شبكة ذي قار
عـاجـل










هل استكان رجال الدين للسلطة حد الصمت عن انتهاك الحرمات وتدمير البلاد والعباد، فما عدنا نسمع كلمة استنكار واضحة وبصوت جهوري؟ وهل ان الدين بات فقط مقروءا في الكتب بقيمه وتعاليمه، بعد أن تخلى رجاله عن صنع النموذج الذي يحتذى، عندما زحفت السلطة بمغرياتها لتصبح دينا جديدا اعتنقه البعض منهم؟ أم أن الدين مازال حيا في النفوس يوقد فيها شعلة القيم السامية التي بددت ظلمات البشرية قبل الاف السنين ولحد الان؟ هذه الاسئلة وغيرها تمور في النفوس وتتزاحم في عقول الكثيرين وهم يتطلعون يوميا الى كلمة حق عجزت ألسنة بعض رجال الدين في العراق عن النطق بها، وهم يسمعون ويقرأون ويشاهدون المئات من التقارير الدولية والمحلية عن الواقع المزري الذي يعيشه الانسان العراقي، وصرخات المستغيثين في السجون السرية والعلنية الذين يتعرضون يوميا الى الاغتصاب وشتى صنوف الاذلال والقهر والتعذيب، وتقاد زوجاتهم وأبناؤهم اليهم كوسيلة ضغط لاجبارهم على الاعتراف بما لم يفعلوه، بينما يستقبلون يوميا العديد من رجال الحكم ويتشاورون معهم بأمور السياسة، ثم يخرج الزوار الى منصة الحديث كي يعلموا الشعب بأن المرجعية باركت خطواتهم، ووجهت بحل المعضلات التي لم نجد لها أي حل منذ أكثر من سبع سنوات. فهل باتت المرجعية تخطب ود أصحاب العملية السياسية لغايات في نفس يعقوب أم أن السياسيين باتوا يلعبون على حبال المرجعية، كما لعبوا على حبال أكثر من جهاز مخابرات دولي وأقليمي؟


لقد شهد التاريخ لصالح الدين عبر العصور من أنه خير محرك للنضال والمقاومة بوجه الغزاة والمحتلين، وأنه بقي الشعلة الوحيدة القادرة على الاستمرار في منح المقاتلين نفس الصبر على المطاولة حتى في حالة ايمانهم بمبادئ وقيم وضعية، بسبب مقدرته الفذة على حشد قيم الخير في النفس البشرية، وقد نجح المستعمرون في اسقاط جميع القيم المادية للشعوب المضطهدة، لكنهم عجزوا عن اسقاط قيم الدين الروحية من نفوس البشر، لذلك وجدنا دول المنظومة الشرقية السابقة تنهض من جديد بقيم الدين من بين ركام النظرية التي لم تعترف به عقودا طويلة، بل حاربته في أوج عظمتها، لكنه بقي متقدا بين الاضلع. لكن الذي يجري في العراق على يد بعض من يمثلون الدين لا يمكن فهمه اطلاقا، ولا يمكن أن يبرر الشعب لهم هذا الدور المخزي الذي اختاروه بملء ارادتهم. فقد سبق لهم أن أفتوا بالجهاد ضد الغزو ووضعوا تواقيعهم على الفتوى المعلنة، وكانت منابرهم عامرة بالخطب الحماسية ضد قوى الشر، بل ان أحدهم حمل وهو على المنبر بندقية (كلاشنكوف) لاثارة الحماسة بين الناس، ولاعطاء مصداقية أكبر لما كان يدعو اليه من مقاومة للغزاة، لكننا لم نعد نسمع به منذ التاسع من نيسان/ابريل العام 2003، كما لم نسمع لبندقيته أي صوت تجاه الغزاة، وكان حاله حال الاخرين الذين لعقوا تواقيعهم على فتوى الجهاد، وأصبحنا نرى عمائمهم السوداء والبيضاء تتزاحم تحت ما يسمى (قبة البرلمان) متدافعين بالمناكب مع الغرباء القادمين من خلف الحدود، بحثا عن منصب أو زعامة سياسية طائفية أو اثنية، حتى أن العديد من المساجد الخاصة بالعراقيين في بعض دول الجوار، أغلقت أبوابها بعد أن انتقل سدنتها ومؤذنوها وخطباؤها الى بغداد، فأصبحوا مسؤولين حكوميين أو زعامات مليشاوية طائفية تقتل الابرياء، بل أصبح العراقيون يعز عليهم اللقاء برجال الدين طلبا للفتوى، بعد أن حصن المفتي نفسه بالحمايات البشرية والالكترونية والسيارات المصفحة، وأصبحت تعترض طريق الواصلين اليه الكلاب البوليسية والعشرات من موظفي التشريفات الذين يعطون مواعيد اللقاء للمسؤولين فقط، الذين يأتون طلبا للمشورة في الصالح العام، كما يدعون من على منصة رجل الدين، الذي اصطفت عليها عشرات المايكروفونات لقنوات فضائية محلية وعربية واقليمية.


لقد سقطت أحزاب الاسلام السياسي السني والشيعي في وحل خيانة قيم الدين والدنيا، بعد أن حاولوا بيع تلك القيم في دهاليز السياسة وتحولوا الى دعاة فرقة وتشرذم، وصفقوا للمحتل من أجل دراهم معدودة، وعجزوا عن انتاج وضع انساني وحضاري متقدم يحفظ حقوق الناس ويرعى شؤونهم، واستبدلوا ذلك بالثراء على حساب الوطن والمواطن حتى أوصلوا البلد الى أن يحتل مراكز متقدمة في الفساد والتخلف والامية والبطالة والجوع والقهر، وبذلك أثبتوا أنهم ليسوا رجال دولة كما أنهم ليسوا رجال دين أيضا. لكن المنزلة الاعتبارية والمعنوية التي يحتلها رجال الدين هي أعمق تأثيرا في حياة الشعوب من الاحزاب الدينية، وان انحرافهم عن أداء الدور التاريخي المنوط بهم في رفع راية الحق والجهاد، وغضهم الطرف عن المآسي التي يعاني منها أبناء الوطن، والصمت عن الخروقات الانسانية لاعتبارات طائفية ضيقة، انما يشكل بترا للموقف التاريخي الذي وقفته المرجعيات الدينية العراقية طوال التاريخ المنصرم، والذين كانوا بحق رجال دين الله ولم يكونوا يوما رجال دين أحد، فقد حملوا كتاب الله في قلوبهم وعقولهم وعملوا بأحكامه لمصلحة الوطن والمواطن قبل أن يرتلوه على مسامعنا، فكانوا بحق وسائل أيضاح كبيرة لمتطلبات الدين، ولم يكونوا وكلاء الله في أرضه يجمعون المال باسمه لحسابهم ويسمحون للاخرين بأن يستغلوا أسماءهم وعناوينهم في جمع أصوات أكبر في صناديق السياسة الزائفة التي صمتوا عن فضحها.


لقد جير الصمت المرجعي الديني لصالح المحتل وأعوانه، ولا نغالي ان قلنا بان صمتهم كان الوقود الذي سارت به الآليات العسكرية للغزاة والمحتلين لتدنس أرض العراق، حينما تخلوا عن اصدار فتوى الجهاد بحجة أنهم بعيدون عن السياسة، بينما تدخلوا في السياسة من خلال فتاواهم المؤيدة للدستور المسخ وللانتخابات الزائفة، وبذلك انزلقت أقدامهم الى القبول بكل ما تلا ذلك، بل راحوا يتبادلون الرسائل السياسية مع قادة الاحتلال، بعد أن تحاوروا معهم من خلال وسطاء عند بداية الغزو، كما يذكر ذلك الحاكم المدني بريمر في مذكراته، مما أحدث بلبلة واضحة في صفوف القوى المناهضة للاحتلال، ومن جهة أخرى أعطى زخما للسياسيين المتسلطين على رقاب الناس للاستمرار في منهج التدمير واللصوصية التي يمارسونها يوميا في ظل هذا الصمت المريب وضبابية المواقف التي طبعت مواقف المرجعيات الدينية، بعد أن فسرها السياسيون على أنها موافقة مبطنة على سياستهم الجائرة، خاصة بعد أن استمالوا وكلاء المرجعيات الى صفوفهم، الذين أصبحوا الناطقين الرسميين باسم تلك الاحزاب.


لقد هزت المأساة العراقية ضمائر الانسانية جمعاء، ودفعت الكثير من المنظمات الدولية والاقليمية لفضح الممارسات السادية التي يمارسها الاحتلال والسلطة، وكان آخرها تقرير منظمة العفو الدولية الذي أشار بوضوح الى حجم الجريمة المنظمة، بينما يقف مراجعنا العظام موقف المهادنين والمتفرجين والمشاركين في بعض الاحيان من خلال صمتهم الرهيب، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر، لكن صوت قس من جنوب أفريقيا أبى أن يصمت فارتفع منددا بالمحتلين وعملائهم ومنتصرا للابرياء والمحرومين والجياع في بلد الرافدين الذي يبعد عن بلده الاف الكيلومترات، لانه يمتلك عقلا وضميرا وشعورا انسانيا عاليا.


لقد أسقط مراجعنا بأفعالهم فروض الطاعة لهم، حينما خالفوا قوانين السماء والارض وعطلوا حكم الجهاد في الاسلام ومالوا الى مهادنة المحتل والتخاطب معه ويده ملطخة بدماء الابرياء، وبذلك فقد أصبح الحديث الشريف (الامام وجد لؤتم به) لا يشملهم، كما سقط وصف الامام علي (رض) عنهم وهو يقول (كنا نلوذ برسول الله عندما يحمي الوطيس) الذي يدلل على مكانة القائد والامام في نفوس الرعية في أوقات المحن. فلا إمامة لمن خالف شروطها، ولا لوذ بمن لاذوا بالغزاة المحتلين واستكانوا الى السلطة وأموالها.

 

 





الاثنين١٠ ذي القعدة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٨ / تشرين الاول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة