شبكة ذي قار
عـاجـل










أذكر ونحن على مسافة ثماني سنوات من بدء العدوان العسكريّ الأمريكيّ على العراق في مارس 2003 أنّ أحد معارضي الرئيس الشهيد صدّام حسين ممّن احتضنتهم واشنطن ولندن صاح مبتهجا في سياق تعليقه على أصوات الانفجارات التي كانت تهزّ بغداد: "إنّها أعذب موسيقى سمعتها أذناي طيلة حياتي" .. تلك هي المعارضة التي جاءت تلعق أحذية الأمريكان، واستمرّت حتّى اليوم في ولائها لأسيادها الغزاة ..


اليوم تهزّ الانفجارات كلّ مدن ليبيا، وخطّ القصف واضح تماما : من الشرق .. من بنغازي في اتّجاه طرابلس. وبينما يتلذّذ معارضو نظام العقيد القذافي بأصوات الموسيقى المنبعثة من أسلحة الدمار الأمريكيّة والبريطانيّة والفرنسيّة، يقف كثير من العرب مندهشين ممّا يحصل .. بل حائرين لا يعرفون الموقف السليم الذي يجب عليهم اتّخاذه، لا سيما وقد تعرّض الكثيرون إلى قصف التحالف الإعلاميّ الذي قادته باقتدار عجيب قناة الجزيرة القطريّة .. فتاهت الحقيقة .. وتاه اللاهثون خلفها، وأعيتهم السبل والحيل. فاندفع أغلبهم في حفلة سباب جماعيّة تردّد بشكل ببّغائيّ في أغلب الأحيان ما تروّج له القنوات الفضائيّة المشرّعة للعدوان.


لا يبدو أنّنا نحن العرب تعلّمنا شيئا من تجاربنا السابقة في التعاطي مع الإشكالات التي تحدث في بعض الأقطار العربيّة، تلك التي يسارع الغرب عادة لتسميتها بالأزمة، ويسعى عبر تضخيمها وتشويه الحقائق المتّصلة بها إلى استصدار قرارات دوليّة بهدف شرعنة أيّة ضربة عسكريّة أو غزو خارجيّ أو إطاحة بنظام عربيّ.


ما أكثر العرب الذين دعوا إلى فرض حظر جوّيّ على ليبيا تعاطفا مع المواطنين الليبيّين الذين قالت قناة الجزيرة إنّهم يتعرّضون لحرب إبادة مِن قبل مَن حرصوا منذ البداية على تسميتهم بأنّهم كتائب القذّافي لا أفراد القوّات المسلّحة الليبيّة.


صدر القرار .. وهلّل له العرب تماما كما فعلوا مع ترسانة القرارات التي استهدفت العراق منذ الثاني من شهر أوت سنة 1990. وتصاعدت وتيرة القصف الأطلسيّ على ليبيا، وبدا واضحا -لمن لم يهتد حتّى بالفطرة إلى أطماع الغرب في ليبيا- أنّ العمليّات العسكريّة خرجت عن كونها مجرّد فرض حظر جوّيّ يمنع القوّات الليبيّة من "مهاجمة المدنيّين" إلى استهداف مخطّط وممنهج للبنية التحتيّة وتدمير القوّات المسلّحة الليبيّة ومن ثمّ الإطاحة بنظام العقيد الليبيّ القذّافي، أو العمل على إضعاف سلطاته وحرمانه من أهمّ الموارد النفطيّة عبر تقسيم ليبيا إلى شرق غنيّ يقوده "الثوّار"، وغرب فقير يقوده العقيد.


لنترك نواياهم غير المعلنة، ولننظر في "إنجازاتهم" منذ بدؤوا حربهم على ليبيا ..
جاؤوا بزعم حماية المدنيين من كتائب القذافي .. فقصفوهم وقتلوهم ..
وقدموا تحت ذريعة إنقاذ الليبيّين من حرب إبادة يشنّها عليهم القذافي .. فأبادوهم ..
وتنادوا مدّعين أنّ جنون العقيد لا حدود له .. والآن يبدو أنّ جنون الآخرين أشدّ وأمضى وأفتك ..


معارضو النظام الليبيّ الذين اتّخذوا من لندن وواشنطن وباريس وبعض دول الخليج وطنا لهم ظلّوا حتّى وقت قريب جدّا يروّجون من الأكاذيب ما لا يصدّقه عاقل ..
تحدّثوا كثيرا عن المرتزقة الذي استخدمهم القذافي، لكنّني وبصدق لم أر أيّا من هؤلاء .. وفي المقابل شاهد العالم أجمع المرتزقة الذين استعان بهم أولئك "الثوّار" .. مرتزقة من الدرجة الأولى، أمريكيّون وفرنسيّون وبريطانيّون و .. وكذلك بعض العرب .. بعضهم يقصف جوّا وبحرا، وبعضهم يدفع نقدا وعينا ..


وتحدّثوا منذ اليومين الأوّلين لاندلاع حركة الاحتجاج الليبيّة عن قصف "كتائب القذّافي" للمدنيّين واستهدافهم دون غيرهم بالأسلحة الثقيلة والطائرات. لكنّ أيّا من القنوات الفضائيّة التي كانت تروّج لهذه الادّعاءات لم تكلّف نفسها عناء إظهار صور القصف ولا جثث مئات الضحايا ولا صور البيوت المهدّمة على رؤوس ساكنيها ..


وعندما اعترض البعض على التدخّل العسكريّ الأجنبيّ في ليبيا تحت أيّة ذريعة انبرى خبراء الاحتلال ومعارضو الفنادق بالقول إنّ الأعمال العسكريّة الأطلسيّة لن تستهدف سوى "كتائب القذافي"، وإنّ دول التحالف تمتلك من الخبرة والتقنية والذكاء ما يجنّب المدنيّين الليبيّين مخاطر أيّ قصف.
والنتيجة؟


ممثّل الفاتيكان في ليبيا –ولا نظنّه حليفا لنظام العقيد- أقرّ بوقوع عشرات الضحايا بفعل القصف الجوّي الغربيّ على المدن الليبيّة. خان السلاحَ ذكاؤُه. فأصابت نيران الحليفِ الحليفَ .. وطالت الصواريخ الأطلسيّة أخيرا أولئك الذين زعموا أنّهم جاؤوا لحمايتهم "ثوّارا" ومدنيّين. فأودت بأربعة من هؤلاء وعشرة من أولئك.


ليس هذا فقط .. بعدما مهّد قصف قوّات النيتو للمسلّحين التقدّم باتّجاه الغرب والسيطرة على مدن كثيرة طلب المجلس الانتقاليّ وقف إطلاق النار. وكان الطلب مريبا حقّا في توقيته وتداعياته الممكنة. ولعلّ بعض الذين مازالوا يؤمنون بأنّ قوّات حلف الأطلسي جاءت لحماية المدنيّين الليبيّين مطالبون بالإجابة عن سؤال هام: لماذا ظلّت طائرات العدوان الأطلسيّ تقصف الطريق بين رأس لانوف والبريقة طيلة ستّ ساعات كاملة؟


لا جدال في أنّ هذا الطريق هو الذي اتّفقت حساباتهم على أن يكون الحدّ الفاصل بين دولتين، ولن يكون بإمكان "قوّات العقيد" مزيد التقدّم طالما أنّ الغطاء الجوّيّ مفقود، والطريق الأرضيّ لا يسمح بتقدّم العربات.


لست أدري حتّى الآن هل يبرّر كلّ ما قيل عن "كتائب القذافي" الانخراط في حلف معاد للأمّة، معاد لطموحاتها في التحرّر والوحدة والعدالة الاجتماعيّة. وهل يمكن القبول بالعمل تحت راية الدولة السنوسيّة، دولة القواعد العسكريّة الأجنبيّة والارتهان للأجنبيّ واحتكار شركات النفط الغربيّة للثروة الليبيّة. ولست أدري كيف يمكن الوثوق بهؤلاء الذين يرفعون أعلام فرنسا وبريطانيا والولايات المتّحدة ويوجّهون بحماس غريب تحيّات الشكر والامتنان لقادة هذه الدول .. لا يذكّرني ذلك سوى بتلك الأعلام الأمريكيّة التي رفرفت في سماء الكويت يوم 28 فيفري 1991 وصور جورج بوش الأب التي غطّت ساحات الكويت وشوارعها إلى درجة جعلت مواطنا كويتيّا يبلغ به الإعجاب بالرئيس الأمريكيّ الذي قاد عمليّة "تحرير الكويت" إلى إطلاق اسم جورج بوش على مولوده الجديد .. ربّما تيمّنا وتبرّكا .. واعترافا وولاء.


اليوم ليس لدينا خيارات متعدّدة: فإمّا الوقوف في صفّ ساركوزي وكاميرون وأوباما ومعهم حمد بن خليفة أمير الجزيرة وعمرو موسى أو الوقوف مع شافيز وكاسترو وموراليس وأردوغان .. وربّما نعود إلى الحكمة القائلة: استفت قلبك إن ضاقت بك السبل. لكن في مطلق الأحوال حذار أن نطمئنّ إلى الفتاوى التي يصدرها موظّفون لدى بعض الحكّام ولا سيما الشيخ يوسف القرضاوي.

 

 





الثلاثاء٠١ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٥ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الكريم بن حميدة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة