شبكة ذي قار
عـاجـل










التطبيع حالة من فقدان الوعي بأهمية الانتماء والإيمان. وأخطر أنواع التطبيع ضررا هو ذلك التطبيع الذي تمارسه النخب الثقافية والفكرية والعلمية والسياسية والإعلامية وغيرها لما تمثله من تأثير على الرأي العام الوطني والقومي والدولي أيضا.


فالبعض من هذه النخب لا يرى في التطبيع مسألة لها خطورتها التي ترقى إلى مستوى الخيانة العظمى لأن التطبيع مع أعداء الإنسانية والعدو الصهيوني تحديدا يعني بطريقة أو أخرى الاستسلام للأمر الواقع وتمكين العدو مجانيا من اختراق جبهة المواجهة والمقاومة بمختلف أشكالها كالمقاطعة الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها من أوجه التصدي للأعداء. فالتطبيع مهما كان نوعه يضر بالمجتمع وأمن الوطن عموما والمطبعون مهما قل عددهم فإن تطبيعهم أمر لا يستهان به.


قد يحصل التطبيع لأسباب ودواعي متنوعة منها المطامع الشخصية ومنها الإغراء والتغرير وهي أمور يستجيب لها دون شك ضعيفو النفوس والانتماء وعديمو الوعي والمسؤولية. وهذا ما يدعو إلى تشبيه المطبعين بفاقدي المناعة الفكرية والثقافية والسياسية عموما أي فاقدي الهوية والشخصية معا. فحين تضعف هذه المناعة لدى البعض من النخب المتعلمة تفقد المعرفة والعلوم والفنون والسياسات دورها في تمتين الانتماء للوطن وفي تعميق الإيمان بالهوية الحضارية وبالتالي تنهار عوامل الدفاع الداخلية وتختل دوافع حماية الذات الفردية والجماعية. والجدير بالانتباه أن هذا البعض من النخبة يعاني أصلا من الانبتات والانفصام وبالتالي يكون قابلا كي يصبح مطية أو جسرا للاختراق والتوظيف من قبل المناوئين. وللعلم فإن النخب المنبتة لا تحترم شعبها ولا تحمي وطنها ولا تعتز بهوية ولا بأصالة. فتميل مع كل التيارات الفكرية والثقافية الوافدة وسرعان ما تنجرف بعيدا وتفقد صوابها وحصانتها.


وهكذا وجدت فلسفة التطبيع منافذ سالكة وبسهولة إلى نفوس وعقول المنبتين والعالقين في أوهام المواطنة العالمية التي انبعثت من الفكر الأممي المتصهين ومن الفكر الرأسمالي الاستعماري. فعندما يفقد المنبت ثوابته وأصوله (رغم ادعائه التمسك بمبادئ التحرر والقيم الإنسانية الضبابية) تنهار لديه روابط الانتماء والإيمان فلا يبقى لديه ما يدافع عنه ويصبح لديه الاستعمار حالة طبيعية يمكن الانفتاح عليها والتعاون معها والاندماج فيها تسامحا وتآخيا. وكم يجتهد المنبتون في قلب الحقائق لتبرير التطبيع باعتباره المنهج الأقوم للتفاعل الإنساني وتجنب النزاعات والحروب.


يدرك المطبعون أن الاحتلال عدوانا وأن الصهيونية العالمية مجرمة ولكن عوض تبني المواجهة يهربون إلى فلسفة التسامح الفكري والتآخي الإنساني وقيم المواطنة العالمية والتعايش السلمي كحلول ووسائل لتذويب العداوة والأحقاد بين الشعوب. ويتغافل المنبتون دائما على أن الاحتلال هو مصدر كل العداوات والأحقاد وأن الاحتلال هو التعبير الأوضح عن التفوق في ممارسة الظلم والعنصرية والجريمة المنظمة للاستحواذ وسلب حقوق وثروات المستضعفين. ويتناسون أيضا أن الاستسلام يفتح شهية الاحتلال لممارسة المزيد من القهر والنهب والتوسع وأن التطبيع معه اعترافا به وقبولا بسياساته ومشاريعه وبالتالي شرعنة بقائه وغطرسته.
إن التطبيع في النهاية خيانة للوطن والأمة وللإنسانية. ولا يدرك معنى الخيانة هذه إلا الذين لديهم ما يعتزون به كالهوية والكرامة وإرادة التحرر والاستقلال. أما الذين أعوزتهم العزة وأخذ فيهم الانبتات مأخذا فلا معنى للخيانة عندكم وقد ابتدعوا لها شتى الأعذار والمسوغات والحال أن هذه الخيانة وراءها إغراءات متعددة الأوجه وفيها مطامع دنيئة لا تبرير لها لا سياسيا ولا علميا إلا في قاموس الانبتات والمخططات الصهيونية التي تعمل على شراء النخب العلمية والفكرية والسياسية والإعلامية وغيرها لتجعل منها جسورا لاختراق جبهات الممانعة الرافضة للاحتلال والاستغلال والاستعباد.


صحيح أن طابور التطبيع ليس مخيفا قياسا إلى جبهة الأعداء الطويلة والعريضة. ولكن هذا الطابور على قلته يبدو مزعجا مقرفا والتغاضي عنه يشكل خطرا. ولذا لا بد من القصاص منه لأن الخيانة قد تبدأ صغيرة وإن لم تقبر في إبانها قد تتعاظم بسرعة والوقاية في جميع الأحوال أفضل من العلاج.


والمنبتون والمطبعون فلاسفة مرضى وعدواهم فتاكة. فلا بد من استئصال هذا الداء تجنبا لتكاليف الدواء. وإن كان هؤلاء الفلاسفة فاقدين للوعي وللمسؤولية، فمن حق المجموعة الوطنية التحفظ عليهم. وإذا كانوا يعتبرون التطبيع خيارا حرا وشخصيا كما يتصورون، فإن محاكمة شعبية لهؤلاء هي خير وسيلة للحجر عليهم ولقبرهم أحياء. أليس من حق الشعب محاكمة المجرمين في حقوقه؟ أليس المس بالكرامة الوطنية جريمة؟ أليس الإشادة بممارسات العدو استفزازا وتشفيا واعتداء على مشاعر الشعب المقهور والمنكوب بهم؟ أليس التعاون مع العدو سياسيا أو فنيا أو علميا خيانة عظمى؟


إن السكوت على مثل هؤلاء هو دعم غير مباشر للتطبيع واستسلام مجاني لطابور الأعداء المزروع بيننا والمتلون كالحرباء. ولكن مهما ناور فقد بات مكشوفا بعدما برهنت سياسة الكيان الصهيوني أن الاحتلال استيطاني توسعي وأن أهدافه بناء دولة دينية عنصرية لا حدود لنفوذها ولا سلطان للقوانين والشرعية الدولية على جرائمها. ورغم كل هذه الغطرسة العنصرية والعدوان البربري على الشعب الفلسطيني ودول الجوار العربي فإن الكيان الصهيوني يطالب بالاعتراف به والتطبيع معه والحال أن وجوده على أرض فلسطين غير طبيعي فهو لا يمتلك حق البقاء ولا قيم إنسانية قابلة للاستيعاب. والتطبيع معه (أمر غير طبيعي) حيث تبرهن ممارساته الميدانية وسياساته اليومية على استحالة قبوله بالتعايش السلمي مع أي كان. والأحداث التاريخية القديمة والحديثة تثبت أن طبيعة اليهود الصهيونية على غير طبيعة بقية البشر فهي ترفض المساواة والندية مع بقية الشعوب لأن العقيدة اليهودية مبنية على الإيمان المطلق بأن (اليهود هم شعب الله المختار).


فالأولى إذن مطالبة اليهود بالتطبيع مع سائر الشعوب من خلال التوقف عن سياسة الاحتلال والتوسع ونبذ فكرة الأرض الموعودة والتخلي عن شعار (أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل) والتنازل عن (سامية الشعب اليهودي) ثم الانصياع إلى الشرعية الدولية والكف عن التسلح النووي. حينها يصبح التطبيع مع اليهود أمرا طبيعيا وجد منطقيا.


إن على المنادين بالتطبيع والمنخرطين فيه جهلا وطمعا أن يدركوا أن الكيان الصهيوني يفتقر إلى مؤهلات التطبيع ولا يقبل أن يكون مثل بقية الشعوب لاعتقاده أنه الأسمى منزلة والأنجح تدبيرا وكيدا. فمن التسويف والتخريف الاعتراف بهذا الكيان اليهودي العنصري واعتبار التطبيع معه طريقا مجدية إلى فرض السلم والتعايش الإنساني. إن اليهود عموما لا يريدون سلاما بل ينشدون استسلاما من الجميع والتسليم لهم بالهيمنة المطبقة والتفوق المطلق كما تنص عليه بروتوكولات حكماء صهيون.


وختاما نقول للمطبعين مع الكيان الصهيوني والناوين السير على خطاهم أن مقاومة التطبيع معركة وطنية وقومية وإنسانية لكون التطبيع خيانة وأن ملاحقة ومحاسبة الضالعين في مثل هذه الخيانة واجب تقتضيه القيم والقوانين الرافضة للاحتلال وجرائم الحرب والإبادة العنصرية. والتطبيع بدون شك هو دعم سافر لجرائم الاحتلال البغيض. فلا مناص من إدانة كل مطبع ولا بد من محاكمة شعبية لأنصار التطبيع ورواده.


تونس في ٢٤ / ٠٩ / ٢٠١٠
hedi_mathlouthi@yahoo.fr
 

 

 





السبت٢٣ شوال ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٢ / تشرين الاول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الأستاذ الهادي المثلوثي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة