شبكة ذي قار
عـاجـل










أثبتت العمليـة السياسيـة في العـراق بأن الانسداد التاريخي لازال يحكـم جميـع منافذهـا، وأن أروقتها معبـأة بالعديـد من الاسلحة التي لـم يستعملها الشركـاء بعد ضد بعضهم الآخـر، وأن أنقاذهـا من العلل وتطهيرهـا مـن الامـراض مجـرد أمنيات لاتوجـد الا في عقـول مـن صنعـها وشـارك فيهـا. لقـد أطلقت الازمـة السياسية الحاليـة أعلانا جديدا عن إستمراريـة وجـود كـل القوى الفاعلة فيها، قوى سياسيـة وقوى عشائرية وأخرى دينية. وان كانت القوى السياسيـة والعشائريـة هي سيدة الموقف اليومي في الساحة السياسيـة العراقيـة، نسمع تصريحاتهم وشتائمهم وأتهاماتهم، ونشاهـد أفعالهم التي لاتخرج عن نطاق تدمير كـل شيء حي في الوطن، فإن عِمامـة السلطـة التي أنسحبت من المشهد العراقي في الفترة القريبـة الماضيـة، عادت مـن جديـد الى ممارسة دورهـا السياسي الحامي لكـل كوارث العمليـة السياسية. لقد أنتجت لنا التجارب الديمقراطيـة الرصينـة تُراثا سياسيا قائمـا على أساس رقابة الشعب الممثل بالسلطة التشريعية ( البرلمان ) على الحكومة، وحقـه في محاسبتها وعزلها أن تطلب الامر ذلك، لكن التجربة ( الديمقراطية ) العراقية أنتجت لنا رقابة سلطة ( العمامة ) على الحياة السياسية، حتى أصبحت الحامي الرئيسي للسلطة الباغية على الشعب والوطن، والمدافع الوحيد عن مفاسدهـا ما ظهر منها وما بطن.


فبعد الفتاوى التي حصرت التصويت بقائمـة محددة دون غيرها في الانتخابـات الاولى، وبعـد تحريم المشاركـة في التظاهرات الشعبيـة التي أنطلقت ضد الفساد الحكومي والحزبي بالتزامن مع الحراك الذي ساد بعض الاقطار العربية، عادت سلطـة العمامـة مجـددا لترتكب نفس الخطيئة بالدفاع عن وجوه ومناصب سياسية لم يكسب منها المواطن غير المآسي التي تحُط من قـدره وأنسانيته، ووضعت الوطن في المراكز الاولى عالميا في قوائم الفساد والقتل وأنتهاك الحرمات والحقوق وإهدار الثروات، بينما كل قيم وتعاليم الاديان السماوية جميعها تقف دوما الى جانب الفقراء والمحرومين والمهمشين، وترسم دورا عظيما لرجل الدين بأعتباره الممثل الحقيقي لمصالح الامة في وجه الحاكم الظالم. نعم لقد بات كل ما في العراق ( الجديد ) يعافه العقل والمنطق، ويخالف كل القيم التي عرفتها البشريـة، ويناقض كـل قوانين وأعراف السياسـة وأستحقاقـات الاوطـان، لكن العراقيين مروا كثيرا بمثل هـذه الظروف التي كانت ترافق حـالات الغزو والاحتلال، ويعرفـون جيدا أنها طارئـة ولديهم القدرة على تجاوزها، لكن الاصعب في الحالة الراهنة هو أصطفاف سُلطة العِمامـة مع الظرف المريض الذي يمرون فيه، حتى باتوا يتساءلون عن مصلحة رجل الدين الذي يضع المذهب قبل الدين ويضع رجل السياسـة قبل الوطن، فيصدر فتـاواه حاشدا فيها جهد الاتباع والانصار والمُريدين، خلف حاكم بات ظلمـه وجبروتـه وطيشه السياسي مصدر تهديد فعلي لسلامة الوطن والمجتمع، فينخنق كل جهـد وطني شريف يتحرك للتحشيد الشعبي الذي يروم التغيير.


إن سلامـة الاوطـان والمجتمعات هي قيم دينية قبل أن تكون قيما دنيوية، لذلك ليس من حق أحد أن يُنزلها من قمـة سُلّم أولويات الدين كي يضع بـدلا عنها مصلحـة طرف أو جهـة دنيويـة، لأن في ذلك خطـورة كبـرى تُربك الفهم الديني لـدى عامـة الناس وتُغييب الوعـي لديهـم، وتُضعف الشـعور بالانتمـاء الى المجموع، ولقـد كانت الفتـاوى الاخيرة التي صدرت عـن رجلي الدين، الشيخ محمد مهدي الاصفي والسيد كاظـم الحائري، تصبان في هذا الاتجـاه. فالاصفي يفتي بعـدم جـواز إضعاف حكومـة رئيس الوزراء نوري المالـكي، واعتبر أنهـا جاءت نتيجـة معانـاة طويلـة ودمـاء وجهـود كثيرة للشعب العراقـي، داعيـا الشعب العـراقي إلى مساندتها. لقد أسبغ المفتي في فتواه المذكورة صفة القوة على الحكومة الحالية ويرفض أضعافها، وهي مفارقـة كبرى لا تستقيم مع العقل والمنطق لأن الجميع يعلم بأنها ولـدت كسيحة، وأن عـددا من وزاراتها لازالت لحد الآن شاغرة، وأن الكثير من الملفات التي تمس حاجات الناس، لازالت عاجزة تماما عن التصدي لها والنهوض بها. وأذا كان الاصفي يرى بأن هذه الحكومـة جاءت نتيجـة دمـاء وجهود الشعب العراقي كما يقول، فكيف له أن يُغلّب مصالح شخوص الحكومة على الدماء والجهود الشعبية، ويدعـو الى السكينة وأستمرار الدعم الشعبي؟ أنـه بذلك يدعـو الناس الى أستمرار وضـع أعناقهم تحت مقصلة الحكومة، وبذلك يعود ليضع نطرية الحق الالهي بيد أزلام السلطة الحالية كي يحكموا بها ويضمنوا عـدم خروج أحـد عليهم.

 

أما الحائري المقيم في أيـران فيقول ( يحرم التصويت في أي مرفق من مرافق الحكـم العراقي إلى جانب إنسان علماني ) ، وهو بذلك يضع المنهج السياسي لمن يتولى المنصب قبل الكفاءة والنزاهة والقدرة على الخدمة العامة، مما سيؤدي الى أهدار الطاقات والحقوق، ويضر بالمصلحة العامـة ويعطي سبقا وأفضليـة لفئة دون أخـرى، بينمـا هـم يتشدقون ليلا نهارا بدستورهم الذي يقولون أنه وضع الناس جميعا على خط شروع واحد.


أن الادعـاء بأن العـراق قد أنتقل الى عهد الديمقراطيـة، أنمـا يفرض على الجميع مراعـاة أستحقاقات هـذا النظـام السياسي، والالتزام التـام بالمـدارات التي رسمهـا لكـل قـوى المجتمع، لأن العمـامـة قـد تتحول الى أيديولوجية إقصائية في حالة تمكنها من السيطرة على قوة السلطة والمال، كما أن السلطة قـد تذهب بالمجتمع الى مسالك بعيدة عن تحقيق القيم الانسانيـة، في حالـة عدم جود رجل دين حقيقي يوفـر القيم النبيلة للمجتمـع. لذلك بات العراقيـون اليـوم يتطلعون الى رجـل الدين الـذي يُسمع صوتـه عاليا عندما يتحدث عن مأساتهم الانسانية، ويرفع سيفه بالحق في وجه الظالمين المتلاعبين بحقوق الايتام والارامل، وقائدا للمجاهدين ضد الاحتلال وأعوانه، وليس الجاهرين بأصواتهم دعما لحكومة باطلة، والحاشدين الناس على السكينة كي تستمر المأساة .

 


صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الاثنين٢١ رجــب ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / حزيران / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة