شبكة ذي قار
عـاجـل










تقَدّمت السلطة التشريعية على غيرها من السلطات بأستحقاقاتها المُتحققة من سُلطان الشعب، فباتت هي العماد الرئيسي للنظام السياسي الحديث. لاشيء يعلو على صوتها، حتى دانت لها كل السلطات الاخرى وخضعت لها في المحاسبة والتدقيق. فالسلطة للشعب، والبرلمان الحاكم بأمره وعينه التي لاتنام، وسيفه الذي يكسّر به كل أصنام السلطة حين يستبد بها الغرور ويحلو لها التسلط.


وكلما كانت السلطة التشريعية رصينة البناء والتكوين، وقادرة على تحقيق المطالبات الشعبية وجعلها واقعا حيا، كلما كان ذلك مؤشرا على رصانة القوى والحركات السياسية الممثلة فيها، ودليل صادق على أنها تعيش مع الشعب وتتحسس أماله وطموحاته، وتسعى لرقيّه وتحقيق أنسانيته. أما في العراق فأن المحتل هو من صنع البرلمان حتى قبل أن يحصل الغزو. كان مجسّمه موجودا في أدراج المخابرات الامريكية وفي أذهان قادة الاحتلال، مجرد مستوطنة تحوي شخوصا ذوي أجندات طائفية وقومية ومذهبية وحزبية وعشائرية. وكان هذا التنوع المصلحي المدفوع بأهداف مريضة هو الغاية الكبرى للمحتل، لان قرارتحطيم العراق كان مقصودا منه عدم العودة مجددا الى العراق الواحد القوي المقتدر، وأن أستمرار وجود الحطام العراقي وعدم النهوض مجددا لن يتحقق الا بتصارع الاجندات، وتقزيم الشعب العراقي الى تجمعات صغيرة تتصارع فيما بينها خارج أطار الهوية الوطنية. وعندما حصل الغزو بات لزاما تحويل المجسّم الى مشروع بمرسوم من صانع القرار الامريكي، فولد برلمانا عراقيا مجرد هيكل عظمي متخشّب لاحياة فيه، حاله حال مجلس الرئاسة، ومجلس الوزراء، وباقي المؤسسات التي أنشأها الغازي ضمن منظومتة المسماة (العملية السياسية). وقد يحاججنا البعض ممن يؤمنون بـ(العراق الجديد) بالقول بأن مؤسسة البرلمان العراقي على الرغم من أنها كذلك، لكنها تطورت بمرور التجربة وكانت دورته الاخيرة أفضل حالا من سابقتها من ناحية التخلي عن القائمة المغلقة، وتدني نسبة التزوير وشراء الاصوات. لكن اليقين الثابت أن المتقوّلين بهذا الرأي يجانبون البديهية القائلة بأن عالم السياسة عالم الوقائع الثابتة على الارض، لا عالم الامنيات والفرضيات التبريرية والمقارنات الماضوية. فصدقية التمثيل الشعبي تحت قبة البرلمان مقياسها الوحيد هو درجة التصدي للحاجات الشعبية، والمقدرة الحقيقية للمدعين بحق التمثيل الشعبي في التأثير في أختيار السلطة السياسية التنفيذية، وتحديد الاولويات من ضمن حزمة المطالبات، ورسم السياسة الوطنية.


كما أن المقياس الوحيد لحقيقة المشاركة هو نوعية العمل الحكومي المقدم على طول وعرض مساحة الوطن، بما يلامس التوجها ت المطلوبة من كافة الشرائح الاجتماعية. ولو تم تطبيق هذه المقاسات التي تحددها قوانين علم السياسة والمنطق والتجارب الديمقراطية العالمية الناشئة والمتقدمة، فأن البرلمان العراقي سيسقط مضرجا بدمائه غير مأسوف عليه. لأن التصدي الحقيقي الذي تمارسه هذه المؤسسة في جلسات أنعقادها، هو مجرد أستنزاف للجهد الوطني وأحتكار لنسب مالية كبيرة من الخزينة الوطنية، وجعلها وقدودا لانطلاق عجلة المصالح الخاصة الطائفية والقومية والمذهبية والعشائرية على حساب الصالح العام. لذلك فأن أي جرد بسيط لمنتجات هذه المؤسسة في المجالات السياسية والاقتصادية والعمرانية والثقافية، سوف تؤشر لنا فداحة الاهدار في الواجبات التي يفترض عليها النهوض بها كما تمنحنا صورة واضحة عن المسيرة الكسيحة التي تسير وفقها. فالبرلمانات الحقيقية التي تحترم نفسها وشعوبها يزداد دورها تألقا في الظروف الوطنية الصعبة كما هو حال العراق، وتتضاعف مجهوداتها للنهوض من الكارثة، وتصنع من الحطام ماردا يؤسس لحياة جديدة ذات سمات تحد في كافة المجالات. وليس كما هو حاصل اليوم في الوطن حيث تحول أعضاء البرلمان العراقي الى أمراء حرب يتاجرون بالمأساة الوطنية،ويثرون على حساب فقر المواطن، ويؤسسون الشركات في الداخل والخارج، وتتنقل زوجاتهم وأولادهم في عواصم الدنيا بجوازات سفر دبلوماسية وحصانات بروتوكولية، ويستثمرون كل الوقت المخصص للجلسات في نقاشات تزيد من ثرائهم ورواتبهم ومخصصاتهم، ويحشدون في خطاباتهم الجماهير للفدرالية والاقاليم، ويقسمون الشعب الى فئة محبطة ومظلومة وثالثة مهمشة، وفق أهوائهم وما تشتهي أنفسهم المريضة بوهم الزعامات الطائفية والاثنية، وأجنداتهم الدولية والاقليمية، حتى با ت المواطن البسيط يعرف جيدا من هو الصوت المدافع عن ايران، ومن هو الذي يقبض من الكويت، ومن الذي يتوسل بالوجود الامريكي الدائم، بينما يُترك الناخب وحيدا يواجه مأساته اليومية.


أية مصالح حقيقية جنيناها نحن العراقيون من قيام برلماننا العتيد مؤخرا بمنا قشة مسلسل تلفزيوني يتناول سيرة عدد من الصحا بة الكرام قبل ما يزيد عن الف عام، دون أن يراه الكثير من الاعضاء ثم يقررون منع عرضه على الملأ؟ وهل أنصت أعضاء البرلمان الى ضمائرهم أثناء المناقشة، وهي تصرخ أن كان بها حياة، من الدماء التي كانت تسيل في شمال العراق من جراء القصف الايراني بالمدفعية الثقيلة، وتشريد المواطنين الاكراد من قراهم وديارهم وهم صامتون؟ وأين التيار الكهربائي الذي يمكن للمواطن من خلاله متابعة مايعرض على شاشات التلفاز؟ أنهم يتصدون الى صغائر الامور ويدفنون رؤوسهم في الرمال أمام عظائمها، فرئيس لجنة الشؤون الدينية في البرلمان يقول (هذا المسلسل يتضمن طرح مواضيع حرجة في التاريخ الاسلامي، كانت عبارة عن جدل تاريخي أدى الى مشاكل، وعرضها من خلال المسلسل يؤدى الى أثارة فتنة في المجتمعات الاسلامية) ثم يبرر قرارهم التاريخي بمنع عرضه بالقول (حرصا على الوحدة الوطنية العراقية ..تعلمون أن واقعنا العراقي حساس). لقد تناسى هذا النائب وزملاءه الاخرين أو ربما لم يكن قد ولد ودرس في العراق، بأننا كنا ندرس سير هؤلاء الصحابة على مدى عقود من الزمن، لأنها جزء من المنهج المعتمد في المدارس العراقية، لكنها لم تحفزالفتنة بيننا أطلاقا لان اللحمة الوطنية التي كنا عليها، كانت تجذبنا الى نقاط الالتقاء وتبعدنا عن كل نقاط الخلاف، كما أن شعبنا الحريص على وحدته منذ عشرات السنين والصانع لها، لايمكن أن يزعزعها مسلسل تلفزيزني، وأن من المعيب حقا أن يتصور من يدعي أنه منتخب من الشعب، بأن شعبه يقف على رما ل متحركة وأن وحدته الوطنية بهذه الهشاشة.


أن الخطر الاكبر الذي يهدد الوحدة الوطنية العراقية، هو هذه الاصوات التي تتحدث بأسم الشعب العراقي زورا وبهتانا، والتي تبوأت مناصب تشريعية وتنفيذية أستغلتها للتنكيل به ولتمزيق النسيج الاجتماعي الوطني.


فلا زالت الكتل تحت قبة البرلمان مقسمة على أسس طائفية، وما برح زعماء الكتل النيابية يتقاسمون المناصب التنفيذية وفق ما يسمى تحقيق التوازن بين الطوائف والاحزاب والمحافظات، مما دفع المواطن ليعلن البراءة من الذين يمثلونه، والندم على خوض تلك التجربة البائسة التي أرتدت عليه بنتائج كارثية، فهو ليس بحاجة الى شكليات الديمقراطية ومؤسساتها المشوهة التي أقامها المحتل، بل هو تواق الى من ينتشله من الوضع البائس الذي يطبق على أنسانيته ويسحبها الى مستويات دنيا. نعم قد يكون البرلمان العراقي قد عبر عن بعض المصالح، لكنه تعبير شكلي لأنه لم يكن تعبيرا عن أرادة المجموع، مما دفع بحالة عدم الاقتناع الى السطح والتي تضمر أياما عصيبة قادمة.

 

 

صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الثلاثاء٢٣ رمضـان ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٣ / أب / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د . مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة