شبكة ذي قار
عـاجـل










من يستعرض الوضع العربي عموما ، مع نظرة مركزة على ما جرى في تونس ومصر بشكل خاص ، لا بد أن يستنتج أن قاسما مشتركا يجمع بين المتذمرين على ما يجري في بلدانهم ، على الرغم من متانة الحدود السياسية التي رسمها المستعمرون وخاصة في اتفاقية سايكس بيكو وبقيت هي القيمة العليا التي تعتز بها النظم العربية ولا تريد التفريط بها أو التخلي عنها أو السكوت على عبورها دون تأشيرة دخول مفروضة على الأفراد لبلدان تحرص على تهريب المواشي إلى أراضيها ، هذا القاسم المشترك هو تحول المؤقت إلى دائم اعتمادا على ( قوة ) النسيان في مجتمعنا العربي من جهة وعلى قدرة الحكام على ابتلاع تعهداتهم تدريجيا حتى ليبدو الحاكم في آخر عهده شخصا آخر لا صلة له بنفسه قبل بضع سنوات .


في الخطاب الأول وبعد اليمين القانونية ، يتم استعراض ما يفرض الرئيس وربما رئيس الوزراء على نفسه من التزامات أمام الله والشعب وبحضور أجهزة الاعلام ويتعهد بصيانتها والذود عنها بكل ما يملك من قدرة وقد يضيف عبارة حتى آخر قطرة دم ولكن دم من ؟


الله سبحانه وتعالى لا ينسى ، وأجهزة الإعلام الحديثة تنقل بالصوت والصورة وتوثق عملها وتحتفظ بأرشيفات بالغة الأهمية تاريخيا وسياسيا وحضاريا إلا إذا تعرضت للنهب والسلب كما حصل للمتحف العراقي والمكتبة الوطنية وللمركز العراقي لحفظ الوثائق ، أما ذاكرة الشعب فإن الإرادات السياسية السائدة تعمل على التأثير فيها والتلاعب بها ، وقد تتعرض للأهواء السياسية كما هو شأن القضاء في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي ، حتى ليكون من الطبيعي أن نرى أن المحكمة الاتحادية تحكم في قضية واحدة حكمين مختلفين معتمدة على ضعف الذاكرة الشعبية ، أو صمتها على الاقل توقعا لمكسب سياسي أو مادي أو كليهما ، وحتى رجال القانون لم تتحرك شهيتهم للحديث في الموضوع لاعتبارات معروفة .


ما يجري أن البرد يقلص من حجم الوعود أو يجمدها والحر يبخر ما تبقى منها ، ويجد الرئيس أو رئيس الوزراء نفسه بعد عام مر فيه شتاء وصيف وإذا هو في حل من كل ما قاله وتعهد به وذلك لعدم وجود شيء في لائحة وعوده مثبت على ألواحه ، ومن هنا تبدأ البوصلة تفقد اتجاهها ، هذا طبعا في حال توفر النية الخالصة لديه لإطلاق الوعود السياسية والاقتصادية الصادقة ، أما إذا كان يضمر غير ما يعلن ويخطط لكسب الزمن والمال والبقاء في الحكم ، فلا بد من البحث عن شماعات تقوى على حمل اخفاقاته ليلقي بها عليها وما أكثر من هو مستعد لتوفيرها عند الطلب .


ولكن ثبت بالتجربة الميدانية واقتباسا من دروس تونس ومصر ، أن هؤلاء المتبرعين بهذه الشماعات ، هم أول من يقلب ظهر المجن على صاحبه ويتبرع بتقديم الأدلة على نكث العهود وخيانة الأمانة ، ولكن المتعظين بأخطاء غيرهم في هذا الزمن قليلون جدا بل يكادون أن يكونوا معدومي الوجود ، ولهذا نرى الأخطاء تتكرر وتكاد أن تكون مستنسخة ومتناسلة عن بعضها ، وإلا لماذا تقع كل هذه الثورات ويسقط كل هؤلاء الضحايا لو أن الناس اتعظوا بأخطاء غيرهم ؟ ولماذا تفقد البلدان هذا الزمن في تصويب أخطاء حكامها بالدم بدلا من أن تضيف لرصيدها خبرة حياتية وتثري تجربتها بالتسامح وتغليب لغة الحوار على لغة التهميش الاقصاء والاجتثاث ؟


اللافت في سلوك البعض ممن يحاول التقاط الفرصة أيا كان منشؤها ومهما غلا ثمنها الأخلاقي ، أنه يعتمد أسلوب المناورة المليئة بالاستكانة والتذلل للخصوم والأعداء ، حتى إذا أمسك بصولجان السلطة بطش بالذين مكنوه من أن يعتلي صهوة الفرصة السانحة ويقذف خصومه ومن جاء به إلى بوابة الفرصة خارج سياج التاريخ والجغرافية والزمن ، دون مبالاة حتى بنتائج فعله هذا على نفسه ومستقبله وعلى الآخرين ومنظومة القيم السائدة التي يراد تربية المجتمع عليها .


كيف والحال على هذا النحو ، يستطيع الشارع تنشيط ذاكرة الحكام لاستذكار ما طرحوه في برنامجهم السياسي الانتخابي إن كان هناك برنامج واضح المعالم ويطرح في انتخابات حرة ونزيهة ، وكيف يتم منعهم من عملية ابتلاع منهجية لمفرداته بندا بعد آخر ، وتبدأ العملية في محاولة جس النبض لقياس ردود الفعل فإذا مرت بسلام أتبعت بخطوة أكبر وهكذا حتى يتم تصفير البرنامج ، هنا يبرز دور الإعلام سيفا وضحية في وقت واحد ، فإذا ما تصدى الإعلام باعتباره أحد حصون الحرية والوسيلة المتاحة لإيصال رسالة التنبيه الأولى إلى لصوص الفرصة السياسية ، فإن الإعلام سيحاصر وتقام حوله جدران شاهقة تمنعه من معرفة كامل الحقيقة ، وإذا عرفها الإعلام فسوف يمنع من إيصال صرختها خارج الجدار ، فيبقى الإعلام وتبقى المعلومة رهن الحجز على ذمة التحقيق ، ويمكن أن يحال إلى قضاء مسيس لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة .


مهما بذل حكام الفرصة الطارئة والتي لن تتكرر ، من جهد لتلميع صورتهم التي علاها الكثير من الغبار وربما أشياء أخرى ، ومهما أنفقوا من المال العام لشراء الذمم التي تباع في مزادات موسمية وسعرها كما قال أبو الطيب يوما ( بالفلسين وهو مردود ) ، ومهما أنعشوا خطة التنمية لتشغيل مئات الآلاف من العاطلين في بناء سجون جديدة وبمواصفات امريكية أو رفعوا من أسوارها وعتموا على ما يجري فيها ، ومهما طال عندهم الأمل والرجاء وتقادم عليهم الدهر ، فإن ذاكرة الناس أقوى على البقاء وأقد على الفرز بعد استيعاب الدروس المستخلصة والمقارنة بين تجارب الناس داخليا وخارجيا ، وهي تؤمن أن جميع شعوب الأرض متساوية في الاستعداد للتحرك عندما تضيق بها السبل وتتأكد من ان الالتزام بات جزء من الماضي ولم يعد موقفا دينيا ولا أخلاقيا ولا قانونيا ، وأن نارا تلتهب في جسد رجل واحد يمكن أن تشعل حريقا في غابة كبيرة ، خاصة إذا كانت الغابة قريبة من منابع النفط .

 

 





الثلاثاء٠٥ ربيع الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٨ / شبــاط / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة