شبكة ذي قار
عـاجـل










كان شهر كانون الثاني شهر شمال أفريقيا العربي بامتياز فبعد الانتفاضة الشعبية في تونس والتي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي ، انتقل شررها المتطاير قافزا فوق ليبيا ليثير أكبر حريق في مصر في تاريخها المعروف حديثا ، وليجعل مما أطلق عليه الرئيس المصري السابق أنور السادات ب ( ثورة الحرامية ) نزهة عابرة على الرغم من أنها ألحقت خسائر جسيمة في مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية ، تلك الانتفاضة التي اندلعت في شهر كانون الثاني نفسه من عام 1977 ، والتي انطلقت نتيجة القهر الذي تتعرض له الطبقات الفقيرة المسحوقة تحت عجلات الطبقة المترفة والتي كان يطلق عليها مصطلح ( القطط السمان ) ، واليوم يبدو المشهد المصري أقرب إلى ثورة يمكن أن تعصف بالركائز السياسية التي حافظت على جمودها منذ ثلاثين عاما أي منذ تسلم الرئيس حسني مبارك الحكم من سلفه الرئيس أنور السادات الذي اغتيل على منصة العرض العسكري في 6 أكتوبر عام 1981 ، ويمكن أيضا أن تقتلع العلاقات الاقتصادية التي كرست سيطرة الرأسماليين القدامى أو الذين نشأوا وترعرعوا تحت رعاية الرئيس مبارك وحاشيته المتهمة بالفساد ماليا وسياسيا عبر منطق التخادم المتبادل ، فازداد الفقراء فقرا وازداد الأغنياء دون وجه حق أو جهد ثراء وغنى ، فاتسعت الهوة بين حدي المعادلة الاجتماعية المصرية وأصبح من المستحيل ردمها لأنها شاسعة وتتوسع مع الوقت ، ولأن إرادة النظام المصري تستند بالأصل على الحفاظ على هذه الفجوة الاجتماعية .


وعلى الرغم من أن الأخطاء التي ارتكبها الرئيس مبارك كبيرة ولا يمكن إحصاؤها بدء من تمسكه بالحل الدولي لأزمة دخول القوات العراقية للكويت ووقوفه بكل قوة ( وبناء على أملاءات أمريكية ) بوجه دعوة الملك حسين بن طلال ملك الأردن الراحل للحل العربي ، والذي كان يمكن أن يجنب المنطقة كل ما تشهده من تداعيات متتابعة لقطع الدومينو، فساهم موظفا ثقل مصر في استقدام القوات الأمريكية إلى المنطقة وتدمير قوة العراق مراهنا على أن ذلك الموقف سيسجل في الذاكرة الأمريكية على أنه رصيد سياسي مفتوح له ولاستمرار يته في موقعه يسحب منه متى شاء دون نهاية ، حتى أنه نسي كل الدروس السابقة التي مر بها من سبقه من الملوك والرؤساء الذين ظنوا أنهم رقم لا تستقيم الإستراتيجية الأمريكية الدولية بدونه مثل شاه إيران ، وفي كل مرة يسقط رقم من المعادلة وتلفظه إدارة أمريكية جديدة متعللة بأنها غير ملزمة بتوجهات من سبقها ، ولهذا لم يفاجئ أحد حينما تنكرت إدارة الرئيس أوباما لمبارك وأشاحت بوجهها عنه ولم يكلف مسؤول أمريكي واحد نفسه عناء الاتصال بالقصر الجمهوري في القاهرة ليبعث قليلا من الأمل في النفوس الحائرة والمقلبة على جمر الانتفاضة الشعبية الكبرى وبدلا من ذلك كانت النصائح الباردة والخارجة من البيت الأبيض والخارجية الأمريكية إلى الرئيس الحائر مبارك تترى في الزمن الساخن ، نعم على الرغم من جسامة الأخطاء التي ارتكبها مبارك على مستوى علاقاته العربية والدولية ، فإنه ارتكب أخطاء على المستويين الاقتصادي والسياسي داخليا لها صلة مباشرة بما حصل في زلزال الخامس والعشرين من كانون الثاني / يناير الماضي وما تزال تداعياته مستمرة حتى الآن وربما حتى يتضح مستقبل النظام السياسي في مصر ، ويمكن رصد أبرز هذه الأخطاء :


1 – إنه الرئيس المصري الوحيد منذ ثورة يوليو 1952 الذي لم يعين نائبا له على الرغم من كثرة المطالبات التي واجهها من التيارات والأحزاب السياسية في البلاد لاختيار نائب له سدا لأي فراغ دستوري يمكن أن يحصل ولكنه سد أذنيه عن هذا المطلب ليس الدستوري وإنما الأخلاقي أيضا ذلك أنه لا يوجد من لا يهيئ خليفته من بعده إلا إذا ظن أنه خالد أبدا ، ويبدو أنه كان يبيت منذ ذلك الوقت لتوريث المنصب لأحد أبنائه ، وبالفعل فقد دفع بابنه جمال إلى الواجهة متخطيا الآلاف من المؤهلين والطامحين ، ولو لم يكن جمال ابن مبارك لما فكر فيه أحد من المصريين حتى ضمن صفوف الخط مئة من الطبقة السياسية الحاكمة ، لقد ارتقى جمال مبارك فوق رؤوس المصريين دون مؤهلات أو كفاءة في جو مشحون بالرفض من الشارع وإصرار بليد من والده على تسلقه جدران شاهقة تنوء بها مهارات جمال الخاصة ، لقد كان لافتا للنظر ذلك الاستخفاف برأي الشارع الذي مارسه مبارك وكذلك تجاهله لنصائح حلفائه الذين كانوا يبعثون برسائل عملية تحاول تنبيه الرئيس المصري إلى خطأ هذا التوجه .


2 – التمسك بقانون الانتخابات الرئاسية الذي كان مصمما على مقاسات الرئيس والذي لا يعطي الحق لأي منافس أن يدخل حلبة التنافس ما لم يمر على مجلس الشعب المصري ويحصل على التفويض ، وهذا ما لا يمكن أن يحصل من الناحية العملية طالما بقي الرئيس ممسكا بمقاليد الأمور وصولجان السلطة .


3 – إطلاق يد الرأسماليين الجدد المرتبطين بعلاقات نفع متبادل مع أبرز وجوه النظام الحاكم ، وتم بيع القطاع العام بمزايدات صورية ومحصورة في نطاق فئة ذات حظوة لدى أفراد العائلة أو الخط الثاني من كبار المنتفعين من استمرار النظام ، وكانت التقارير قد أشارت إلى أن مشاريع القطاع العام قد تم بيعها بسعر لا يقترب حتى من ثمن الأرض المقامة فوقها ، مما يعنى أن العمولات التي تسربت إلى المحاسيب كانت من الضخامة بمكان حتى أمكن تمرير تلك الصفقات التي ألحقت ضررا كبيرا بالمصالح العليا للوطن والمواطن وأدت إلى تسريح الآلاف من العاملين فيها مما أدى إلى تفاقم أزمة البطالة .


4 – مواصلة تزوير الانتخابات النيابية على نطاق واسع ، إذ أن صدر النظام كان يضيق بشدة من وجود أي قدر من المعارضة من داخل النظام نفسه ، حتى حولتها بسياساته الغبية إلى معارضة من خارج مؤسسة الحكم وتتحين الفرصة للتحريض عليه وإضعاف ركائزه من أجل الانقضاض عليه عند أول فرصة متاحة ، وعلى الرغم أن السلطة القضائية كانت تحكم ضد إجراءات وزارة الداخلية بشأن نتائج الانتخابات إلا أن الرئاسة والحكومة كانتا تتجاهلان تلك الأحكام وتضربانها عرض الجدار ، ولما كان الحديث قد جرنا إلى السلطة القضائية فإن الواجب يحتم علينا القول إن القضاء في مصر والذي ظل عنوانا للاستقلالية والنزاهة بل ورمزا لمصر طيلة عقود من الزمن قد تعرض خلال حكم الرئيس مبارك لأكبر النكسات وتم تدجينه وتحول إلى أداة طيعة بيد مؤسسة الرئاسة والحكومة ، وهذا ما لم يحصل في أو وقت من تاريخ مصر .


5 – تم صرف الصحافة عن مهماتها الأساسية كسلطة رابعة تسهم بإيجابية في مراقبة عمل السلطات الثلاث وتصويبها وقت الضرورة ، وتحولت بالكامل للحديث عن انجازات وهمية للنظام وتلميع بعض الوجوه التي يراد لها أن تتسلق فوق جدران الزمن القصير وتحتل مواقع متقدمة لا تستحقها ، وتم فرض رقابة ذاتية على الصحافة ربما هي أسوأ بكثير من الرقابة الخارجية ، ولذلك تراجع الإعلام المصري كثيرا بعد أن بقي محتلا للصدارة في الإعلام العربي ومؤثرا في المواطن أكثر من أي إعلام عربي آخر سواء على المستوى الرسمي أو الخاص حتى بات في عهد مبارك يراوح قبل الإعلام الصومالي ، لقد كان الإعلام وطيلة ثلاثين عاما يحرق البخور للرئيس وابنه جمال من أجل تمهيد الطريق له لكي يخلف والده ولم يتصد لمسؤولياته الأساسية في متابعة قضايا الوطن والمواطن كالفساد والبطالة وارتفاع الأسعار وتدني الأجور .


6 – لقد عزل الرئيس مبارك نفسه عن الشارع المصري واعتمد على تقارير أجهزة الدولة من أمن وشرطة ومكاتب رسمية ، ولم يعرف نبض الشارع ومطالبته بالتغيير ، وتعامل مع المطالبين بالمزيد من الحريات لوضع حد للاحتقان السياسي وإقرار القوانين الضامنة لذلك ، ومعالجة الاختناقات المعاشية والاقتصادية للمواطن ، تعامل معها باستخفاف واستهانة ولم يعرف حجم الغاطس من التذمر والغضب الذي يعتمل داخل صدور المصريين ، فأضاف ذلك أسبابا أخرى للسخط الشعبي على عهده تجمع كله لينفجر دفعة واحدة يوم 25 كانون الثاني / يناير الماضي .


وذهب الكثير من المراقبين إلى أن مصر بما تحمله من موروث معرفي ومؤسسي ستكون أول بلد يوظف نتائج الإعصار السياسي الذي حل في تونس وأزاح حكم زين العابدين بن علي ، ولكن جرأة النظام على الحق كانت أكبر من جرأته على الجماهير ، ففي القمة الاقتصادية التي عقدت في شرم الشيخ ، سّفّه الرئيس المصري حسني مبارك الآراء التي راجت عن احتمال انتقال العدوى التونسية إلى مصر فقال إن مصر ليست تونس ، نعم تبين أن مصر ليست تونس حقا ولكنها تونس بصورة أشد عنفا ودموية وضراوة وإصرارا على التحدي ، وحينما قالت قوى المعارضة بأنها ستخرج في احتجاجات للمطالبة بالتغيير في مصر ، لبس وزير الداخلية المقال دروع الحرب وهدد باللجوء إلى القوة في التعامل مع المحتجين ، وربما كان هذا التعامل الأهوج هو القشة التي قصمت ظهر البعير وأججت روح المقاومة فانتشرت التظاهرات على أوسع نطاق وظل الرئيس صامتا أربعة أيام وكأنه يبعث برسالة إلى الملايين الذين احتلوا شوارع المدن المصرية بأنه غير مكترث لهم ولا يقيم لهم ولوجهة نظرهم وزنا ، مما ألهب حماس الشعب المصري كله وكسر حاجز الخوف عنده من أجهزة النظام التي أنزلها إلى الشارع بكل ما تمتلك من أدوات قمع وبطش واستخدمت العنف المفرط والزائد عن اللزوم في التعامل مع متظاهرين عزل إلا من شعور متعاظم بالحنق والغضب على النظام وان الحق معهم ، وحينما ألقى مبارك خطابه كان الوقت قد فات حقا وكانت دماء كثيرة قد سالت في شوارع القاهرة والسويس ، واندلعت أعمال نهب وسلب لم تتوقف حتى عند حدود المتحف المصري الذي يذكّر بمأساة المتحف العراقي الذي تعرض هو الآخر للسلب على أيدي عصابات دولية متخصصة في مجال تهريب الآثار أثناء العدوان الأمريكي على العراق والذي انتهى باحتلال بغداد في التاسع من نيسان / أبريل 2003 .


والآن وبعد أن وصلت الأحداث في مصر إلى هذه النقطة المفصلية ، ما هي السيناريوهات المتوقعة كمخرج من أكبر مأزق سياسي وأزمة تعرفهما مصر ؟


من المحتمل أن تواصل الفعاليات السياسية المصرية ضغطها ونزولها إلى الشارع للمطالبة بتنحي الرئيس حسني مبارك ، ولكن ليس من المحتمل أن تتحقق لها كل مطاليبها المعلنة ، خاصة وان هناك خلافات جدية وجوهرية بين الأحزاب والتيارات السياسية التي تحاول أن تتسيد الموقف الراهن ، لاسيما وأن الجماهير التي خرجت متحدية أجهزة النظام لم تخرج بناء على أوامر من هذه الأحزاب وإنما خرجت بتلقائية وعفوية شجعها في ذلك نجاح التجربة التونسية ، ولكن استمرار التظاهر قد يعطي فرصة للنظام لاستجماع قواه مقابل ضعف القدرة على المطاولة الشعبية من جهة وتشرذم القوى التي تحاول أن تجير المشهد لصالحها وخاصة أن الكثير من الأطراف لم يوافق على تخويل محمد البراد عي للتفاوض نيابة عنها مع الحكومة ، ويمكن أن ننظر إلى هذا التخويل على أنه الخيار السيئ الذي وقعت فيه أحزاب المعارضة ، فالمراقب وعلى صعيد السياسة الخارجية لا يجد فرقا بينا بين مبارك والبر ادعي ويمكن ان يوصف البرادعي على أنه لا يقل خصومة للتيارات الإسلامية عن مبارك ، وربما يتهم بأنه يحمل أجندة أمريكية تحاول تجديد نفسها من خلال اسم تم تسويقه ردحا من الزمن باعتباره حاصلا على جائزة نوبل للسلام والتي لن تضيف على مائدة الشعب المصري رغيفا من الخبز ، وربما كانت الدعوة للحوار هي الفخ الذي وقعت في الانتفاضة مما سيعطي للنظام أكثر من فرصة لاسترداد النفس والزفير بوجه الجماهير مرة أخرى .


وعلى العموم فإن السيناريو المحتمل التنفيذ في حال هدأ هدير الغاضبين ، أن يعلن مبارك استعداده للتنازل عن حقه في الترشح للرئاسة وهو الأمر الذي لم يعد واردا من الناحية العملية لا هو ولا مبدأ التوريث ، فقد اختفى جمال مبارك وذاب كفص ملح وسط بركة ماء ولم يعد أحد يسمع منه وهو الذي كان الصوت الذي لا يعلو عليه صوت في ندوات الحزب الحاكم أو في اجتماعات مجلس الشعب وفي أجهزة الإعلام الحكومية ، ويمكن أن تعطي هذه المناورة لمبارك وأسرته خروجا مشرفا من السلطة ومن البلاد مع احتفاظه بقليل من ماء الوجه والأرصدة والملاذ الآمن ، وحتى يتحقق ذلك فيجب أن يصار إلى تشكيل حكومة وطنية تشارك فيها قوى المعارضة بقوة أكبر من حصة النظام ، وحينذاك يمكن أن يصار إلى الدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي يعد لدستور دائم ديمقراطي يضمن تداولا سلميا للسلطة استنادا إلى انتخابات حرة نزيهة يأخذ بنظر الاعتبار نتائج انتفاضة الشعب المصري وإرادة التغيير ، وبعد ان يقر الدستور باستفتاء حر مباشر تتم الدعوة لانتخابات برلمانية ورئاسية لا توضع فيها قيود على حرية المواطنين للترشح لأي منصب في الدولة ، وهذه الخطوات التي تؤسس لنظام سياسي ودستوري جديد ، قد تتطلب زمنا لا يقل عن سنة كاملة كي لا يتم سلق القوانين والدستور وتبدأ مرحلة جديدة من فساد على أيدي قوى جديدة جاءت إلى مواقعها تحت لافتة محاربة التسلط والفساد والاستبداد .


وإذا ما تم انجاز هذه الخطوات فيمكن للحكومة المنبثقة عنها أن تتبنى خطوات لمعالجة الملفات السياسية والاقتصادية والمعاشية ذات المساس المباشر بحياة الناس وخاصة الطبقات الفقيرة والمسحوقة تحت عجلة المستغلين من الطبقات العليا في مجتمع يقع حوالي نصف سكانه تحت خط الفقر ويتزايد بنسب عالية في عدد السكان .


فهل هذا ما يحصل أم أن هناك سيناريوهات تدخل على الخط بفعل تأثيرات خارجية ؟
أم أن انقلابا عسكريا يمكن أن يحسم الوضع وليأت بتغيير دراماتيكي يقلب الطاولة على رؤوس جميع اللاعبين ؟


إن الولايات المتحدة خاصة والغرب عموما ، يحرصان على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل أكثر من حرصهما على مصر نفسها أو أي بلد عربي آخر ولذلك علينا أن نتوقع جهدا استثنائيا منهما لتثبيت سياسة مصرية تخدم هذا الهدف ، والذي إن تمسك به النظام البديل فإنه سوف يعيد اللعبة إلى المربع الأول ولن تعود مصر إلى موقعها السياسي في الوطن العربي كقوة طليعية وثقل مركزي في الصراع العربي الصهيوني والنضال العربي من أجل التحرر والانعتاق .

 

 





الاربعاء٢٩ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٢ / شبــاط / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب افتتاحية صحيفة العراق الالكترونية نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة