شبكة ذي قار
عـاجـل










كما شملت أفرازات الاحتلال كل مناحي الحياة في العراق، وباتت تأثيراتها السلبية واضحة المعالم فيها، كان نصيب الثقافة ووسائلها ومنابرها كبيرا من هذه الافرازات، بل لا نغالي أن قلنا بأن المحتل شرع في أعداد صياغة جديدة لهذا الحقل تتماشى مع النهج الذي يبغيه من عملية الاحتلال، حتى قبل أن يهيء الادوات الاخرى الداخلة في أنجاح عملية الغزو، لأن الحروب في العصر الراهــــن لم تعــــد إعداد جيوش فقط، بل عملية تكاملية بين قطاعات مختلفة تهدف لإعداد أدوات محلية ساندة للجهد الخارجي كي تتحقق المصالح العليا من عملية الغزو بتناغم داخلي، يقلل التكاليف الاضافية ويرسخ المقبولية.


أن المثقف سواء في العراق أو في غيره هو أحد الروافد الاساسية للوعي المجتمعي، وعندما يتحول الى ساند يُجيّر فكره لخدمة المنهج الخارجي، بوعي غرائزي دافعه أشباع نوازع طائفية ضيقة، فإنه يساهم في حرف البوصلة الوطنية للمجتمع، ويساهم في تدمير البنى التحتية للانسان. ولقد كان من الكبائر أنقسام المثقفين العراقيين تبعا لإنقسام السياسيين، الذين كان أختلافهم السلبي على الوطن واضحا بسبب تعدد مرجعياتهم السياسية الخارجية، فالمنطق الصحيح هو أن يؤثر المثقف في السياسة والمجتمع، لأنه النموذج الذي أرتفع بوعيه عن شوائب الواقع، لا أن ينغمس فيها. لكن الواضح اليوم أننا أمام حـــالة فــــرز حاد في الطبقة المثقفة الى أتجاهين. أحداهـــما تتبع أحزاب الاسلام السياسي الشيعي، وتنظر له على أنه هو الحل وتدافع عن أخطائه وخطاياه في الحكم. والاخرى تتبع أحزاب الاسلام السياسي السني، وتبرر له كل السلوك الانتــــهازي الذي أستخدمه للوصول الى الحكم على حساب الوطن والمواطن.


وعلى الرغم من أختلاف المنطلقات الفكرية بين الاتجاهين، لكنهما يشتركان في جريمة صياغة ثقافة طائفية قوامها الحقد والضغينة والاستعداء المستحكم والمستمر بين الاطراف، الذي وسيلة حواره وأقناعه الوحيدة هي السباب والشتيمة، ونبش الماضي السحيق وتزوير حقائقه وبعث الروح فيه من جديد، كي يستمر هذا السجال المفرّق.


كما برز عدد أخر من الكتاب والمثقفين الذين ليس لهم من دالة تميزهم، سوى أنهم أختاروا طريقا أخر في نشر الطائفية السياسية، من خلال الوقوف في الاتجاه المعاكس لإنتماءاتهم الطائفية. اي أن يكون محسوبا على طائفة محددة من طوائف المجتمع العراقي، لكنه تطوع للدفاع عن سياسيي الطائفة الاخرى في الحكم وعن أساءاتهم وجرائمهم، مشنعا بسياسيي الطائفة التي ينتمي اليها، وهو موقف لايعبر بالضرورة عن أنحياز وطني، لأنه لازال يستخدم الوسيلة الطائفية في التعبير عن موقفه تجاه معاناة الشعب والوطن، ولايعني أنقلابه على طائفته دليلا على أنحيازه الى الايمان الفعلي بالخيمة الوطنية الواحدة . وأذا كانت بعض وسائل الاعلام والفضائيات قد أستمرت في أعتمادهم والتصفيق لهم، فأن مرد ذلك لأنهم في نظرها يمثلون خرقا في صفوف الطائفة التي ينتمون اليها لا أكثر، بأعتبارهم الاقرب الى الحالة ومن نفس النسيج، مما يعطي بعض المصداقية في التسقيط السياسي والاخلاقي المعتمد بين الاطراف السياسية، من خلال وسائل الاعلام الناطقة باسمهم.


أن نقل الطائفية السياسية الى حالة تثقيف يومي يمارسها المثقفون حالة خطيرة جدا، لأن المثقف هو وعاء الوعي في المجتمع، وأن التركيز على ما عمله فلان من هذه الطائفة ومقارنته بما عمله فلان من الطائفة الاخرى، إنما يدخل المجتمع في حالة من غياب الوعي عن المنهج السياسي العملي والنظري الذي يدار به المجتمع والدولة اليوم في العراق، لأننا بذلك نبسط الحالة العراقية ونجعلها مجرد شطحات وجرائم، وفساد أداري ومالي يرتكبه هذا أو ذاك بينما هي أكبر من ذلك بكثير. هي ليست ما يسمى (شيعة وسنة وأكراد)، كما أنها ليست لعنات نطلقها على هذا المعم أو ذاك، وكذلك ليست فقط جرائم تنسب للجلبي والمالكي والهاشمي والصدر وغيرهم من رموز العملية السياسية.


وهي ليست بكاءا مُرا على التهميش والاجتثاث وأنعدام التوازن الطائفي في مؤسسات الدولة. هي دراسة سايكولوجية شاملة للنفسية العراقية، تحولت الى منهج تدار به الدولة والمجتمع، هدفها تشتيت المجتمع العراقي وأدخالنا كمثقفين في أتون التخندق الطائفي، كي ندافع عن ساستنا المتهمين بالجرائم حسب أنتماءاتنا الطائفية والقومية، لكي نقع في غفلة الوعي التي يستفيد منها المحتلون وأعوانهم لتثبيت منهجهم التدميري، القائم على أساس منع النهوض العراقي مرة أخرى، بينما نحن منشغلون في توافه الامور. أن الكثير مما يتحدث به البعض وما يكتبونه أنما هو مجرد نكايات طائفية هدفها التقرّب من هذا الطيف السياسي أو ذاك على حساب المصلحة الوطنية العليا، لأنه لايوجد اليوم في العراق طائفة مالكة وأخرى هالكة، بل الجميع في حالة قاسم مشترك واحد هو المأساة. أي أنك لن تسمع أحدا يقول لك أن طلبت وظيفة أذهب الى فلان (الشيعي) لأنه وزير، أو فلان (السني) لأنه وزير. سيقولون لك أذهب الى فلان المسؤول في حزب الدعوة أو المجلس أو الصدري أو من أطراف القائمة العراقية. ذاك يعني أن هنالك مافيات تغدق عليك المنصب والمال مقابل الاشتراك في الجريمة والفساد والتحشيد في يوم التصادم.


أما الصحافة التي سميت بالسلطة الرابعة، تبعا لأهميتها ودورها المقدس في الدفاع عن المواطن ضد الاستبداد السياسي والتغريب وأستلاب الهوية، فقد باتت هي الاخرى محوّرة في العراق طبقا لمنهج المحتل وألاطراف الحاكمة، ووفقا لمقتضيات مصالح الاجندات، فتقاطعت مع مصلحة المواطن وباتت أحدى الوسائل الفعالة في قهره، من خلال محاولاتها تثبيت أركان واقع أجتماعي أفتراضي، يقسّم المجتـــمع الى مجتمعيات صغرى طائفية وعرقــــية، ويبرر القتل والتدمير والفساد بكل صوره، ويمارس أكبر عملية تزوير للحقائق على الارض، في سبيل استمرارية السلطات السياسية في الحكم. وبذلك تخلت هي الاخرى عن دورها الشريف والمقدس في تفعيل الوعي الاجتماعي، والتبصير بعيوب السلطات وتحقيق متطلبات المواطن، وأنتهجت نفس أسلوب الكذب والتضليل الذي مارسته وسائل أعلام عالمـــية غربية، عشية غزو وأحتلال العراق لتحقيق أغراض سياسية ثبت انها باطلة.


أن تحكم الاحزاب الطائفية وبعض المنظمات المشبوهة التي تعمل في العراق وخارجه باغطية مختلفة، في عملية تمويل الصحف وتدريب الصحفيين العراقيين، أنما هي عملية غسيل دماغ كبرى تمارس ضد شعبنا بوسائل مؤثرة، وتحت مسميات براقة تتبجح بحرية القول والكتابة، التي لا وجود حقيقيا لها.


أن الواقع المزري الحالي لايلغي أطلاقا الدور الكبير الذي يلعبه كتاب المقاومة، والمواقع الناطقة بأسمها على أختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية. فهم يمارسون عملية توعية مقدسة من خلال فضح أكاذيب السلطة ومرجعياتها السياسية، ويساهمون مساهمة فعالة في نشر ثقافة الرفض الايجابي لكل الظواهر الغريبة والشاذة، والتركيز على القيم والمفاهيم الوطنية الجامعة. أن الاحتلال زلزال كبير حدث في المجتمع العراقي، ولن تنتهي تأثيراته السلبية الا بزلزال أخر معادل له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، يفترض أن نبدأه في أنفسنا أولا نحن الكتاب والمثقفين .

صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الثلاثاء١٢ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٦ / أذار / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة