شبكة ذي قار
عـاجـل










هل هناك عودة إلى الاغتيالات المنظمة لأساتذة الجامعات والكوادر العليا في البلد ؟


هذا سؤال مطروح بقوة على أجهزة الأمن التي سجلت اخفاقا غير مسبوق في تأدية مهماتها التي تكلف الدولة ميزانية هائلة ربما هي الأعلى بين كل دول العالم قياسا لعدد السكان من جهة والنتائج التي تحققها من جهة أخرى .


غير أن طرح هذا السؤال وبهذه الصيغة يعد تبسيطا لصورة المشهد الأمني إلى حدود بعيدة ، فالاغتيالات لم تتوقف أصلا ، كي نقول إنها عادت للظهور مرة أخرى ، وربما بوسع من يتابع ملف دوامة العنف الذي يتقافز بمرونة عالية بين مختلف مدن العراق ، أن يتأكد من أن حصاد الاغتيالات وفير للغاية بين صفوف النخبة من أساتذة الجامعة والعلماء والأطباء الاختصاصيين والصحفيين ، وأن أعدادهم تتزايد باضطراد ولتسجل أرقاما ليس بوسع أي بلد في العالم تحملها ، لأن النزيف في مجال الكفاءات العلمية لا تنفع معه جرعات من المقويات والمنشطات مثل التبرع بالدم على المستوى الوطني ، فمن يرحل قد لا تجد الدولة من يسد فراغه إلا بشق الأنفس وبعد زمن ليس بالقصير هذا في حال وجود إرادة حقيقية للدولة للتعويض في مجال الكوادر وهي حالة تؤشر من صلب مهمات الحكومات في الظروف الاعتيادية ، ولكن الأمر في العراق يأخذ بعدا مأساويا بسبب عدم جدية الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال حتى اليوم على حماية الكفاءات من الاستهداف المقصود والمبيت لتفريغ البلد من كوادره المتخصصة العليا ، ومن الطبيعي في ظروف الهلع الجماعي الذي ينتاب مجتمعا ما فإن عمليات القتل ليست هي وحدها التي تحرم البلد من خبراته ، فإن الفئات المستهدفة بالتصفية وبمجرد تصاعد مؤشرات الاستهداف تفضل خيار مغادرة البلد إلى ملاذ آمن حتى في حال عدم توفر فرص العمل هناك وترك ممارسة الاختصاص مع كل ما يشكله ذلك من ضائعة حقيقية ليس في من غيبهم الموت فقط وإنما في من تركوا البلاد وضاع جهدهم وما أنفقوا أو ما أنفقته عليهم الدولة للحصول على اختصاصاتهم التي تغربوا من أجل الحصول عليها لسنين طويلة وإذا بالغربة تخطف كل ما بنوه في لحظة مفاضلة بين موت محقق أو موت لتخصصاتهم في دياجير الغربة ، وبعد أن تمكن الكاتم الذي أصبح عنوانا للحقبة الراهنة في العراق من اختطاف حياة المئات من زملائهم .


لكن دوامة الموت المدبر في الغرف المظلمة يلتقي في شوارع مدن العراق بعدالة تامة مع دوامة الموت الأعمى الذي يحصد الأرواح بكل المبتكرات الحديثة من وسائل القتل الجماعي والتي يبدو أنها صنعت خصيصا لتفتك بالعراقيين بلا رحمة ، والتي عجزت الأجهزة الالكترونية الحديثة والمستوردة بعقود فاسدة لم تخرج مئات اللجان التحقيقية التي تم تشكيلها بقرارات دفع الحرج ودفع التهمة عن الذات والبحث عن شماعات لتعليق الاخفاقات المدوية عليها وعجزت عن التوصل إلى موطن الخلل فيها أو في الكيفية التي مرت بها على لجان العقود والتفتيش وأفلتت من اكتشاف ثغراتها الكثيرة ، والعراق الذي تداولت مواسم الحصاد المستمرة فيه منذ 2003 وحتى اليوم قوى كثيرة وأساليب مبتكرة ، بدأت بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة والعبوات اللاصقة وأخيرا وليس آخرا الأسلحة الكاتمة التي تدفقت على الوادي الخصيب من أطراف تحمل موروثا ثأريا ونفسا انتقاميا مقيتين ، اللافت أن السلاح الجديد الذي يدخل خدمة القتل لا يلغي الأسلحة التي سبقته بل تتضافر حلقات الأسلحة القديمة والجديدة وكأنها منظومات متكاملة في مدياتها وكفاءتها بحيث لا تسمح بوجود ثغرة يمكن أن يفلت منها العراقي ، وهذا ما يدعو لتساؤل مرير عما إذا كان الدم العراقي دون كل الدماء في العالم الذي لا يجد من يتبنى منع تدفقه أو العمل على حقنه لا من قبل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والمنظمات الحقوقية والإنسانية في العالم ، ولا من الحكومة التي قدمت وعودا وعهودا على نفسها وهي تعرف قبل غيرها أنها قاصرة وعاجزة عن الإيفاء بها أو حتى بجزء يسير منها ، ولو كان ما يحصل في العراق وسقوط الضحايا بهذا القدر الهائل قد حصل عشره أو أقل من ذلك في بلد آخر ، ولو أن الحكومة العراقية ليست من انتاج الولايات المتحدة نفسها لانتفضت الإدارة الأمريكية بكل ثقلها السياسي والدعائي وحشدت قواتها المسلحة تحت لافتة ( حماية المدنيين ) والدفاع عن حقوق الإنسان وأقامت الدنيا وأقعدتها كي تضع صورة المشهد بمتناول الرأي العام العالمي ، ولأخضعت البلد لهذه المبادئ التي تتخذها واشطن سلاحا لقهر الشعوب وإخضاعها لإرادتها الشريرة ، وجوه شتى يتم التحرك معها أو ضدها بقدر ما تؤمن المصلحة العليا للولايات المتحدة ، والشواهد في عالم اليوم كثيرة لا تعد ولا تحصى ، فهل يختلف الدم العراقي عن غيره من دماء الشعوب ؟ وهل أن الشعب الذي كتب أول تشريع في التاريخ لا تنطبق عليه مبادئ القانون الدولي وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ؟ أم أن القوى الامبريالية تتحرك مع جميع شعوب الأرض بدافع واحد وهو الهيمنة على الثروات والبحث عن قواعد عسكرية فوق النقاط الاستراتيجية الحيوية في العالم ؟


هذه المحن كلها تجثم فوق صدور العراقيين مع تعمد بإشغالهم بمطالب الحياة اليومية التي لا تستقيم دونها حياة المجتمعات العصرية ، بل أن الكثير من المجتمعات التي كانت تلهث وراء تجربة العراق بسنين طويلة تجاوزتها إلى حلقات أكثر رقيا وتمدنا ، فالتعليم والخدمات الطبية وبعد أن كانت نموذجا تسعى دول كثيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى اقتفاء خطوات العراق فيهما ، أصبحا اليوم من مخلفات الماضي الذي تستعاد ذكريات ألقه كما يتم الحديث عن جامعات الأندلس ، أما الماء الذي جعل الله سبحانه وتعالى منه كل شيء حي ، فإن بلاد الرافدين باتت لا تعرف للماء الصالح للشرب والاستخدامات البشرية الأخرى سبيلا ، وباتت موائد المسؤولين تزخر بقناني الماء المعبأ وتستعرض صوره أمام فضائياتهم ، وكأنهم يريدون توجيه المواطن العراقي للذهاب إلى هذا الخيار في الوقت الذي لا يستطيع الملايين من العراقيين توفي سبل الحصول على لقمة الخبز والحاجيات الضرورية الملحة ، ولربما كان للكهرباء التي أصبحت حاجة أساسية تلامس كل ما يحتاج الفرد في كل وقت وقع يثير المواجع في النفوس أن يرى العراقيون بلدانا لم تعرف الطاقة الكهربائية عندما كان العراق يقيم شبكات للضغط العالي والفائق وتمتد فوق أرضه أكبر شبكة وطنية للكهرباء في المنطقة .


إن الحديث عن الاستقرار في العراق ضرب من الاستفزاز لعيون العراقيين الذين يرون بأنفسهم ما يحصل لمدنهم ، ولآذانهم والتي يسمعون بها أنين ذوي الضحايا الذين يقبعون في السجون السرية والعلنية أو يسقطون في ساحات المدن العراقية وشوارعها ، والأمن ليس بكثرة أفراد الأجهزة الأمنية ومن يحمل السلاح تحت البزة الرسمية ، ولا بكثرة الآليات التي تجوب الطرقات لإرهاب الناس الآمنين على مدار ساعات اليوم ، ولا بكثرة العوارض الاسمنتية التي قطعت أوصال مدن العراق دون رحمة أو خجل ، حتى جعلت تلك المدن كانتونات منطوية على نفسها بعد أن كانت أحياء تعج بالتواصل والحركة بين سكانها دون تمييز أو اختلاف أو خلاف ، لذلك فإن احساس البعض من المسؤولين أنهم حينما يتقلبون بين ظروف النعمة الطارئة التي هبطت عليهم فجأة ، على أنها حالة تشمل الأغلبية العظمى من أبناء الشعب ، إنما هي نظرة قاصرة ومعيبة ، فغالبية العراقيين تعيش تحت خط الفقر وغالبية العراقيين لا تعرف للاستقرار والأمن معنى ، والآلاف منهم محرومون من فرص التعليم الجيد والخدمات الطبية اللازمة ، لهذا كله فإن معالجة هذه الأزمات الخانقة لا يمكن أن تنهض به إلا حكومة منبثقة عن الإرادة الحقيقية للشعب ، تخضع لسلطة رقابية من برلمان معبر عن إرادة الشعب ، ورقابة الصحافة وأجهزة الإعلام التي تحررت من عقد الخوف وحرق البخور على أبواب السلاطين .

 

 





الاربعاء٠٢ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٦ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب افتتاحية جريدة راية العرب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة