شبكة ذي قار
عـاجـل










هل بإمكاننا أن نطلق على من لديه القدرة على التحلل من ثيابه والوقوف عاريا أمام الملأ شجاعا ؟ أو من يخرج على القيم والأخلاق مقداما ؟ ربما يذهب البعض إلى ذلك ، إقرارا منهم بأن الإعلان عن حالة الخوف ، هو شجاعة بحد ذاتها ، وأن الخروج على سنن الطبيعة والمعايير الأخلاقية التي حملها الإنسان بين ضلوعه حتى تراكمت عبر ألاف السنين ، يمكن أن نطلق عليها صفة الشجاعة ، ولكن أية شجاعة ؟ هناك الشجاعة المحمودة والتي تغنت بها الأجيال على مر العصور ، وهناك الشجاعة التدميرية التي لا تقيم وزنا لقيم وأعراف ودين وأخلاق . هذا في إطار المفاهيم العامة ، ولكن هل تصح هذه الأحكام على عالم السياسية ؟ يروج الكثير من المشتغلين في عالم السياسة ، بأنه عالم بلا ضمير ودون قلب ولا صلة له بالقيم والأخلاق وأنه يضع المصلحة في المقام الأول وعلى استعداد لسحق أية عقبة تقف في الطريق حتى إذا جاءت من مقرب ، غير أن الحكم يبقى دون أسانيد قاطعة وخاصة في وطننا العربي استنادا إلى ذلك التمازج بين تعاليم الإسلام العظيم والتقاليد العربية العريقة ، إذ تم التأكيد على المنظومة القيمية للنهضة العربية المنشودة التي تحتل فيها الأخلاق حيزا مهما . الذين مهدوا الطريق أمام العدوان الأمريكي الأطلسي على العراق من متعددي الجنسية ومتعددي الولاء ، وعلى ليبيا فيما بعد يمتلكون وقاحة لا نظير لها ، هي بالنتيجة شجاعة من نوع خاص لا يتمنى شريف أن يتحلى بها ، فهي محصورة في ميدان واحد وهو سرعة الاستجابة لإغراء المال والسلطة والوجاهة .

 

ومع ذلك فيبدو أن مثل هؤلاء أصبحوا من الكثرة بحيث لم يعد أحد منهم يتعرق إذا سكن في حارة العهر السياسي ، والسلوك حينما يصبح جماعيا يزيل الكثير من أسباب التردد والخجل ، وإلا بماذا يمكن أن نصف سلوك من يسمون أنفسهم بالثوار الليبيين وهم يلوحون بشارة النصر على طريقة ونستون تشرشل ، ودون مقدمات تحولوا من مواطنين إلى مرتزقة في بلادهم لقوات غازية معتدية من ذات القوى التي كانت تحتل ليبيا ، وأن يتحول المواطن إلى مرتزق في بلاده لم يحصل إلا في ثلاث تجارب من قبل ، فيتنام والعراق وأفغانستان حينما غزاها الأمريكيون في ظروف سياسية متقاربة ، وكل هذا يتم تحت ذريعة حماية المدنيين ! كم قتل القذافي من المدنيين ؟ بكل تأكيد لا أحد يعرف الجواب ، ولكن هذا الأمر مدان ولا يمكن أن يقبل به أحد بصرف النظر عن عدد من قتلوا ، ولكن هل جاء الأمريكيون والأطلسيون إلى ليبيا دفاعا عن المدنيين حقا ؟ و ..... ألم يقتل ( الثوار ) أضعاف من قتل القذافي ؟ فلماذا يسكت عليهم مجلس الأمن والجامعة العربية بل يدعمون في زحفهم تحت المظلة الجوية الأمريكية الأطلسية ؟ أم أن الدم الذي يسفك بيد ( الثوار ) مهدور وإن كان دما مدنيا وليبيا استنادا إلى قرار 1973 وتوصية الجامعة العربية ؟ ثم هل أن القصف الجوي بالقنابل الذكية جدا يميز بين من هم من أتباع القذافي أو هم معارضون له استنادا إلى جراحة فكرية أجراها الكومبيوتر الأمريكي المتطور الذي لا يضاهى ؟ أم أن صاروخ كروز ( توما هوك ) يستطيع التمييز بين من يحمل السلاح ومن هو أعزل ومن يرتدي البزة العسكرية ومن يرتدي القبعة الأمريكية وربطة العنق الفرنسية والبدلة الإيطالية والحذاء الانكليزي ؟ لأته مصمم على وفق خبرة الكلاب المدربة التي جاء بها الأمريكيون إلى العراق ، وتجاربنا في العراق مع هذه الأسلحة لا تقبل الكثير من الجدل لأنها خبرة حمراء .

 

يتحدث ( ثوار ) ليبيا كثيرا عن سرعة تقدمهم نحو أهدافهم ويفاخرون باستعراض قوة التدمير التي ألحقوها بدبابات العدو وكتائب القذافي ، والتي كانت حتى الأمس القريب جيش ليبيا الوطني محل فخرهم ومباهاتهم على كل العرب والأفارقة ، وربما كان هؤلاء الثوار أو قادتهم البارزون سببا رئيسا لما أصاب القذافي من غرور وداء العظمة وتقديم الألقاب والصفات له مع فنجان قهوة الصباح حتى صارت جزء من تكوينه النفسي والسياسي لا يستطيع التحرر أو الشفاء منه ، وحينما كان عربي يجادل مواطنا ليبيا عن ألقاب القذافي وطول اسم ليبيا الرسمي ، فإنه سرعان ما يرتد إلى الشخصية المنتحلة ودون أن يفكر بمصداقية ما يقول ، يطرح الكثير من المفاهيم الملتبسة عن الجماهيرية الليبية الاشتراكية العظمى ودور قائدها العالمي ومكانتها في رسم الاستراتيجية الدولية على مستوى الكرة الأرضية ، حتى إذا ضعفت قبضة القذافي قليلا عن رقابهم ، راحوا يفاخرون باحتلال مدنهم التي لم يغادروها أصلا الواحدة بعد الأخرى ، وكأنهم ركبوا البحر مع جيوش فينيقيا وهاني بعل واحتلوا جنوب أوربا أو افترشوا السماء مع سلاح الجو الأمريكي فضربوا هيروشيما بالقنبلة الذرية ، فتركوها حجرا على حجر . لقد أصيب من اندفع بهذا المشروع بعمى كامل أو على الأقل بعمى الألوان ولم يتمكن من رؤية منظر الدم العراقي وحسبه ماء كماء البحر الذي تمتد عليه سواحل ليبيا لحوالي ألفي كيلومتر ، ولم يتمكنوا من رؤية الدم الليبي حينما بدأ يرعف ففاخروا بقتل المئات من أفراد كتائب القذافي وكأن هؤلاء ليسوا من نفس مدنهم وعشائرهم ، ومن فرط السذاجة أو عمق الارتباط هب الكثيرون للالتصاق بدولاب المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير أو الجديد والذي يمتد جناحه ليشمل ليبيا . الحديث عن المدنيين وحمايتهم طويل جدا وأصبح مملا لكثرة ما سمعناه من الأمريكيين والأوربيين ، وكذلك الحال بالنسبة للديمقراطية وحقوق الإنسان ، وتجربة العراق ما تزال ماثلة وهي من أصدق الشواهد وكذلك الحال في أفغانستان والصومال وغيرها كثير ، ولكن التجارب الجاهزة على ما يبدو لا تغري بالدراسة وأخذ العبر منها . ماذا لو ذهب القذافي ؟ ما هي ضمانة أن يكون القادة الليبيون الجدد والذين كانوا من أخلص طلابه إلى مدرسته السياسية أفضل منه في تطبيق مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ؟ وهل يكونون ديمقراطيين حد الشفرة القاطعة التي سيكتشف الليبيون كم هي ضرورية لهم ؟ أم أن تجربتهم ستحتاج إلى فترة انتقال قد لا تقل عن حقبة القذافي لا في الزمن ولا في التفاصيل ؟ يمكن أن يقول الحلفاء أن وضع مشروع سياسي لممارسة الديمقراطية في ليبيا بعد القذافي سيكون الضمانة الأكيدة للتحول الحقيقي نحو الديمقراطية ، ولكن تجربة العراق تقرأ مشهدا مغايرا لكل التجارب الديمقراطية في تاريخ الأمم والشعوب ، فقد طفقت التيارات التي جاءت بالاحتلال أو جاء بها الاحتلال بسياسة انتقام وثأر ما يزال العراقيون يدفعون ثمنا باهظا ومعروفا لها ، وتجربة قادة ليبيا الجدد ستكشف عن تناقضات وصراعات وانقسامات لن تحل بالحوار أو على طاولة التفاوض والتنازلات المتقابلة ، بل سيحل من يحمل السلاح خلافاته في ساحاتها التي ستضيف دما جديدا إلى جداول الساحل الليبي .

 

من المفارقات الجميلة أن أقرب مساعدي القذافي هم الذين انقلبوا عليه ، منهم وزراء ووزراء سابقون ، ولكن أحدا لم يسمع منهم جملة اعتراضية على ما يقول القذافي أو يرسم ، ولم ينكر أحد منهم على القذافي ما يدعيه لنفسه من مزايا وصفات ، حتى أن الكثير من مراقبي المشهد الليبي ليشفقون على هذا الشعب الذي أضاع نصف قرن من الزمن الذي يسير بأقصى سرعة إلى الأمام ، عبثا في البحث عن بناء تجربة النظرية الثالثة ، ولم تتمكن من كسب مؤيدين لها لا في داخل البلاد ولا خارجها ، حتى داخل بيت القذافي السياسي نفسه ، صحيح أن القذافي أقام الكثير من المشاريع التنموية خلال أربعة عقود بسبب ما يدخل على ليبيا من إيرادات عن تصدير النفط ، ولكن تجربة البناء الاقتصادي بحاجة إلى عقول حرة لتطوير هذا البناء والدفاع عنه ولكن على ما يبدو فإن القذافي أخفق في أهم محور من محاور عمله السياسي طلية عمر تجربة ليبيا بعد 1969 وهو إعداد البناة المدافعين عما أقاموه ، فبيدهم هدم رجال القذافي من الذين تحولوا إلى معارضين له كل ما بني في أربعة عقود ولكي تأتي شركات الدول المعتدية لتعيد البناء في برنامج يعرفه العراقيون جيدا اسمه برنامج إعادة الإعمار .

 

 





الاربعاء٠٢ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٦ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة