة ونهضتها وبناء مستقبلها.


لذلك كانت أفكار الحزب في تطور مستمر.. وكان نضال الحزب ينتصر على الصعوبات. فالفكر المتحرر العلمي والتقدمي، والشعور النفسي الوجداني، والموقف المصيري، والنظرة الواقعية العقلانية.. هي المطلقات الأولى للبعث، التي نبعت منها الأفكار واسترشدت بها مسيرة النضال، هي التي أسبغت الطابع الحي والأخلاقي على الفكر والنضال، وجعلت من تاريخ الحزب مسيرة متجددة للصمود والاستمرار. فنضال البعث لم يكن مجرد عمل سياسي أو فكري أوصل إليه المنطق أو استقراء التاريخ أو استشعار الحاجة الظرفية، ولم يكن تقريرا لحقيقة نظرية، بل كان معبرا عن رؤية، وعن علاقة حب وتفاعل، وأمل وتفاؤل، بان يتجدد فعل الإسلام كروح ثائرة مجددة ومبدعة في الحياة العربية الحديثة، من خلال النضال الصادق، ومواجهة تحديات الواقع العربي الممزق المتخلف، وتحديات العصر.


كان اكتشافا ولقاء حارا وحيا. ولقد طبعت هذه الرؤية ولونت أفكار الحزب كلها، ونضاله الطويل. ولقد كان الحزب دوما على ثقة تامة بان ضمير الشعب متجاوب معه، وان الزمن يعمل لمصلحة جلاء الحقيقة بكل صدقها ونصوعها، وان الفكر القومي يتقدم، لان حقيقته تزداد جلاء ولان خصومه ينفضحون.


فالفكر القومي الحديث، نشأ في ظروف الصدمة مع الغرب الاستعماري، وخرج من حركة التجديد الإسلامي، ومن تطور الوعي للهوية القومية، وأصبح هو المسئول عن حياة الأمة، وهو الممثل لها. لان الفكر القومي استلهم الإسلام كثورة روحية قومية وإنسانية وخلقية، كما استوعب حاجات النهضة المعاصرة للأمة.


فإذا كان الجيل الأول الرائد للنهضة العربية، قد عالج المشكلة القومية قبل أكثر من قرن، من منطلق إسلامي إصلاحي عام، فان القومية العربية، التي هي نتاج التطور التاريخي، قد أكدت على العلاقة الحميمة بين العروبة والإسلام، وقطعت الطريق على الانحراف بالفكر القومي نحو (العلمانية) بمفهومها الغربي، التي تهمل التراث، و(العالمية) المجردة التي تتجاهل خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام،. فالإسلام هو الذي حفظ العروبة وشخصية الأمة في وقت التمزق والضياع وتشتت الدولة العربية إلى طوائف والى ممالك ودويلات عدة متناحرة، وكان مرادفا للوطنية وللدفاع عن الأرض والسيادة، والداعي إلى الجهاد أمام العدوان والغزو الأجنبي, وسيبقى دوما قوة أساسية محركة للنضال الوطني والقومي. وهو الذي خرجت من صلبه، ومن حركة التطور التاريخي فكرة القومية العربية بمفهومها الإنساني السمح، وهو الذي يحيط الأمة العربية بسياج من الشعوب المتعاطفة معها.. بسب هذه العلاقة، التي يمكن أن توظف في قضايا التحرر وفي معارك التحرير.


فالفكر القومي الذي طرحه البعث،كان يؤكد منذ البداية: أن هذا العامل ألصميمي المندمج في نسيج الأمة، وفي تاريخها، وفي حيتها اليومية، لا يصح أن يتناول من زاوية الموقع الحيادي النظري السياسي، وان الشيء الطبيعي أن يكون انفتاح التيار القومي على الإسلام موقفا فيه الحرارة والحنين، والغيرة والحرص والاعتراف بالفضل، وبما يشكله الإسلام من ضمانة مصيرية لقوميتنا ولمستقبلنا كأمة. ومن هذا المنطلق، يستطيع التيار القومي أن يحاور التيار الديني المتجرد الوطني، حوار الحب والعقل، في الوقت الذي يفضح فيه الحركات الانتهازية والغوغائية والشعوبية المتسترة بالدين، ويعري زيفها وتآمرها، وهو واثق أن ضمير الشعب سيكون إلى جانبه، وسوف يتجاوب معه، لان هناك حقيقة تؤكدها الأحداث ومسيرة النهضة العربية، وهي أن الاتجاه القومي قد أوصلت إليه مراحل التطور كمعبر عن روح الأمة، وعن خلاصة تجربتها القومية الحضارية منذ ألف سنة، وكصيغة علمية واقعية تضمن للأمة انطلاقها في طريق التجدد والتقدم، مع احتفاظها بأصالتها وجوهر تراثها. وهي صيغة مستوعبة لكل ما هو ايجابي ومفيد في الحركات التي تستند إلى التراث.

 

 





الاثنين٠٤ شوال ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٣ / أيلول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب زيد احمد الربيعي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة