"العمل في السياسة مثل العمل كمدرب فريق كرة قدم، ينبغي على المرء أن يكون ذكياً بما يكفي ليفهم اللعبة، وغبياً بما يكفي للاعتقاد بأهميتها". هذا التعليق الساخر للسياسي الأميركي يوجين مكارثي قد يصور المفارقة ما بين لعبة ولاعبي "الأهداف الإنمائية للألفية" التي جرت خلال الأيام الثلاثة الماضية في مقر الأمم المتحدة في نيويورك. تدور اللعبة التي شارك فيها زعماء 140 بلداً حول "برنامج العمل لبلوغ الأهداف الإنمائية للألفية" الذي أعلنته "القمة الإنمائية الأولى للألفية" عام 2000، ويفترض أن تتحق الأهداف قبل موعد "القمة الإنمائية الثالثة للألفية" عام 2015. وخلال 15 عاماً يتغير المدربون، لكن اللعبة لا تتغير، ذلك لأنها اللعبة الكبرى للبشرية في التاريخ. واليأس العبثي في قمة نيويورك قد يكون الثمن الذي يدفعه العالم لاستحالة تحقيق الأهداف في موعدها المحدد. وفيما يلي سطور عنها وردت في تعهدات زعماء الدول، الذين يُشك في قرائتهم نصها المعقد في 14 ألف كلمة.
 
 تمثل الأهداف الإنمائية للألفية تتويجا لعدة مؤتمرات قمة عقدتها "الأمم المتحدة " بشأن التنمية المستدامة، والتعليم، والأطفال، والأغذية، والمرأة، والسكان، والتنمية الاجتماعية.و وُضعت هذه الأهداف القابلة للقياس كمياً وزمنياً لمعالجة الفقر المدقع والجوع والمرض، ولتعزيز المساواة بين الجنسين، وللتعليم، والاستدامة البيئية، وهي تجسيد لحقوق الإنسان الأساسية، كالحق في الصحة الجيدة، والتعليم، والمأوى، والشراكة العالمية من أجل التنمية، والمساءلة في مجالات تخفيف الديون، والعون الإنمائي، والتجارة، والحصول على التكنولوجيات. وتوفر الأهداف الإنمائية للألفية إطارا تاريخيا للتركيز والمساءلة في النزاعات المسلحة سواء بين البلدان أو النزاعات الأهلية، وتولي أهمية حاسمة لما يحدث بعد التوصل إلى حلول للنزاعات، والتي ينبغي أن تشمل تعزيز سيادة القانون والعدالة والأمن، وتنفيذ استراتيجيات الحد من العنف المسلح، وتقديم دعم مبكر للإنعاش الاقتصادي، وإعادة بناء القدرات، وإقامة مؤسسات ديمقراطية.
 
 وقد تحققت نتائج مختلطة خلال العشر سنوات الماضية، حيث قللت الصين معدلات الفقر ونقص التغذية إلى النصف، وحققت ذلك أيضاً إثيوبيا ومصر وأنغولا، ولم تحققه الهند بعد، لكن يتوقع تحقيقه عام 2015. ويعتبر "معهد ما وراء البحار للتنمية" الإصلاحات الهيكلية في العلاقات بين الدولة والأعمال في أقطار أفريقية عدة مفتاح النجاحات المتحققة. فمصير الأهداف الإنمائية للألفية كمصير "الأمم المتحدة" معلق بأيدي الناس، وعندما نراجع أرقام التقارير الميدانية نجد أن الناس؛ أفراداً وأسراً حققوا نتائج ملموسة بجهودهم المستميتة لتحسين أوضاعهم المعيشية، وطموحاتهم القوية في توفير الصحة والتعليم لذريتهم. لكن تقرير الأمين العام للمنظمة الدولية حول "التقدم المحرز في تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية" يخلو من قصص نجاحات حققها الناس بالألم والأمل والكدح، وفي مواجهة مجتمع دولي غير مبالٍ وقاس في العادة، وظالمٍ ومعتد غالباً، ووحشي وفتاك أحياناً.
 
 وأبطال أحسن القصص أكثر الناس فقراً؛ سكان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الذين نجحوا خلال العقدين الماضيين في تحسين مجال صحة الطفل، ومعدلات القيد في المدراس الابتدائية، والحصول على المياه النظيفة، وعلاج فيروس نقص المناعة، ومكافحة الملاريا والسل وأمراض المناطق المدارية المهملة، وسجلوا "أكبر التخفيضات في العالم في عدد الوفيات الناجمة عن الحصبة" حسب تقرير "معهد دراسات التنمية" الذي يذكر أن ثلاثة أرباع أفقر البلدان يعيشون حالياً في بلدان متوسطة الدخل، كالهند ونايجيريا. ويُتوقع تحقيق هدف خفض نسبة المحرومين من المياه النقية إلى النصف في الموعد المحدد عام 2015. ويعزز التفاؤل أنهم يحققون نتائجاً مؤثرة على الرغم من المعدلات العالية لنسلهم. فالحب جائزة المحرومين.
 
 وحقق سكان بلدان منفردة نجاحات تُخجل "الدول المانحة". سكان غانا على سبيل المثال خفضوا خلال الفترة منذ عام 1990 معدلات فقر التغذية بنسبة 75%، والإثيوبيون خفضوا معدلات الجوع من 71% إلى 40%، والفييتناميون الذين دمرت "القوة المانحة العظمى" البلد فوق رؤسهم في القرن الماضي حققوا نجاحات لا مثيل لها في العقد الأول من هذا القرن، حين خفضوا نسبة الذين يعيشون على أقل من دولار يومياً من الثلثين إلى الخُمس، وقللوا إلى النصف عدد الأطفال الذين يعانون من الهزال، وخفضوا معدل الذين يموتون قبل سن الخامسة من 56 بالألف إلى 15 بالألف.
 
 وسيحقق ذلك العراق عندما يتحرر من "القوة المانحة العظمى" التي حولته إلى مختبر ميداني لأسوأ معدلات هدر الموارد، والفساد، والعنف المسلح، والتشريد، وانعدام المشاركة، والإقصاء لأسباب طائفية. عالم الاقتصاد الأميركي جوزيف ستيغليتز يراجع في مقاله بعنوان "الكلفة الحقيقية لحرب العراق" تقديراته السابقة في كتابه المشهور "حرب الثلاثة ترليون دولار". حسابات الترليونات التي أجراها ستيغليتز تجاوزت حدود إدراكنا "البشري"، وجعلت 50 مليار دولار، كلفة الحرب التي قدرها بوش نكتة سقيمة. وفي حساباته الجديدة يخبرنا "اليوم إذ تنهي الولايات المتحدة قوتها القتالية في العراق يظهر أن تقدير الثلاثة ترليون دولار كان منخفضاً جداً". وأظهرت مراجعته أن نفقات تشخيص، وعلاج، وتعويض المجندين الأميركيين أعلى من المتوقع، ولم تشمل تقديراته السابقة "ما كان يمكن أن يحدث"، أو ما يسميها علماء الاقتصاد "كلفة الفرص"، ومنها على سبيل المثال ارتفاع أسعار النفط من 25 دولار للبرميل قبل الغزو إلى 140 عام 2008، وتراكم ديون الولايات المتحدة التي ارتفعت من 6 ترليونات دولار عام 2003 إلى 10 ترليونات عام 2008. ورغم تعقيد الأزمة المالية العالمية فإن لحرب العراق دوراً فيها، حسب ستيغليتز الذي شغل مسؤليات كبيرة في "البنك الدولي". لكن عندما يتعلق الأمر بحساب الكلفة بالنسبة للعراقيين فالبحث في مقاله "كأعمى في غرفة مظلمة يبحث عن قبعة سوداء لا وجود لها هناك"، كما يقول المثل الإنجليزي. فالعراق حتى بالنسب لستيغليتز، الحاصل على جائزة نوبل بالاقتصاد مختبر ميداني لا يملك سكانه حقوق حيوانات الاختبار.
 
 "الحياة حلم، لكن الأحلام أحلام". اغرورقت عيناي بالدموع عندما استهل الزعيم الكوبي فيديل كاسترو خطابه في "القمة العالمية للتنمية الاجماعية" التي وضعت عام 1995 أساس القمة الألفية الحالية. كنت أقوم بالتغطية الصحفية من مقر القمة في العاصمة الدانمركية كوبنهاغن، ولا أدري إن كان سبب انفعالي خطاب كاسترو المشبوب العاطفة عن مليار جائع يبيتون دون طعام يومياً، أم السبب حرارتي المرتفعة، وأوامر طبيب القمة بأن لا أغادر غرفتي، وأتابع الوقائع عبر التلفزيون الداخلي، أو سبب الدموع ربما تقرير "منظمة الطفولة" (اليونسيف) في القمة الذي اختتم بعبارة مقتبسة من الفيلسوف الإيرلندي جورج برناردشو "الحياة ليست شمعة بالنسبة لي، بل مشعل رائع أحمله لحظة، وأريده أن يحترق بأكثر ما يمكن من التوهج قبل أن أناوله إلى الأجيال القادمة".