شبكة ذي قار
عـاجـل










ها قد أسقطت الثورة الشعبية التونسية كل أوراق التوت عن الحكام العرب، رؤساء وملوكا وأمراء، فبانت عوراتهم التي حاولوا سترها عقودا من الزمان بأجهزتهم القمعية وبحماية دولية، بعد أن تخلوا عن شعوبهم ورموهم الى التهلكة، بينما بذلوا الغالي والنفيس في سبيل ارضاء قوى الاستعمار طمعا في حمايتها لهم، فتبين أن تلك الحماية ليست مضمونة اذا الشعب يوما أراد الحياة، بل هو قادر أيضا على رفع الغطاء حتى عن الداعمين والظامنين الدوليين واشهار فضائحهم وزيف ادعاءاتهم الديمقراطية والانسانية، لذلك وجدنا الحكومة الفرنسية تسارع الى اتخاذ اجراءات سريعة وواسعة ضد عائلة وأقرباء واصدقاء، وأموال ومصالح الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، الذي كان أحد أقرب المقربين لها من الرؤساء في الشمال الافريقي، حتى وصلت اجراءاتها حد التطرف في هذا الموضوع، كما سارع العديد من الدول الاوروبية والولايات المتحدة الامريكية للتبرؤ من بن علي ونظامه، مبدية أعجابها الشديد بالشجاعة التي أبداها المواطنون التونسيون، كما جاء على لسان الرئيس الامريكي أوباما. فهل تناسى هؤلاء جميعا حصانهم الذي راهنوا عليه في ما يسمى (الحرب على الارهاب)، كما راهنوا على غيره أيضا في جغرافيتنا العربية؟ وهل أن التخلي عن بن علي سيقود الى تخليات أخرى عن بقية جوقة الحكام العرب، انحناء لعاصفة الشارع العربي الثائر؟ أم أن القوى الدولية قادرة على التكييف والتلون حسبما تقتضيه المصالح؟


يقينا أن من السهولة جدا على أي مراقب ومتابع للشأن السياسي، أن يرى بصورة واضحة جدا علامات القلق البادية اليوم في تصريحات أصحاب القرار الدولي، وهم يحاولون أن ينفضوا أيديهم من أثم عشرات السنين التي بنوا فيها هذه الانظمة، ومن جهود جبارة بذلوها في سبيل التأسيس لثقافة القمع ونشر اليأس والاحباط في صفوف الملايين من شعبنا العربي، مما دفع وزيرة الخارجية الامريكية لتحذير الحكام العرب في منتدى الدوحة مؤخرا، داعية الى ضرورة اجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية، في محاولة استباقية منها للتمويه على شعبنا، بأنهم لن يدعموا وكلاءهم في المنطقة، كما نجد نفس الشعور بات ينتاب الطبقة السياسية العربية أيضا، التي أصبحت في مواجهة غير متكافئة اطلاقا مع قوى الشرعية الثورية الشعبية، التي عانت التهميش والظلم والجوع والبطالة على أيدي هؤلاء، فتحركت قوى السلطة الان فقط في العديد من الدول العربية الغنية والفقيرة، في محاولة بائسة يائسة لامتصاص النقمة الشعبية، من خلال اطلاق المكرمات بزيادة الرواتب والمخصصات، وبضعة ملايين من الدولارات، للنهوض بمستوى المعيشة وتحسين الخدمات، والتبشير بالاصلاحات السياسية القادمة وسيادة القانون والقضاء على الفساد والمفسدين، بعد أن أفاقوا على صوت الشارع العربي، الذي صرخ في وجوههم ووجوه صناعهم، فتيقنوا بأن المواجهة قادمة، وأن مصير بن علي ليس بعيدا اطلاقا عن أن يواجهه أي واحد منهم، خاصة أن الضامنين الدوليين أصبحوا غير قادرين على الامساك بالتسعة والتسعين بالمئة من أوراق اللعبة السياسية، التي أحرقت نصف المجتمع العربي وعطلت طاقاته وامكانياته.


ان التحرك الجمعي في محاولات الانقاذ السياسي والاقتصادي الذي يجري اليوم في أكثر من بلد عربي، وبروز الاهتمام الحكومي الفجائي بمعاناة شعبية قرنية العمر وعميقة الجذور، وارتفاع ضغط الدم الوطني الذي بات هذه الايام صفة حكامنا ومسؤولينا، انما يدل بوضوح تام على أن المأساة واحدة في أقطارنا، وأن المتحكمين بشعبنا هم من نفس الخامة والعقلية والتوجهات، وأن هذه التحركات لا يمكن لها أن تغلف الذاكرة الشعبية العربية برحمة النسيان، لان النسيان في هذه الحالة هو عملية انتحار جماعي لشعبنا العربي مرة أخرى، كي يتغول علينا أصحاب الجلالة والسيادة والسمو، الذي كلفنا صبرنا عليهم الشيء الكثير من ماضي وحاضر ومستقبل أمتنا، كما أن أي وقوف في وسط الطريق وعدم استكمال كافة مراحل الثورة التي فتح بابها الشارع العربي التونسي، وعدم التناغم الثوري من قبل شعبنا في الاقطار العربية الاخرى، انما سيعطي الفرصة مرة أخرى لقوى الثورة المضادة المحلية والدولية لحشد جهودهم مجددا وسلب ديناميكية الحدث وحرف مساره الصحيح، من خلال التثقيف والترويج على أن الفعل الذي حصل انما هو ثورة جياع لا أكثر، وان الحل يكمن في بضعة اجراءات تمس تسعيرة رغيف خبز وتوفير خضروات ولحوم وزيادة راتب، بعيدا عن أي أجراء فعلي وحقيقي يمس سلطة الحكام ويوسع المشاركة السياسية ويفتح المجال لتنمية بشرية واقتصادية شاملة.


ان ولادة شارع عربي ثائر قد حصلت اليوم في تونس، وها هي أصداؤها تجتاح الوطن العربي من أقصاه الى أقصاه، حتى في تلك الاقطار العربية المحسوبة على الدول الغنية، التي يصرف شبانها ملايين الدولارات في سفراتهم الصيفية الى دول أوروبا، مما يؤكد أن الخبز ليس العامل الوحيد الذي يدفع باتجاه الثورة، بل ان عوامل الثورة هي سياسية واقتصادية وديموغرافية أيضا، في مجتمع عربي يشكل فيه الشباب نسبة سكانية كبيرة لازالت تعاني من التهميش، لذلك لازالت الثورة التونسية تمور في النفوس حتى بعد رحيل بن علي، وحتى بعد وعود من الحكومة الجديدة بالعدل والانصاف وتوفير فرص العمل، لان الشارع العربي الثائر قرر المضي في الثورة الى النهاية، وأنه بات غير مستعد اطلاقا للقبول بأنصاف الحلول أو الحلول الترقيعية، التي لا تأخذ بجوهر المشكل، وبذلك فان المسؤولية التاريخية تتطلب من الشعب العربي في كافة الاقطار رفد الجهد الثوري التونسي، من خلال الاخذ بخيار الثورة أيضا في أقطاره الاخرى، وتحويل الثورة التونسية الى تسونامي كبير تسقط ارتداداته كافة العوامل التي تعرقل انطلاقة الامة، وتخرس كافة الاصوات التي تنادي بالاعتدال في المطالب الشرعية والانحناء أمام مطالب القوى الدولية التي لا تبحث الا عن مصالحها.


ان وصف الثورة التونسية من قبل بعض القوى المناهضة لاي تحرك عربي شعبي بأنها مجرد نار في هشيم يابس، انما يدل على مقدار الخوف الذي أدخلته في نفوس هؤلاء الذين كانوا يعتقدون بأن الذهنية العربية أصابها الجمود والتحنط، وأنها غير قادرة على وعي واقعها المحيط الا بأدواتهم وبأفكارهم المستوردة، كي يضفوا عليها الشرعية، لذلك باتوا ينعتونها بأنها بلا رأس قائد وقاعدة منظمة، في محاولة منهم لثلم شرعيتها الثورية، متناسين أن كل هذه الاوصاف التي يطلقونها على الثورة، انما هي عوامل تعزز من استقلاليتها وشفافيتها وتجعلها أكثر قربا من هموم كافة المواطنين، بعيدا عن الحزبية الضيقة، كما ان من غير المنصف القاء مسؤولية اشتعالها على موقع الفيس بوك وتويتر وويكيليكس، لان الشعب العربي التونسي لم يكن مخدرا أو في غفلة من أمره اطلاقا، بل أثبت أن وعيه السياسي قد تقدم على الكثير من السياسيين ومراكز الابحاث وصنع القرار، وأنه تيقن بأن الظروف الذاتية والموضوعية لقيام الثورة باتت مؤاتية فتحرك في ضوئها وواصل مسيرتها حتى اليوم.


ان أجواء المد العربي الثوري في خمسينيات القرن الماضي عادت لتطل علينا اليوم من جديد من بوابة المغرب العربي، وها هي الجماهير العربية تتظاهر لنصرة أخ عربي ثائر، بعد أن حاول الحكام العرب وضع الحدود بيننا كشعوب مختلفة وليس شعبا واحدا، ونشر ثقافة الاستسلام لهم والقبول بحلولهم، التي هي رجع لصوت مصالحهم القطرية ومصالح القوى الضامنة لهم، لذلك نجد الخوف التبسهم فراحت الاقلام المرتزقة والصحف الصفراء تمنيهم بأن الذي حدث في تونس الخضراء لن يحصل لهم، لانها أمة قائمة بذاتها وأن التجانس في نسيجها الاجتماعي موجود، بينما نحن أمم أخرى وتفتقر مجتمعاتنا الى التجانس، مما يدلل على أن السعي قادم الى اللعب على هذا الوتر، من خلال زيادة الانفصام المجتمعي كي يستمر الحكام في مناصبهم، لكنهم نسوا أن الثورة التونسية قدمت عنصرا استراتيجيا لعملية التغيير في مجتمعاتنا، الا وهي عودة الثقة الى النفوس بامكانية التغيير الذاتي.

 

 





الثلاثاء٢١ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٥ / كانون الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة