شبكة ذي قار
عـاجـل










 

بين أيدينا سلسلة مقالات بعنوان: هل القيادة تولي الموقع الأول في الدولة أو المجتمع؟ ، وهي دراسة دينية- تاريخية، وسياسية- فكرية، ونفسية- اجتماعية، تطرح أسئلة وتجيب عليها، وتثير قضايا وتناقشها، مؤلفة من أربع حلقات :

 

الحلقة الأولى - حب الرئاسة والجاه :

حب الرئاسة والجاه طبيعة في النفس البشرية غير المصقولة بالقيم الأخلاقية؛ وهو مرض من أمراض القلوب يتسبب بأمراض كثيرة، ويوضح هذا المعنى الفضيل بن عياض بقوله: "ما أحب أحد الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير" ، وإذا أردنا الانطلاق من هذه المقولة، والزيادة عليها فإننا نؤكد أن حب الرئاسة والجاه يورث صاحبه تضخيم الأنا، وعشق الذات، وحب الدنيا، وهو جبلة راسخة في نفس الإنسان -كما يقول ابن خلدون- وإن لم تتم السيطرة عليه بتزكية النفوس وتربيتها وصقلها وتهذيبها، ودفعه نحو التشكل في قوالب إيجابية، فإنه يماثل في سطوته ونفوذه أثر المخدر الذي يرسل الضمير والمعايير والمبادئ في رحلة لا عودة منها، وفي الإسلام علم يعالج أمراض القلوب، ومنها هذا المرض، ألا وهو علم التربية والسلوك، وقد وضع أسسه وأصوله القرآن الكريم وحامله الرسول الخاتم، فعندما يسأله صاحبه أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه– أن يوليه قائلا: يا رسولَ الله، ألا تَسْتَعْملُني؟ يجيبه قائلا: «يا أبا ذَرٍّ، إِني أرَاكَ ضَعيفاً، وإني أحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسي، لا تَأمَّرنَّ على اثْنينِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتيمٍ» ، فقوله: ( لا تَأمَّرنَّ على اثْنينِ ) المراد به القيادة في مجالات العمل السياسي والإداري، ويراد بقوله ( ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتيمٍ ) القيادة في مجالات العمل الاجتماعي والاقتصادي، فنبه عليها بذكر احدها.

فكأنه يقول له كما قال القائل:

 

قد رشَّحوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له ... فاربأْ بنفسك أن تَرعَى مع الهَمَلِ

وهي رسائل موجهة إلى من جل همهم  البحث عن الصدارة، والتطلع إلى القيادة، وزج أنفسهم في صراعات لا طائل ورائها، من اجل الزعامة والكراسي والمراكز والألقاب الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها، ومن لا يترفعون عن ( أوساخ الدني ) ، فإذا كان أبو ذر الغفاري، رائد حركة الزهد في الإسلام، المطلع اطلاعا كافيا على الوحيين: الكتاب والسنة، الذي عاش وسط خير جيل عرفته البشرية هو جيل الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين- ممنوعا من ممارسة العمل السياسي والإداري، فما بالك ببقية الناس؟! ولا سيما حكام العراق الجدد، الأميون أو شبه الأميين في السياسة والإدارة ؟! ولله أبوه، ذلك الشاعر العراقي الكبير الشيخ علي الشرقي، كأنه انشد فيهم بيته الطريف:

قومي رؤوس كلهم  أرأيت مزرعة البصل؟

 

الحلقة الثانية - لا يشترط في الزعيم أن يكون المسؤول الأعلى، والرجل الأول :

 

القيادة هي عملية تحريك الناس نحو الهدف، ولا يشترط في القائد أن يتبوأ مركزا رسميا أو شعبيا، فيمكن أن يكون شخصا عاديا، لكنه يمتلك القدرة على التأثير فيمن حوله، وهذه هي الشخصية القيادية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:

 

1. قيادة يوسف –عليه السلام- لمصر في زمانه: تولى يوسف –عليه السلام- منصب العزيز، وهو لم يكن المنصب الأعلى في مصر يومئذ؛ لأن فوقه منصب الملك، لكن يوسف –عليه السلام- كان قائد مصر الفعلي، نقلها من الركود الاقتصادي، والأزمة الاقتصادية إلى الرفاه.

 

2. المواهب القيادية لخالد بن الوليد –رضي الله عنه- في غزوة أحد أنقذت جيشه من هزيمة ماحقة: كان خالد بن الوليد –رضي الله عنه- قبل إسلامه احد القادة الميدانيين للمشركين في غزوة احد، فقد كان قائدا لسلاح الخيالة، لكنه لم يكن القائد الأعلى للجيش، وقد برزت مواهبه القيادية عندما استغل ثغرة نزول مجموعة الرماة من الجبل الذي كانوا عليه، لحماية ظهور المسلمين، وجمع صفوف جيشه، وأجرى عملية التفاف عسكري على قوات المسلمين، وضربهم من الخلف، وقلب نتيجة المعركة، ومعلوم انه ليس كل احد يستطيع أن يرصد الثغرات في صفوف الخصم، ويوظفها لصالحه، وليس كل احد يستطيع لململة شتات قواته المبعثرة المنهارة المنكسرة المكلومة، ويشن الهجوم المقابل، ويملك حينئذ مفاتيح النصر، سوى القادة الحقيقيين.

 

3. صلاح الدين الأيوبي قائد تاريخي وان لم يكن خليفة على الأمة في زمانه: لم يكن صلاح الدين الأيوبي خليفة على الأمة في زمانه، وإنما كان يعمل تحت إمرة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ( صاحب دمشق وحلب والموصل ) ، ثم أصبح حاكم مصر، وضم إليه بلاد الشام، وخطب للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، معلنا بيعته له، وقاتل الصليبيين ودحرهم. لكن لمع اسم صلاح الدين نجما في سماء الإسلام، غطى اسمه أسماء الخلفاء والحكام والقادة، فإذا ذكر لم يذكر معه خليفة ولا ولي عهد ولا أمير، ولا غيرهم.

 

4. بسمارك: أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك ( 1815- 1898م ) رجل دولة وسياسي بروسي- ألماني شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا بين عامي 1862 و1890م، وأشرف على توحيد الولايات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية أو ما يسمى بـ "الرايخ الألماني الثاني" , وأصبح أول مستشار لها بعد قيامها في عام 1871م، وعلى الرغم من وجود الامبراطور الألماني إلا انه كان القائد الفعلي، حتى عزله الامبراطور فيلهلم الثاني عام 1890م، ولدوره المهم خلال مستشاريته للرايخ الألماني فقد أثرت أفكاره على السياسة الداخلية والخارجية لألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر.

 

الحلقة الثالثة- القيادة الجماعية:

يجلي مفهوم القيادة الجماعية حديث: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسؤْولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فالإمامُ رَاعٍ، ومَسْؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، والرجلُ رَاعٍ في أهله، وهو مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمرأَةُ في بَيْتِ زَوجِها رَاعيةٌ، وهي مَسؤولَةٌ عن رَعيَّتِها، والخادم في مال سيده راع، وهو مسؤول عن رَعِيَّتِهِ» وفي زيادة: «والرجلُ في مالِ أبيهِ راعٍ، ومَسْؤولٌ عن رعيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وكُلُّكُم مَسؤولٌ عن رعيَّتِهِ» ، والحديث يقرر مبدأ المسؤولية المشتركة، والقيادة الجماعية، التي لا يراد بها التساوي في الإرادة وفي اتخاذ القرار بين مكونات تلك القيادة، فالإرادة النهائية والقرار النهائي بيد المسؤول الأعلى، وهو ما يزيده بيانا قول عليٌّ -رضي الله عنه- حين عرضت عليه الخلافة بعد استشهاد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- : "دعوني والتمسوا غيري ، أنا لكم وزير خير لكم مني أمير" ، فالوزير هنا أما المراد به الوزير حقيقة، أو المستشار، وكل منهما إذا عمل للصالح العام، وأتقن عمله فهو قائد من موقعه، فالقيادة كلمة تساوي العطاء والإبداع على قاعدة احترام التخصصات، فمن كان معطيا مبدعا وموهوبا فهو القائد، وهو المفضل على غيره، كما جاء عَن جَابر-رضي الله عنه- مرفوعا: "خَيْرُ النَّاسِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ" .

 

وفي تاريخ كل أمة رجال خالدون قدموا الكثير، وحفروا أسماءهم في ذاكرة الناس، ونقشوها على صفحات التاريخ كل في مجاله، فنالوا كل تكريم واحترام، وحفظهم التاريخ في ذاكرته.

 

وفي حياة كثير من العظماء «رجل ثان» كان معه يشد من أزره ويسانده ويدعمه ويقف بجواره في أصعب المواقف وأحرج اللحظات وكان له بمثابة الذراع اليمنى... ومن هؤلاء من اكتفى بهذا الدور وارتضى أن يظل دائما في الظل وربما ينساه التاريخ، ومنهم من أراد أن يحقق ذاته هو الآخر وأن يقفز إلى مكانة الرجل الأول ووصل بعضهم بالفعل إلى هذه المكانة، ولكنهم احتفظوا بولائهم واحترامهم لزعمائهم، وساروا على دربهم وأكملوا مسيرتهم. وهذه أمثلة توضح ذلك:

 

1-  ثنائية موسى وهارون: كان كل من موسى وهارون –عليهما السلام- قائدين دينيين في زمان ومكان واحد.

2- ثنائية الشيخين أبي بكر وعمر: شكل كل من أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- ثنائية قيادة ربانية رشيدة بعد وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- .

 

3- ثنائية سعدي الأنصار: سعدا الأنصار هما سعد بن معاذ سيّد الأوس، وسعد بن عبادة سيّد الخزرج، وكانا يمثلان قومهم أمام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولهما يقول القائل:

فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ ... بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ

 

4- ثنائية غاندي ونهرو: يعد الزعيم الهندي «المهاتما غاندي» واحدا من عظماء الهند بل والعالم، فقد لعب الدور الأبرز في إعادة صياغة تاريخ الهند الحديث، واليه يرجع الفضل في تحرير بلاده من الاحتلال البريطاني في منتصف القرن العشرين، واعتمد في نضاله على سياسة العصيان المدني أو المقاومة السلمية «اللا عنف» القائمة على أساليب عدة منها الصيام، والمقاطعة، والاعتصام.

وقد نال غاندي لقب «مهاتما» الذي يعني «الروح العظيمة» تقديرا لجهوده وكفاحه في سبيل نصرة بلاده، كما يعتبره الكثيرون «أبو الأمة الهندية» ، واتخذت الدولة يوم مولده الموافق 2 تشرين الأول/ أكتوبر عيدا تتعطل فيه المصالح الحكومية هناك، ويحتفل العالم بيوم مولده باعتباره يوما عالميا «للا عنف» .

 

ولما غاندي كان الملهم الأول للشباب الهندي المتطلع لتحرير بلاده من قبضة الانكليز، فقد آمن به المناضل والثائر الشاب آنذاك «نهرو»، واتخذه مثلا أعلى له وقدوة يقتدي بها، وعندما التقى الاثنان ظهرت بينهما نقاط اتفاق عديدة، وجمعهما هدف واحد وهو تحرير الهند، فعملا معا على محاور عدة إلى أن تحقق لهما ما أرادا، وخلال فترة تواجده بجواره حرص نهرو على أن يكون الداعم والمساند لكفاح زعيمه غاندي، وأسهم بشكل فعال في نشر أفكاره بين الشباب، ما زاد من نفوذ المهاتما وشعبيته بين الناس، وهو أيضا وثق في نهرو إلى أبعد الحدود وقربه منه إلى أقصى درجة، واتخذه ذراعا يمنى له إلى أن تحقق لهما ما سعيا إليه، واستقلت الهند وأصبح نهرو أول رئيس وزراء لها.

 

5. ثنائية جيفارا وكاسترو: تشي جيفارا رغم أن عمره كان قصيرا، فإنه حقق شهرة عالمية غير مسبوقة ولا يزال حتى الآن رمزا من رموز النضال في العالم أجمع. عرف عنه الإخلاص والتفاني من أجل نصرة رفاقه، فكان خير داعم ومساند للعديد من الثورات، وقد لعب الدور الأبرز في مساندة ومؤازرة رفيقه الثائر الكوبي «فيدل كاسترو» ، وظل خلفه إلى أن انتصرا معا على الظلم والطغيان، وعندما وصل الأخير إلى الحكم لم يتركه رفيقه جيفارا، بل ظل بجواره أيضا يضع معه خطط النهوض بالبلاد ويروج لأفكار الثورة في العالم، وهو ما نجح فيه بفضل «الكاريزما» المميزة له، وبذلك كان «تشي» بمثابة الرجل الثاني في حياة ونضال الزعيم الكوبي كاسترو، وإليه يرجع الفضل في نجاح ثورته.

 

وكانت كلمات جيفارا قوية شديدة التأثير في نفوس الكثيرين، وكانت تضرب على وتر حماسهم وشعورهم بالظلم الكبير الذي يتعرضون له، ولا يزال المناضلون يرددون أقواله، ومنها « الثورة حمراء كالجمر، قوية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن» ، فقد صار جيفارا –في نظر الكثيرين- رمزا من رموز الثوار على الظلم.

 

الحلقة الرابعة - تنزيل مفهوم القيادة على أرض الواقع :

في حلقة سابقة خلصنا إلى أن القائد هو من ينقاد له غيره، بغض النظر عن كونه المسؤول الأعلى، والرجل الأول أو لم يكن، وتقرر إمكان قيام قيادة جماعية بشروطها وضوابطها. وقد آن الأوان لتنزيل مفهوم القيادة على أرض الواقع، وهو ما نتناوله في العناوين الآتية:

 

1- القيادة في مجالات العمل الإسلامي:

في تراثنا الشعبي تستعمل لفظة ( الملالي ) في وصف علماء الدين الإسلامي، و ( المل ) في نظر بعضهم هو الممتلئ علما وإيمانا، فيملي على الملأ بمقتضى علمه وإيمانه. وبصرف النظر عن علاقة ذلك التعريف بلفظة ( المل ) من عدمها فإن هذه الأشياء المذكورة هي بعينها صفات القائد الفكري، ولو نزلنا هذا الفهم على ارض الواقع في العراق فإن أي ( عالم ) أو مجموعة من ( علماء ) الدين الإسلامي تواطئت مع المحتل، أو هادنته، أو سكتت عليه، فإنها ليست أهلا للتحدث باسم الدين، ولا زعامات ( روحية ) ، تحدو الأرواح إلى بلاد الأفراح، إنما القائد الديني الشرعي من بلغ الناس فقه الجهاد، وجاهد بنفسه في الله حق جهاده، حمل أو لم يحمل لقبا دينيا رسميا أو غير رسمي .

 

2- القيادة في مجالات العمل السياسي:

ذكرنا عند تعريفنا للقيادة أنها توجيه الجماعة الوجهة الصحيحة، بطريقة تضمن بها طاعتها وثقتها واحترامها وتعاونها. و حكام العراق الجدد لا يوجهون أنفسهم فكيف يوجهون غيرهم؟! إنهم دمى متحركة، يحركهم الخارج كيف يشاء، ومتى يشاء، وأين يشاء. إنما قادة العراق الحقيقيون هم مجاهدوه، المستقلون والأحرار والسادة في أرضهم، ووسط أهلهم، لا عبيد الأجنبي، الذين رهنوا حياة شعبهم بإرادة محتلّيه !!

 

3- القيادة في مجالات العمل الإداري:

في ظل ( الديمقراطية ) التي صدرتها أمريكا إلى العراق تقوم على قدم وساق سوق كبرى لبيع وشراء الحقائب الوزارية في الحكومة، وكل ما تتطلبه السوق من شروط متوافر في عملية بيع وشراء الحقائب الوزارية، وأعني وجود سماسرة لتسهيل عمليات البيع والشراء، ومفاوضين لهم صلاحيات طرح سقوف معينة للأسعار، واللافت أن السماسرة الذين يتوسطون في بيع وشراء الحقائب الوزارية هم الأكثر استفادة ماديا، إذ يأخذون عمولة من الجانبين، البائع والمشتري.

 

وقد قسمت المافيات المقربة من رؤساء الكتل الوزارات إلى مربحة وغير مربحة، ومربحة جدا، وأخرى مربحة بصورة اعتيادية، وغيرها من التسميات التي تعارفت عيها مافيات أحزاب السلطة.

 

ومن اعترافات أزلام العهد الجديد عرفنا أن للوزارات أسعارا محددة، وأن أغلاها الوزارات الأمنية ( الدفاع والداخلية ) ، ويرجح بعض النواب وصول قيمة الدفاع إلى خمسة ملايين دولار، في حين بلغ سعر وزارات مثل الإسكان، والنقل، والصحة، والبلديات بين ثلاثة ملايين ونصف، إلى أربعة ملايين دولار، نظراً للعقود والمناقصات التي تنطوي عليها ؟! أما وزارة الكهرباء فإنها بيعت بمبلغ عشرة ملايين دولار وبالتأكيد إن هذا المبلغ لا يساوي شيئا أمام عقودها الوهمية والعمولات التي يتقاضاها القائمون عليها، وهذه الوزارة تدار من عمان وليس من بغداد.

 

وإذا كانت الوزارات تباع وتشترى فما بالك بما هو دونها من هياكل الدولة وأجهزتها ومؤسساتها والوظائف والتعيينات ؟! فقد صار كل شيء معروضا للبيع في سوق بيع الدولة العراقية، حتى الوظيفة الصغيرة، وفساد ضارب بأطنابه، وبيع للمواقف السياسية والإعلامية وغيرها، وبيع للضمائر بين الكتل المتغانمة على سرقة ونهب الوطن، وبيعه ( سكراب ) لمن يدفع أكثر، بل بيعه كله بقضه وقضيضه لدول كبرى وأخرى إقليمية، كبيرة وصغيرة.

 

فهل يقال عمن يتقلدون المناصب والوظائف بهذه الطريقة الفاضحة والمخزية: إنهم قادة إداريون ؟! ، أو يقال: إنهم قادة ديمقراطيون ؟؟!!

 

إن القادة الإداريين الحقيقيين عندنا هم أولئك الذين ينهون عن هذا المنكر بشجاعة وصدق، ولا يغيب عن بالهم قانون ( الحلال والحرام ) ، فيحللون الحلال، ويحرمون الحرام، وهم الذين يعلون من قيمة العمل وإتقانه، وهم أهل العطاء والانجاز والإبداع، لا أولئك الذي تنشب بينهم صراعات حول مركز أو منصب أو عنوان وظيفي ونحوه الذي شمل كل مفاصل الدولة، وكافة مناحي الحياة، والطريف انه شمل الأوقاف والشؤون الدينية، والرياضة، والطب، والتربية والتعليم، فعلى سبيل التمثيل: تندلع ( حرب باردة ) بين اثنين أو أكثر حول إدارة مدرسة ثانوية أو ابتدائية، أو رئاسة قسم، أو عمادة كلية، وقد فاحت روائح التنافس المحموم على رئاسة جامعة، أو عمادة كلية في بغداد ومحافظات أخرى، وكانت روائح نتنة بما انطوت عليه من وساطات ووشايات واتهامات متبادلة ورشوة وتلفيق وتزوير وكذب ودجل واستقواء بالنظام والأحزاب. مع أننا نعد المجتمع الجامعي صفوة مجتمعاتنا، فانظر إلى حالهم واحكم !!

 

ومثل ذلك يتكرر في مدرسة، أو مؤسسة تربوية وتعليمية، وتنافس محموم حول منصب محافظ أو قائمقام أو رئاسة مجلس محلي، أو مسؤولية أمنية في الجيش والشرطة، أو وظيفة عامة في مؤسسة أو دائرة خدمية رسمية أ و أهلية، ( مستشفى، بنك، معمل، شركة، وغيره ) .

 

وفي الأثر: "مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا، وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ" ، والأثر فيمن ولى الصالح للولاية مع وجود الأصلح، فيدخل فيه دخولا أوليا تولي الولايات في عراق اليوم من قبل سنخية السيئ والأسوأ، ويدخل فيه بيع الوزارات والهيئات والمناصب والوظائف، وبيع تراب وماء وهواء وإنسان وادي الرافدين !!

 

4- القيادة في مجالات العمل الاجتماعي:

إذا كان التنافس في مجال العمل الإداري قد أدى إلى سوء العلاقة وتسمم الأجواء بين العاملين في مؤسسة ما، فإن التنافس في المجال الاجتماعي أكثر خطرا، وابعد أثرا، وسأقتصر على مثال واحد، وهو من حياة المجتمعات القبلية والعشائرية، المثال عن التنازع على رئاسة قبيلة أو عشيرة أو فخذ أو مختار منطقة، فإنه يؤدي إلى قطيعة الأرحام، وإساءة الجوار، ووراثة الأحقاد من الآباء إلى الأبناء والأحفاد، وانقسام القبيلة أو العشيرة أو الفخذ أو المنطقة إلى فريقين أو أكثر، وإذا كان الخلاف في مجال العمل الإداري يرتفع بالنقل أو التقاعد أو التوسع في عمل أو استحداث عمل جديد فإن الخلاف بين الأقارب لا يرتفع بسهولة، وخلال وقت قصير، وبجهد قليل؛ لأن القرابة لا فكاك عنها، وكذلك الجوار، أما العمل فمؤقت؛ لأنه مهما طال أمده فإن له سقفا زمنيا ينتهي عنده.

 

إن الزعيم القبلي أو العشائري أو المناطقي الجدير بالاحترام هو من يضع خطة عمل لخدمة من يرغب بتمثيلهم، ويهتم بملفات عديدة تتعلق بهم، مثل:

 

1.  ملف الزواج : يقدم فيه جردا دقيقا بأسماء وأسنان غير المتزوجين من معيته من الرجال والنساء، مع التركيز على شريحة الأرامل والمطلقات والأبكار، ويشكل لجنة الزواج، للسعي في تيسير أمور الزواج.

2. ملف العلاج : يقدم فيه جردا دقيقا بأسماء المرضى من معيته، والمستشفيات والأطباء، وهواتف وايميلات الجهات التي تقدم العلاج مجانا مثل حملة نور دبي لعلاج أمراض العيون، ومستشفى سعد الطبي بالخبر بالسعودية لعلاج مرضى القلب مجاناً، وغيرها.

 

3.  ملف فرص العمل: يقدم فيه جردا دقيقا بأسماء العاطلين عن العمل من معيته، وبالوظائف والأعمال المناسبة لهم، ويوظف علاقاته لتحقيق ذلك، فينسق مع شركة أو مؤسسة أو معمل أو مصنع لفتح فرع لهم، ويشغل فيه عددا من الناس، وينسق بين أكثر من جهة أو بين عدد من أهل اليسار لغرض قيام شراكة اقتصادية فيما بينهم، وتكون منطقة نشاطه مركز جذب واستقطاب لرؤوس الأموال ورب العمل والعامل.

 

4.  ملف الخدمات : ينذر نفسه لتأمين الخدمات لمعيته، كالكهرباء، والماء، والهاتف، والانترنيت، وشبكات الصرف الصحي، وتعبيد الطرق، واستحداث بنايات، وإعادة تأهيل بنايات أخرى.

 

5.  ملف مكافحة الفقر: التحرك باتجاه تسجيل الفقراء من معيته في دوائر الرعاية الاجتماعية، أو الهلال الأحمر، أو جمع التبرعات لهم، وإعالة الدارسين منهم، ليتسنى لهم مواصلة الدراسة، وفي السيرة أن نبينا لاحظ قلة ذات اليد عند عمه أبي طالب، وكثرة عياله، فاقترح على عمه العباس وكان موسرا، أن يأخذ كل منهما ولدا من أولاده ليعيش عنده، فيعيناه على شظف العيش، فأخذ هو جبل الإيمان علي بن أبي طالب ليربيه في حجره، فيما ضم عمه العباس جعفر الطيار إليه.

 

تنسيق الجهود المبعثرة: يمكن التواصل بين الزعماء القبليين؛ لغرض تنسيق الجهود المبعثرة، وجميل أن يكرس كل منهم حياته لملف ما، فيتكلف أحدهم بأعباء ملف الزواج، حتى يعرف به بين الناس، ويقوم زعيم قبلي ثان بملف العلاج، وثالث بملف فرص العمل، ورابع بملف الخدمات، وهكذا...

 

وما قيل عن الزعماء القبليين يمكن أن يقال عن الزعماء النقابيين، وغيرهم، فمن لبى الشروط المطلوبة، وعمل وفق الصورة المذكورة، أو زاد عليها فهو الزعيم الاجتماعي الحقيقي، وخصوصا في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها بلد كالعراق الحبيب، إذ أن الدراسات تشير إلى أن ربع سكانه من الفقراء، هذا فضلا عن الأرقام المليونية المخيفة عن عدد الأرامل والمطلقات والأبكار، وجيوش من العاطلين عن العمل، ومن المرضى والجرحى وذوي العاهات. فالزعيم الاجتماعي الحقيقي هو الذي يعيش مآسي هؤلاء، ويضع مفاتيح الحل لمشاكلهم بين أيديهم، أو يسهم في الحل، ويلبي احتياجاتهم، ويدخل السرور إلى قلوبهم، ويتقدم الصفوف في مجال الخدمة العامة، ويكون حاديا لقومه في كافة قضايا الوطن والمواطن، وعلى رأسها قضية التحرر من الاحتلال والتبعية للشرق والغرب.

 

وما دمنا نتحدث عن العشائر فإننا نذكرها بثورة العام 1920 م المجيدة، فإنها كانت ( ثورة عشائر ) في طابعها العام، سجلت فيها عشائرنا سفرا خالدا من الجهاد والنضال ضد قوات الاحتلال البريطاني، يتقدم صفوفها شيوخها ووجهائها وقضاتها و ( عوارفه ) وحُداتها، ولما كانت البنوة بنوتان: بنوة في النسب، وبنوة في الفعال، فإن من انخرط من الأجيال الحاضرة من العشائر وزعاماتها في المقاومة المسلحة، واشترك في الثورة السلمية ضد الاحتلال المزدوج، والهيمنة المزدوجة الأمريكية- الإيرانية، والسلطة الخاضعة لهما إنما هم أبناء لتلك العشائر البنوة بقسميها: بنوة النسب والفعال، ومن قعد مع القاعدين فإنه ابنها في النسب فقط، دون الفعال !!

 

 





السبت ٢٤ شعبــان ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / تمــوز / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. ثامر براك الأنصاري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة