شبكة ذي قار
عـاجـل










 

ها هنا جعل الكاتب الدكتور حسين سرمك حسن من نفسه مستثيراًً مكامن الصحفي المعروف سلام الشمَّاع، لتوضِّح وتكشف لمعاشر القرَّاء والمهتمينَ بتقصِّي سير الأعلام من أعيان الثقافة ذات الرصانة والرُسُوخ وشدَّة الاتصال بحياة الناس، ما تنطوي عليه من أسرار وخفايا، واطلعَتْ عليه ذات يوم من ألوان تصرُّفهم وأشتات من تعاملهم هم وما يستجدُّ في محيطهم ويعرض لهم من ضغوطات ومؤثرات وشجون، وأوبتهم منها بالانكسار والتراجع أو بخلافهما من التجاوز والتخطي وانتواء المواصلة في إبلاغ الغايات والمرامِي أقصى ما تنزع له وترغب فيه من الحدود، فصيَّر ذاته صحفياً ممارساًً وذا مهارةٍ ولوذعيَّةٍ، ودالاًً بفطنته وسلاسة طبعه ونفوذه إلى أغوار نفس مَن قصده باستجلاء ما تبقى في ذهنه من ذكرياتٍ تلمُّ بعاداته وأطواره وانطباعاته عمَّا لدى الناس أو رسخ في وجدانه عنهم من خـُلقيَّاتٍ وسجايا، بعدما سمعه أو شهده عِياناًً من إجماعهم على النظر لشخص عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي بمحض الإكبار والتقدير، تسوقهم لذلك وتوفي بهم عليه مسبِّبات وعوامل، منها:

 

إنـَّه كاتبٌ منتج بلغ منتهي ما يطمح إليه أضرابه من الكـُتـَّاب ثرارة وغزارة واشتمالاً على الدقائق من الاجتهادات والنظرات لواقع مجتمعنا الزاخر والمشحون والمحفوف بما تنفر منه النفوس ويقرفها من التعصُّبات والرواسب الفكرية ومعيقات النهوض والمغريات بالقعود عن السعي، وبالتواكل والاقتصار منها على التفاخر بمكارم الأجداد، فأفرغ مجهوده لاستحثاثهم على العيش في الحاضر والائتلاف هم ومقاييسه ومألوفاته ونظمه العصرية ومجتلبات الحضارة الحديثة، شريطة الاستمساك بما أسلفه الغابرونَ وأبقوه بعدهم من قيم وأصالةٍ تنهي عن التنصُّل الكلي ممَّا ورثناه وتذويب أنفسنا في الآخر، وتوهَّم أخصامه من فرط جهارته بدعواه لنبذ الترَّهات والأضاليل، وحماسته في مكايدة المستأثرينَ بالتصدُّر والوجاهة في محافل وأوساط بعينها، من وراء استمرارية هذه الترَّهات والأضاليل في صرفها مجتمعنا عن كلِّ أمل في التغيُّر والانتقال وتطلع لتجديد حياته، وتفرَّجُوا على ما حاقَ به من مضايقةٍ وحَيفٍ، واستهدِفَ به من إرجافٍ وكيدٍ، وانتحال لاتهامات بالتجديف والكفر والالحاد ثبت لها ثباتَ القويِّ الجلدِ الذي لا توهن عزيمته عواصِف من تلفيقات ومفتريات، أو تفتُّ بعضده وتفتر من همَّته محبطات لِما هو عليه من مضاءٍ وإصرار وصدق مع نفسه واستمساك بقيمه وتيقنه التام بتغلبها واكتساحها لِما قد تواجهه من صوارف ومثبِّطات، قلتُ: إنـََّهم ظنـُّوا جرَّاء كلِّ ذلك جحده لمآثر الأسلاف وحفالة تاريخهم بما يزري ويشين، من انتهاك الحُرمَات واغتصاب الحقوق واستباحة الحريَّات، ومن ثمَّ خنوعهم لجور حُكـَّامهم واستبدادهم الذي يبدو مستديماًً دونما استهجان وتململ، فتخيَّلوا تماديه في الاستخفاف بهذا التاريخ المعلي لشأن السلاطينَ والباخس لقدر الشعب وحقه في الحياة بإباءٍ ورفعةٍ وكرامةٍ، وأنـَّه لا يستهدِف من وراء هذه التوجُّهات والأميال والنوازع غير حبِّ الاشتهار والظهور وافتعال المماحكات والمشاجرات بين طوائف الجمهور بمجرَّد تحريكه للسواكن وتأجيجه الخامد من الصراعات، وتحرُّشه بما اعتادوا مزاولته من مراسم وطقوس يولونها ما يسعهم من ولاءٍ وتقديس، إلى ما تقتضيه جبلة الحسد والشنآن والتباغض والاستكثار على الأقران ما حباهم الله به من الاصطبار والتحمُّل واستقبال الأنكاد والرزايا بما يليق من الإغضاء والتجمُّل آونة، أو ادِّعاء بأنـَّها مرَّتْ مرَّ السحابِ لم تلوِِ جانباًً وتزعزع كياناًً وتقوِّض صرحاًً في آونة أخرى.

 

عاد الوردي من بعثته إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة علم الاجتماع نهاية عام 1950م، وتعيَّن مدرِّساً بكلية الآداب ببغداد لتدريس هذه المادة وتلقينها أفهام فتيتنا ممَّن لم يكن لهم بها عهدٌ، واستهلَّ باكورة نشاطه وحضوره في المنتديات الثقافية بإصداره كرَّاسته المطبوعة بعنوان: (شخصية الفرد العراقي)، وهي مجرَّد مبحث تفصيلي ومفيض في خصائص الفرد الإنساني العائش في هذه الربوع، ومبين ومطنبٍ في جبلاته وأطباعه وشمائله في جانبيها الإيجابي والسلبي معاًً، وبإمكان أيِّ قارئ أنْ يُتمَّ قراءته ويستوعبه ساعة يفرغ له ولا يدعه أو ينقطع عنه لشأن من الشؤون كما أذكر، لامتلاكه مزيَّة استهوائه وتشويقه بما اكتنز به من آراءٍ ونظرات وفكرات واجتهادات وتخريجات عُدَّتْ جديدة وطريفة ومحمَّلة بشيءٍ كثير من الإخلاص والحَمِيَّة وسلامة القصد والجدية في طلب الإصلاح، على ما تخلل ذلك من صدم المجتمع بهذه القالة المُبَرَّأة من التقوُّل والتخرُّص، والمتجرِّدة من أيِّمانيَّةٍ ورغبةٍ في انتهاك محارمه وأقداسه، سوى تعييره بأنَّ أفراده جلهم مزدوجونَ في شخصيَّاتهم متناقضونَ في منازعهم وتوجُّهاتهم، ويستبينُ الفرق والتباين شاسعينِ بين ما يلهجونَ به من مُثل وأخلاق ويدَّعونه من أمجاد ومكارم، وما هم عليه في واقع الحال من تدنٍٍ وارتكاس وولوغ في أحطِّ الرذائل وأشنع الموبقات والخسائس، وصُدِم الجمهور بهذا اللون من المُصَارحة في غضون ربيع عام 1951م، والتي استلفتتْ الأنظار نحوه حيث تنبَّهوا على طول معاناتهم للصِراع المحتدِم طوال تاريخهم بين البداوة والحضارة، وكلتاهما تقتضي منهم أنْ يتصرَّفوا بموجب مواضعاتها ومألوفاتها المتوارَثة من نجدةٍ وانتخاءٍ وإيثار ومفاداةٍ وإدلال بالشَمَم وتلويح بالثأر والقوَّة لأدنى تحرُّش وصِيَال، أو خلاف ذلك من استئناءٍ وليونةٍ ومهاودةٍ وائتلاف الأخلاق الجديدة التي أملاها علينا تطوُّر الحياة على أنْ لا نترخَّص في أقدارنا ونستهينَ بمنازلنا.

 

 

تمشية أعمال الناس

 

وقدِّر لي آنذاك وبعد مدَّة أنْ أشهده خطيباًً في حفل تأبين جعفر حمندي، في يوم 29/شباط/عام 1952م، وذلك في قاعة سينما غازي في الباب الشرقي لبغداد، وكان حمندي محامياًً ونائباً فوزيراًً، إنْ لم يكن متفانياًً في خدمة الناس فحسبه أنْ كفَّ أذاه وشرَّته عنهم، وخبروا ما تميَّز به ديوان وزارة العدل في عهده من حُسن تمشية أعمال الناس وتصريف شؤونهم في نزاهةٍ وتجرُّد، وهو من أعيان بلدته الكاظمية؛ وربَّما كان الوردي مبتوت الصلة به جرَّاء غيبته عن الوطن سنيناًً، لولا أنَّه انساق بخلاف ما نوَّه عنه في غير درس أو محاضرةٍ من اصطفاف أبناء العراق وانتظامهم كلَّ مرَّة بجانب المنسوب والمحسوب على بيئاتهم ومناشئهم، حتى لو كان مُغيَّباً وثاوياًً طيَّ الصفائح والرجام، لذا اقتصرَتْ كلماته على التعريف بعادات الشعوب في ندب الموتى والتفجُّع على غيابهم، ومنها شعب الصين، خلص منها إلى مناشدة أرباب الحكم رعي مواطنيهم وتلبية حاجاتهم، وتحاشي إهمال قضاياهم والاستهانة بمطالبهم قدر الإمكان، وكذا يبينُ كأنَّ ما يشتكي الناس منه في ذلك الزمن البعيد نسبياًً هو عينه الماثل في حاضرنا من الفساد والمُرُوق والإخلال بالذمَّة، وتسيُّد الأقوياء وإجحافهم بحقوق الضعفاء؛ إلى أنْ ظهر في ربيع 1954، كتابه البالغ الخطورة (وُعَّاظ السلاطين) الذي هزَّ به أركان المجتمع فتوزَّع مثقفوه بين مستقبل له ومرحِّبٍ به على أساس أنَّه الكتاب الذي طال انتظارهم له من زمان، لِما ينطوي عليه من ترغيبٍ في التجدُّد وتسفيه المعتقدات الجامدة وتعرية وتشنيع وزراية بما تبطنه سرائر الدجاجلة من المحسوبينَ علي الأديان والمذاهب من أهواءٍ ورغائبَ، أو يضمرونه من ختل ونفاق وراء ما يتمشدقونَ به من آدابٍ وأخلاق ويتفنون في تزويقه وتنميقه من تعابير تطـفح بالحَـمد ومكذوب الثنا على أولياء أمرهم، وغايتهم منها تصيُّد أوفر ما يجودون به من لباناتٍ وأوطار، وبين مستهجن ومستنكر له مدفوعاًً لذلك بفعل المغاظة والحسد أو منتحلاًً غيرته على قيم الماضينَ وإشفاقه على موروثهم أنْ تجتثه مُدَّعَيَات مريبة تبتغي تأهيل حياتنا الحاضرة للتلاؤم مع الزمن واللِحاق بركب الحضارة المزعومة، فألفوا الكتب في نقضه وتفنيد ما تضمَّنه واحتواه من حُجج وبراهينَ ودلائل على نكوصنا وتخلفنا وتحجُّر عقولنا وطول لبثنا على الأوهام والأباطيل، وتهيُّبنا من بعض الهياكل والأنصاب البشرية المُسيمَة كبوتنا وزهدنا في حقنا، بينا هي ترتع أبداًً في المُتع واللذائذ وضروب المباهج والشهوات، وحبَّروا المقالات والفصول الضافية في شتم الوردي وذمِّه والقدح في ذمَّته ورميه بالتجديف والكفر واتهامه بالتالي بالإساءة لديننا وشريعتنا، والأغرب أنَّه بالرغم من اجتيازه المحنة بأهون ما يمكن من الخسران والبوار وخروجه منها ألق الجبين مُكللاً بالغار علي أيِّة حال، وانحسرَتْ ظلال كلِّ تلك الألوان والشكول من الإقذاع والتخرُّص، ومال مناوئوه من العامة المُستثارة حفائظهم وغرائزهم والمُسيَّرونَ طوع نزوات مَن ينقادونَ لهم من مُدَّعِي الثقافة والاستناد إلى مقارعة الدليل بالدليل، للمهاودة والتوجُّه نحوه بالإكبار والاحترام، لكن دون أنْ ينتفي من حياته بالمرَّة ما يتعرَّض له من طعون وتخرُّصات بين رصفائه من أساتذة علم الاجتماع بكلية الآداب ممَّن ينفسونه على ما حظي به وبلغه من شهرةٍ وذيوع وأبقته آثاره من صدىًً في وجدان قرَّائه من رافضينَ لتخريجاته واستنتاجاته ومُسَلماته عن حياة مجتمعاتنا العربية بعامة، أو مقرِّيه على صوابيَّتها وسداد منطقها، وأشياعه فيها.

 

قلتُ: الأغرب أنـَّه في أخريات حياته يفصح عن ندامته على تأليفه، بل يعلن تنصُّله من توصُّلاته لاستنتاجاته عن حوادث تاريخنا، قد لا تستحق في ادِّعائه وزعمه ـ ولو متأخـِّراً ـ أنْ تغدو حقائقَ متوثقة يقبلها الناس ولا يتحفظونَ منها؛ كان ذلك في تضاعيف ردِّه علينا نحنُ الثلاثة أدباء: كاتب السطور، والمرحوم عبد الحميد المحاري، ومحامٍٍ أديب هو الأستاذ محمد جواد الغرابي؛ يوم اشتبكنا معه على صفحات جريدة العراق في تموز 1983م، في سجال حول تطور البيان العربي وحاجة المنشئ والأديب البدوة للاقتداء والاقتفاء والجري على منوال مَن سبقونا من كُتَّاب مصر في صقل عبارتهم والتولي عنها بدون زركشةٍ وحذلقةٍ وتنميق وتوشيةٍ مُبَالغ فيها، بل تجيء مستوفية ومشتملة على نصيبٍ وقدَر فائق من الصحَّة والبهجة والتمام بحسب تعبير أبي حيان التوحيدي الذي يجلـُّه الوردي أيَّما إجلال ويشيد بدالته واهتمامه بأحوال الفقراء من الصوفية ومعيشة السواد الغالب في غير أثر أو صحيفة، بينما قدح هو بنتاجات الأديب المصري أحمد حسن الزيَّات وشان بها على أساس أنَّها تعنى بالتصوير الفني وتتوخَّى الجزالة والرشاقة على حساب الإفصاح عن الحقائق، وتخِلُّ بشرط التحديد والوضوح، وعلى أيَّة حال كان إطراؤه على نهج الثلاثة أولاء في تناول موضوعهم وتحاشيهم ما دأب عليه غيرهم سابقاًً من المُحاججينَ والمساجلينَ والمتداخلينَ معه، من التهافتِ والغضبية والاستكبار والعناد وخدش الشعور، ما كان له صداه ووقعه الطيِّب في النفوس؛ كانَ ذلك الردُّ علينا في مقابلة أجراها معه الأستاذ المرحوم أحمد شبيب (أبو صارم)، نشرها بتاريخ 7/كانون الأوَّل/1983م، في صفحة (النافذة الفكرية) التي كان يعدُّها أو يشرف عليها في جريدة (العراق) المحتجبة اليوم، دون أنْ يضع اسمه عليها، وكانتْ هذه المقابلة بعنوان: (حوار صريح مع الدكتور الوردي مرَّة أخرى)؛ وما بالشيءِ القليل أنْ يقيِّمك علي الوردي فيها، وبعد وقتٍ يستفهم منك الأستاذ حميد المطبعي وهو يعدُّ كتابه (موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين)، هل كتبَ عنكَ أو تناولك فلان وفلان؟، ممَّا لا يعنيان في حسابك شيئاًً على إبقائك صلتك الحميمة بهما.

 

وتتالتْ مؤلـَّفات الوردي التي أوفتْ على قمَّة إحكامها ونضجها، وخاتمتها كتابه: (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) بأجزائه الثمانية، والمتميِّز بالرصانة وحسن التوثيق في عمومها، وأذكر أنَّني كتبتُ غداة صدور جزئه الأوَّل في بداية عام 1970م، مقالة نشرتها مجلة (الآداب) البيروتية في شباط منه، في استهوال ما مُنِّي به هذا البلد من جرائر وغزوات أو كتبَ له القدر أنْ يحتاز ويحتوش بقعة من بلاد الله جوار بلدينِ متخالفينِِ في نزعة سكانهما المذهبية، وغدا مهوى تطلعهما للاستحواذ عليه في غير فترة من هذه القرون والعصور المتأخـِّرة بالترادف والتعاقب وتبادل الأدوار، وما جرَّ ذلك إلى تخلفه جرَّاء توالي الحروب والاحتدامات في أرجائه ورباضه؛ وأتيْتُ على استخفافه واستهانته بالشعر وخلوِّه من أيَّما نفع أو جدوى غير إمتاع جمهوره بما فيه من فنٍّ وطلاوةٍ، والطريف أنْ يقول عنه مؤلفا هذا الكتاب المنوي فيه تحليل شخصيَّته أنـَّه كثيراً ما يستدلُّ بأبياتٍ من شعر أبي تمَّام وغيره في أوقات الأزمات وأحايينِ الشدائد والمحرجات!.

 

وأخيراًً ما الذي يبغيه ويريده الدكتور حسين سرمك حسن المختصُّ بعلم النفس من وراء تحليل هذه الشخصية المستنيرة واستقصاء سرائرها الدفينة ومكنوناتها الخافية، والتأمُّل فيما تكشَّف عنه الوردي من اجتراء على موروثات الناس من مهروء عاداتهم وتقاليدهم، ومصارحة المستمسكينَ بها بسخافتها ومنافاتها السداد والمنطق دون أنْ يخشى تهديدهم أو يتهيَّب جانبهم وعقابهم، علماًً أنَّ الدكتور سرمك انخطف وامتلكه الإعجاب وانبهر بهذه السليقة، وشهد له بأنَّه على رأس حركة التنوير الفكري واعتماد النظرة الحضارية ـ إذا جاز التعبير ـ لسائر المعضلات والمشكلات، وصولاًً بحياتنا العامة لقدر من الرَفه والرغادة، وانتفاء الكدر والهمَّ منها، ترى أيروم إثبات أنَّه هو كذلك مبتلى بازدواج الشخصية ما دام يلفيه مسرفاًً في اتهام أفراد مجتمعه بهذه الخصيصة ويدينهم بها لدرجة الإلحاف والمعاودة عليها كلَّ مرَّة، وباعتبار أنَّ هذا النهج من قبيل الإسقاط بحسب منطق النفسيينَ وتقديرهم، لذا تسلَّح وتجهَّز بمخزونه من حصائد اختباراته وتطبيقاته ودراساته لعلم النفس البشرية وهو يوالي أسئلته لندِّه الصحفي سلام الشمَّاع الذي استجاب بترحابٍ وطواعيَّةٍ واتسع صدره لكل منها، فاستزاد القارئ معارفَ جمَّة عن حياة الوردي وما اعتورها من خيبات وإحباطات وافتراقات عن المحيط والبيئة والسلطان والأصدقاء والناس وأعرافهم، وبجانب ذلك إجماعهم على تساميه ورفعته وزكاء نفسه وارتفاعه فوق نحائزهم وأهوائهم، وتلقيه ما تمليه أحقادهم من أقوال متجنية بما لا يمتلكه أحد من السخرية والتظرُّف.

 

ولا حاجة لسوق وقائع وشواهد ممَّا حفل به الكتاب لإثبات ذلك سوى ما قد يُخَيَّل لي أنْ يكون الدكتور حسين سرمك حسن يروم صدم القارئ بتلك المفارقة العجيبة ويستثير دهشته، ليُدَلل على أنَّ الدكتور الوردي لم يسلم من الارتماء في قعر الازدواج الشخصي المذموم في طور من حياته، هو المُبَعَّد من ذوي الشأن والنفوذ إذ لا يتحمَّلونَ أفكاره ونزعاته في توجيه الحكم وتوطيده على الوجهة الصحيحة، بعد سوقه الحكاية المروية بلسان الشيخ جواد الخالصي عن حادثة حبسه واعتقاله في مديرية الأمن العامة، وأنَّ أخاه الشيخ هادي الخالصي جاءَه يوماً لتفقده والسؤال عنه، فشاهد العلامة الوردي خارجاً من تلك المديرية، وسأله الوردي: ماذا تفعل هنا؟، فأجابه: استفسر عن مصير أخي الشيخ جواد، وسأله: ما الذي تفعله هنا دكتور؟، فأجابه الوردي: أنا أعطي محاضرات تثقيفية لضباط الأمن العامة؛ ممَّا أغضى عنه وتجاوزه الأستاذ سلام الشمَّاع ولم يختصَّه بأحد ردوده على ما ساقه الدكتور سرمك من آراء أثناء محاورته له أو في الفصل الثاني المشتمل محاولة في تحليل شخصية مُحَلل الشخصية العراقية!. تري أيكون الوردي في حالته هذه ووضعيَّته البائسة مُكرَهاً ومغصوباً من التردُّد على مكان كهذا، أم أنـَّه تطوَّع لهذه المهمَّة من تلقاء نفسه ولم يفرضها أحدٌ عليه؟، هو الذي اعتاد طوال سنوات الثمانينيات وما بعدها التنديد بإجراءات المسؤولينَ وتدابيرهم في سبيل إركاع البرايا وحنيهم رؤوسهم وهاماتهم تهيُّباً ومخافة منهم، وذلك ما شغل بال الدكتور سرمك وحار في تفسيره وتأويله واستبانة دوافعه وأسبابه واستخلاص نتائج منه ذات قيمةٍ وتأثير على سمعة الوردي ومكانته بين الملأ لو شاع وعمَّ أوساطهم وتلقفه المرجفونَ وقالة السوء!.

 

والثابت ـ كيفما دارَتِ الحال ـ أنَّ مؤهلات الإنسان وطاقاته وقدراته على المطاولة والعِناد والمُكابرة محدودة، إلا إذا تمثل وتخلـَّق بسليقة الأنبياء الفادينَ وطـُبع على وفق أطوارهم وأمزجتهم، وما أكثر الجانحينَ للمُدارة والمُسَايرة بعد أنْ أضناهم العناء وطول المسير وخامرهم اليأس من الوصول لمناهم ورغابهم!.

 

غير أنَّني أجد في الذي سجَّله الصحفي سلام الشمَّاع عن (إنزاله المبحث الأكاديمي من برجه العاجي ليكونَ في متناول الجميع، هو الذي أوصله إلى قلوب الناس من مؤيِّدينَ ومعارضينَ، والذينَ أصبحوا يردِّدونَ نظرياته وفرضيَّاته وذهبَتْ بينهم كالأمثال)، رغم ما طغتْ على أسلوب الوردي في صوغها وحبكها (من علامات التهكم والسخرية)؛ قلتُ: أجدُ في هذا الشكل من عرض الحقائق وطرحها عليهم تطرية لواقع حياتهم واستدراجاً لهم وتغوية على تبني أفكاره لدرجة التحمُّس والانحياز واستبعاد ما خاله الدكتور سرمك تشفياً أو زراية بتدنيهم وهوان شأنهم، قدر ما أجتلي ما يتخلل الأسطار التالية من نصاعة وصحَّة وعين اليقين ممَّا استرسل واستطرد إليه وفيه الأستاذ سلام الشمَّاع وهو بصدد شرحه ماهيَّة النفاق والسبب في ملابسته النظم الاستبدادية ومرادفته لها، فصار عند النتيجة الآتية: (إذا ادَّعى أحدٌ أنَّ العراق يعيشُ الآن في ظلِّ الديمقراطية فهو واهم، لأنَّ النظام الديمقراطي لن يبنى في ظلِّ احتلال ولن تنتعش فيه المليشيات، وترتكب باسمه المفاسد، ويقتل الناس، ولا يفكر برلمانه إلا بزيادة رواتب أعضائه ومناقشة أمور بعيدة عن هموم الشعب، أو سنِّ قوانينَ لا علاقة لها بهموم الناس)؛ مرحى وألف مرحى لهذه الكلمات.

 

فأمَّا بخصوص ما اكتنهه الوردي ـ حسبما احتوته مداخلة الدكتور سرمك ـ وشامه من تحبيذه للزواج في بيئاتنا الشرقية أنْ يكون شبيهاً بزواج الإنترنت، خالصاً منه ومنتهياً بإقراره جواز ممارسة الجنس بين الحبيبينِِ قبل الزواج، فلي أنْ أسأل أيَّ ملـَّةٍ ودينٍ وعُرفٍ يقبل هذا؟، إنْ لم يكن الرأي فيه والنظر له موسومينِ بالذمِّ والاستهجان، أو إنْ لم يعدّ من قبيل تخاريف الشيخوخة الموهونة الفانية، أوَ يغفل المرحوم الوردي أنَّ رعيلاً جماً وجمهرة غفيرة في مجتمعنا الشرقي ـ العراقي خصوصاً والعربي عموماً ـ ما يزالونَ ينظرونَ حِيال المرأة على أنـَّها من المحارم المتجلببة بالدنس والرجس والدونية!، ويتوارى الأشقاء والأخوة خجلاً عشيَّة زفاف أحدى أخواتهم وارتحالها إلى بيت الزوجية، بينا لو كانوا هم الخُطَّاب من الغرباء أو المقبولينَ في نظر أولياء زوجاتهم، فسيحسُّونَ بالزهو والانتصار أثناء ذلك، يستوي في هذا الجُهلاء والمثقفونََ المستوعبونَ من العلوم أرقاها وأرفعها؛ أو أنسى ـ من جانبي ـ رأي ذلك الرجل المهموم والمنشغل بادِّخار الثروات واختزانها بعضها فوق بعض، ونظره إلى العيب وغير العيب من المسالك والتصرُّفات، ويجهر علناً بأنَّ الرجل يُعَاب إذا أعطى، ولا يُعَاب إذا أخـذ؟!.

 

 

كوارث ومآس

 

ومِسْكُ الختام أو بعد البعد ـ كما يقولونَ ـ وعوداً على ما اختتم به الدكتور سرمك كتابه المشترك مع صنوه الأستاذ الشمَّاع، من دعوته الجميع أنْ يتدبَّروا أحوال الشعب العراقي وما مرَّ به وسيمرُّ مستقبلاً من كوارث ومآسٍ، ملأ نفوسنا شجناً ومرارة جرَّاءها، لا سِيَّما عند وقفته وتصدِّيه لاكتناه الصلة بين الجلاد والضحيَّة واستخلاص العِبَر والنتائح منها، بلْ اضطغاناً وتسجُّراً من الهضيمة والويل الذي قاسى منه على امتداد تاريخه، وترتَّب على ما اكتوى به وانصبَّ عليه من الإرهاق والخَسْفِ، تذبذبُ أبنائه وتردُّدهم على رجال الأحزاب والمبشِّرينَ بالمبادئ، وانخداعهم بما يرفعونه ويروِّجونَ له من شعارات وأهداف، ويعدُّونهم أنْ يوفوا بهم على مستقبل زاهر لو أمكنتهم المقادير من مسؤوليات الحكم؛ فأودُّ إعلام مَن لم يعش في ذلك الحين الذي أعقب أحداث تموز/1958م، بسريان الترنيمة التالية بينهم وكثرة تغنـِّي فتيتنا المتحمِّسينَ من شِدَّة فرحتم وابتهاجهم: (يا شعبَ العراقِ.. عهدي بيك باقي ــ مَتجُوز من مَطلبَك.. لو دَمَّك سواكِي)؛ فقد مرَّتِ الأيَّام وأجلبَتْ علينا بما يروع من الدواهي، وبدلاً من أنْ تزهر الآداب والأخلاق، ويطغى الخُلق العالي الرفيع، ويتحلى الأفراد بالتوادُدِ والاستقامة والسواء والنزاهة في تعامُلهم وتصرُّفاتهم، شاعَتْ صنوفٌ لا عهدَ لنا بها من الختل والمداهنة والكيد والمكر والنفاق والتلون والجحود والعقوق بشكل غريب، بحيث فاقَ ما كان عليه الأسبقونَ وما ذمَّه واستهجنه وصوَّره شعراء الحِقب الماضية ولاموا أبناء زمنهم عليه من التبذل والإسفاف على قاعدة المثل اللبناني القائل: (إنَّ الناس مع الواقف، ومتى ما تمكنوا من دَفشِهِ لا يقصِّرونَ)، ومن هذه الشاكِلة تقلـُّب بعض حملة الأقلام المرضوضة في نظرتهم للمحتل الأمريكي وغزوه لهذه البلاد، فثمَّة مَن شجبَ تدخُّله واستنكره في سِياق مُقيلاتِه المنشورة في صحافة العشرينَ يوماً التي سَبَقتْ استتمامه مهمَّته وفراغه منها، لكن سرعان ما تحوَّل واستبدل بموقفه غيره من الاصطفاف والتصافي معه ومعايشته والتكيُّف مع الأوضاع الجديدة والمترتبة على وجوده بيننا، فتبارى مع أترابه ورصفائه من الأدباء لـتصدُّر المشهد الثقافي، مفرِّطاً ومخلاً بأواصره وارتباطاته التي كانتْ جيِّدة نوعاً ما بأدباء وكـُتـَّاب محسوبينَ ـ إلى حدٍ ـ على العهد السابق، ممَّا صِرنا معه في حاجةٍ إلى الاستعانة بفرضيَّات جديدة لفهم مكنون الفرد العراقي وتحليل نفسيَّته، غير فرضيَّات الدكتور علي الوردي بخصوص ازدواجيَّته والتي فاتَ أوانها ولم تعد صالحة لتفسير العجائب والغرائب التي يعجُّ بها زمننا الماثل.

 

 





الاربعاء٠٦ ذو الحجة ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٢ / تشرين الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مهدي شاكر العبيدي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة