شبكة ذي قار
عـاجـل










ها قد أرتفعت المظلة الطائفية مرة أخرى، ليستظل بها هذه المرة رئيس البرلمان العراقي والقيادي في القائمة العراقية أسامة النجيفي. ولا نعلم هل كان الرجل يحمل في حقيبته الخريطة الجغرافية لاقليم أو دولة السُنة في رحلته الاخيرة الى واشنطن، أم أن جوزيف بايدن نائب الرئيس الامريكي وصاحب مشروع تقسيم العراق، هو الذي سحبها من دُرج مكتبه وأقنع بها النجيفي.


أيا كان الموقف فلم يعد للتكذيب والتصحيح والتوضيح الذي صدر عن مكتبه أية قيمة بعد الان. فمجرد أن يتحدث أي سياسي عن أية فئة في العراق مضيفا اليها خصوصية كي يميزها عن باقي المجتمع، ومطالبا لها بوضع جغرافي أو أداري يكون على حساب الوطن كوجود وهوية، أنما هو إخلال بالنسيج الاجتماعي الوطني، ومؤامرة كبرى لتمزيق العراق وتشتيته. فكيف أذا كان المتحدث يُفترض أنه يمثل العراقيين جميعا كما يُزعمون؟ نعم هنالك مجموعات عراقية لها خصائص ثقافية ودينية تميزها عن الاخرين، أثرت الخصائص العامة للمجتمع العراقي نتيجة أنصهارها في المجموع، وأعطته لونه الخاص الذي ميزه عن باقي المجتمعات الاخرى، لكن النجيفي لم يتحدث بمنطق التمايز الثقافي، بل بمنطق أن هنالك مجموعة طائفية معينة مُحبطة نتيجة ممارسات الاخرين الظالمة عليها، وقد أستعار نفس منطق الذين يشاركونه في العملية السياسية، أصحاب المنهج الطائفي الزاعمين بالمظلومية التاريخية التي مارستها مجموعة طائفية على أخرى، أو مجموعة قومية على الاخرى، متناسيا بأن القاسم المشترك الاعظم بين العراقيين اليوم هي حالة الاحباط الجمعي، والمظلومية التي مست كل قيم الانسانية، وأستلاب نسغ الحياة الذي لا يمكن العيش بدونه. فلم تعد في العراق اليوم طائفة أحسن من أختها في مستويات الحياة المعيشية، ولاقومية أفضل من غيرها في ظروف الحقوق الانسانية، بعد أن وزع المحتل مظلوميته بالتساوي على الجميع، ووضع هذا وذاك وكلاء بأسمهِ على الوطن والمواطنين، وسخّر موارد الشعب وثرواته لحسابه الخاص وللفئة التي تستظل بظله.


أن حديث السياسي العراقي في المحافل الدولية واللقاءات الثنائية، الذي يميل دائما الى التخصيص القومي والطائفي عن المعضلات السياسية والاجتماعية والامنية، ليس سببه أُمية الوعي السياسي وقلة الخبرة في أدارة شؤون البلاد فحسب، بل هو منهج يقوم على فكرة التجميع المادي والمعنوي لانشاء أقطاعيات سياسية وأجتماعية تخدم مصالحه هو وبطانته باسم الطائفة والقومية، وبالتالي أستدرار لعُاب المصالح الدولية والاقليمية من خلال الايحاء بأنه عازمٌ على صناعة أقليم أو دويلة . لذلك نجد غالبية التصريحات تنحو منحى ضيق قائم على عدم وجود عراق واحد، بل مجرد كيانات قومية وطائفية هزيلة الرابط بينها أوهن من بيت العنكبوت . فرئيس البلاد غالبا ماينسى أنه يمثل العراق كدولة ويصرح بما تقتضيه مصالح قومه، ثم يوعز لمكتبه بغية التوضيح بأن تصريحاته كانت من منطلق أنه رئيس حزب قومي، ولم يكن يروم الاساءة الى بقية أطياف المجتمع. وعندما يترأس الجعفري وفدا الى طهران يتحدث بما يسميه هو (المجتمعية الشيعية).


وعندما يذهب النجيفي على رأس وفد يمثل العراق، إنما يتحدث كذلك بأسم الطائفة وبنفس منطق الاخرين، منوهاً بأن الطائفة لم يعد لها مستقبل في هذه الحدود الجغرافية التي يتشكل منها العراق.


والمفارقة الكبرى أن كل هؤلاء الادعياء هم العائق الوحيد أمام نهضة المجتمع، وهم معاول هدم حقيقية لوحدته الوطنية، التي كانت تعبر دائما أفضل تعبير عن موقف نفسي وأجتماعي وثقافي للشعب العراقي، وخيار أبدي له بنى في ظله أعظم الحضارات، وتصدى به لكل الغزوات والحروب، وقاوم بها الاحتلال الامريكي، ويخرج اليوم تحت خيمتها متظاهرا في كل مدن العراق في أبهى صور الوحدة الوطنية، صارخا بوجه المحتل وأذنابه من الفاسدين الطائفيين المتشدقين بتمثيله الزائف. فهل نسي النجيفي بأن أبناء البصرة وذي قار وميسان والمثنى والقادسية وواسط وكربلاء والنجف، كانوا أول المتظاهرين ضد الفساد والتهميش؟ وأن أبناء السليمانية سحبوا ثقتهم من أحزابهم القومية بعد أن هُمشوا من قبل هذه الاحزاب التي أثرت على حسابهم؟ فهل يعقل أنه لم ير أو يسمع بكل ذلك وهو رئيس البرلمان العراقي الذي يقولون أنه يمثل الشعب العراقي من أقصاه الى أقصاه، وسمع فقط مظالم السُنة فيه؟ أم أن الحجاب الطائفي المقيت والمصالح الفئوية الضيقة هي التي حرفت زاوية نظره كما أنحرفت لدى الاخرين من قبل، والذين يتشارك معهم في نفس التوجهات، ويقاسمهم مناصب حكومية لم تقدم الى العراقيين سوى القتل والدمار والخراب.


أن أجبار الجغرافية على دفع ثمن الخلافات السياسية بين الاطراف المشاركة في السلطة، سببه عدم وجود أرضية فكرية لازمة لادارة الدولة والمجتمع، وبذلك سوف يبقي البلد بين أيدي هذه الحفنة من الجهلة والاميين، الذين لن تكون افعالهم سوى ردود فعل سلبية على كل ما يظهر في المجتمع من عوائق سياسية وأقتصادية وأجتماعية وأمنية، وسوف يدفعون بابناء الشعب العراقي الى التحشيد ضد بعضهم الاخر، من خلال تصوير العلاقة فيما بين عناصر المجتمع على أنها ظالمٌ ومظلوم، وحابط ومحبط، ومنتفعٌ ومتضرر، وقابضٌ على السلطة وأخر مهمش. لذلك باتت الثقافة السياسية التي ينشدونها ويسعون لنشرها في المجتمع قائمة على أسس غريبة ومفاهيم لاعلاقة لها بالسياسة التي هي فن إدارة الدولة والمجتمع. ففي الوقت الذي يتحدثون به عن نظام سياسي ديمقراطي، نجد أن رئيس الحكومة يهزج أمام أتباعه بأنه لن يعطيها لاحد بعد الان، ويفرّق تظاهرات شعبه الثائر ضد الفساد بالهروات والعصابات الحكومية المنظّمة، وآخر يتحدث في خطبة الجمعة عن حاكمية الاكثـــــرية، وثالث يتحدث عن تهميش الاخرين وأحباطاتهم وجنوحهم للانفصال، وغــــيرهم يعلن الجهاد المُقــــدّس لإرجاع قُدس الاقــــداس الى الوطن القومي.


أن مسلسل الخداع والتضليل الذي تمارسه كافة الاطراف السياسية في مسالة ابتعادها عن الطائفية، والاستظلال بالخيمة الوطنية، دائما ماتفضحه الممارسة السياسية اليومية لهم. فبعد التبرقُع بنقاب الوطنية الذي مارسوه في الانتخابات الماضية، من خلال تشكيل قوائم تضم من هذا الطرف الطائفي وذاك، تأخر تشكيل الحكومة تسعة أشهر لاسباب طائفية حقيقتُها من الذي يحكم؟ هل هي الاكثرية الانتخابية أم الاكثرية الطائفية؟


ثم تم التخريج للمشكلة بما سمي تقاسم الكعكة التي أستلذ بها طرف سياسي فلعّق توقيعه على الاتفاق، ليجد الطرف الاخر نفسه مُلقى على قارعة الطريق. ولان السلطة هي الهدف وليس من صوّت لهم، فلقد رفضوا تحمل مسؤولية شرف المعارضة السياسية للدفاع عن حقوق ناخبيهم، وآثروا أن يكونوا جزءا من السلطة ثم ليتحولوا الى طائفيين كما هي حقيقة الجميع، ثم ليتشاركوا في عملية زج المواطنين في صراعاتهم المصلحية والحزبية الضيقة، هادفين الى قيادة البلاد والعباد الى التشرذم الجغرافي الذي دائما ما يتبع التشرذم السياسي التي هي حالة أو صفة أصبحت ملازمة للواقع العراقي. فكلما انتهت أزمة بين أطراف العملية السياسية تظهر أختها. ولآن الحلول ترقيعية وقتية بسبب عدم وجود بنية سياسية رصينة وأرادة وطنية خالصة، فأن الاتفاقات سرعان ماتنهار ويعززأنهيارها أنعدام الثقة بين كافة الاطراف.


أن العراق بحاجة ماسة الى إيجاد مفهوم واضح للعلاقة بين المجتمع والدولة، وأن يكون هذا المفهوم بعيدا عن مسميات الاكثرية والاقلية الطائفية، كونه هو العلاج الوحيد للقفز من هذا الواقع المزري المقيت الذي يغرق به. لكن الوصول الى هذا الفهم هو أبعد ما يكون اليوم، لان من يمسكون بالسلطة الان ليس خيارهم هو ذلك، كما أنها ليست أرادتهم الذاتية هي التي تحكم خياراتهم، بل هي الاجندات الدولية والاقليمية التي جاءت بهم الى السلطة، وهي التي تحكم القرار السياسي في العراق. لذلك بات من السهل جدا على أي مراقب سياسي أن يجد الفرق الشاسع بين ضحالة تفكير الحكّام والمحكومين. ففي الوقت الذي يسعون فيه الى تركيز دعائم الفرقة بين الشعب، ويبحثون عن كل صفة تميز هذا عن ذاك تحتمها ثقافة قومية أو أجتهادات مذهبية، كي يبنون عليها مجدهم الزائف، نجد الشعب يخرج متوحدا ضدهم في تظاهرات الرفض، ويركّز حقيقة نشوزية وجودهم على الساحة السياسية. وهو السقوط المدوّي لكل من يتسيّد المشهد السياسي اليوم في العراق، لأن الشعب قد تقدم عليهم بوعيه وباتوا عائقا حقيقيا أمام نهوضه.

 

 





الاثنين٠٣ شعبان ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٤ / تمـــوز / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة