لم يكن عبد الكريم قاسم يثق بأي جهة ،، حتى الشيوعيين الذين دعمهم وسار خلف ركابهم كان يخشى أنقلابهم عليه فيما لو سنحت الفرصة لهم ،، ولذلك كان يقص أجنحتهم كلما طالت ،، فلا يمنحهم الحرية الكاملة ولا يقضي عليهم ،، مكتفياً بالشراكة التي جمعتهم ،، فهو يريدهم قوة تحمية وقاعدة تدعمه ،، وأدوات يستخدمها عند اللزوم لضرب أعداءه ،، وهم بحاجة لنفوذ وحرية حركة للقضاء على أعداءهم ،، لكن عبد الكريم قاسم أنقلب عليهم وقدمهم للمحاكم بتهمة مجازر الموصل وكركوك ،، والسؤال الذي يطرح ،، لماذا تخلى قاسم عن الشيوعيين؟!.

هناك ثلاث أمور مهمة تزامنت مع أنقلاب عبد الكريم قاسم على الشيوعيين ،، الأول ،، بعد مجاز الموصل وكركوك نشرت جريدة (أتحاد الشعب) التابعة للحزب الشيوعي نداء لمشاركة واسعة بالحكومة ،، محددة باربع وزارات من ضمنها الداخلية ،، وذلك ثمناً لدورهم في تلك المجازر!!،، هكذا مطلب يثير مخاوف قاسم ويتوجس منه خيفة ،، فهو يخشى أن ينقلب عليه الحزب الشيوعي ويطيح به ،، خصوصاً ،، وأن أبواب الشيوعية السوفيتية أو الشيوعية الماوية الصينة التي تبحث عن حلفاء في المنطقة ستكون مشرعة أمام الشيوعيين في العراق لطلب الدعم !!،، لذلك تنصل عن المسؤولية في مجازر الموصل وكركوك وحصرها بالشيوعيين!!،، وبنفس الوقت ،، مطلب الحزب الشيوعي في المشاركة بالحكومة أغضب المعسكر الغربي،، فصرح (آلان دالاس) مدير وكالة المخابرات المركزية الإمريكية أن في حينها "إن الوضع في العراق هو أخطر ما في العالم اليوم"،، وهذا هو الأمر الثاني ،، فعبد الكريم قاسم لم يكن يريد زيادة حنق الغرب عليه ،، خاصة وأن أمريكا وبريطانيا ومعهم إيران ،، تحركوا ضد الشيوعيين في العراق من خلال تنظيم أسلامي ظهر على الساحة بقوة يحمل أسم (حزب الدعوة) ،، وهذا هو الأمر الثالث ،، والسؤال الذي يطرح نفسه ،، ماعلاقة ظهور حزب الدعوة بإنقلاب عبد الكريم قاسم على الشيوعيين؟!.

بعد أشتداد الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي ،، وأنتشار الشيوعية بشكل ملحوظ ،، أسس أرنست بيفن (وزير الخارجية البريطانية) إدارة سميت (إدارة البحوث الدولية) ملحقة بوزارته ،، وكانت الفكرة هي القضاء على الشيوعية بدحضها باستخدام الميل الإيجابي للمسيحية  ،، حيث أن قوة المشاعر المسيحية في أوروبا لا بد أن تقدم أيدولوجية مناقضة للفكر الشيوعي!!،، أي ضرب الفكر المادي بالفكر الديني ،، ومن نفس المنطلق ،، طبقت الفكرة في العراق لمواجهة الفكر الشيوعي ،، فطرق شاه إيران باب عائلة الحكيم في النجف لتكليفهم بالأمر ،، فبدأ العمل على وضع حجر الأساس لتنظيم حزب الدعوة بعد 14 تموز 1958 (وليس عام 1957 كما يروج له) ،، وكان الرجل الأول في التنظيم والذي جمع تشكيلته الأولى (النواة) هو مهدي محسن الحكيم ،، بإشراف إيراني مباشر ومباركة غربية ،، ولم يكن غياب محسن الحكيم (المرجع العام) عن الصورة إلا  لمجرد فصل التنظيم عن المرجعية الدينية ،، لكن من خلف الكواليس كان محسن الحكيم هو الأب الروحي للتنظيم والمرجع العام له ،، ولهذا عندما بدأ التنظيم عمله باستهداف الفكر الشيوعي كان لمحسن الحكيم دوراً كبير لعبه بأصداره فتوى تكفير الشيوعيين الشهيرة!!،، ولاشك أن ظهور حزب الدعوة بمنهج أسلامي بات يهدد مستقبل الحزب الشيوعي المنفتح والمؤمن بالمادية ،، فمن المؤكد أن هذا أنعكس سلباً على القاعدة البشرية للحزب الشيوعي ،، التي كانت تدعم عبد الكريم قاسم ،، وبالتالي فأن حزب باتت قوته مهددة بالتراجع أمام قوة التيار الأسلامي ،، والتي ستؤثر حتماً على قاعدته ،، لم يعد ذو منفعة لمن يطمح بالعون منه ،، وهذا يفسر توجه عبد الكريم قاسم نحو التيار الأسلامي والمرجعية الدينة لما بان لها من قوة ،، وحتى يضع حداً لما كان يتردد عنه من أنه ذو ميول ماركسية ،، إلا أن البعض ذهب في القول ،، أن عبد الكريم قاسم أعدد العدة للتخلص من الشيوعيين منذ قبوله أقامة مؤتمر الشبيبة العالمي في الموصل ،، كمحاولة منه لضرب المجتمع الموصلي المحافظ  الميال للقومية بالافكار الماركسية المنفتحة ،، ليتخلص من أكبر حزبين في العراق!!.

( يتبع )

المصادر

* مذكرات طالب الرفاعي (أحد قيادات حزب الدعوة)

* عبد الكريم قاسم ومجازر آذار / مارس في الموصل 1959م - نبيـل الكرخي

* منع توزيع جريدة اتحاد الشعب عام 1960 صفحة مظلمة فى تاريخ ثورة 14تموز – علي عجيل منهل - الحوار المتمدن - العدد: 3058 - 2010 / 7 / 9 

* عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – عزيز سباهي.

* مذكرات طالب الرفاعي.

* أنبياء وأصنام - عادل رؤوف.

* الحرب الباردة الثقافية: المخابرات الأميركية وعالم الفنون والآداب - فرانسيس ستونز - ترجمة طلعت الشايب.