شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يكن طارق الهاشمي معارضاً سياسياً، ولا خصومة مبدئيـة لديـه مـع أحـدٍ مـن الشركـاء. نعم كانت لديه خصومة ذات طابع خاص تتعلق بالسلطة والمنصب والصلاحيات لكن لاعلاقة لها بالوطن، شأنـه في ذلك شأن السياسيين الآخرين. كان الرجلُ أحـد مُنتجات العمليـة السياسية اللاشرعيـة، ولـم يسمع به العراقيون قبل الغزو حالهُ حال الوجوه الاخرى التي تربعت على المشهد السياسي، لذلك بقي حتى اللحظة الاخيرة من المدافعين عن هذه العملية ومن أشد المتحمسين لها، ويعتقد بأن موضوع أتهامـه يمكن أصلاحـهُ ثم تعـود المياه الى مجاريها، فكان له تصريح وهـو في تركيا بأنـه على أستعداد لوضع كل خبراته في خدمة المالكي أن تراجـع الاخير عـن الملاحقة القضائية له، وهذا الموقف هو أستمرار لمواقف سابقـه حينما طوّع الرجلُ مبادئ حزبـه الاسلامي لأغراض سياسية، حتى أنقلب على قيادتـه كي يركب في صدارة الحدث ويصبح أمينـا عامـا للحزب، وعندما فشل تحالف جبهة التوافق التي كان أحد زعاماتها فضّل القفز من المركب الاسلامي الى العلمانيـة فبات أحد قادة القائمة العراقيـة، ثم قاتل بلا هوادة كي يتبوّأ منصب رئيس الجمهوريـة بعـد الانتخابات الاخيرة، ضارباً عرض الحائط علاقـة قائمته الانتخابية بالتحالف الكردي، التي تدهورت بشكل كبير عندمـا أصدم بأصرار الاحـزاب الكرديـة على أن منصب الرئيس هو أختراعـ مُسجل بأسمهم لايحق التصرف بـه.


ثم قبل الرجلُ أن يكون ممثل ( للسُنة ) فـي مجلس الرئاسة على الرغم من أدعائـه أن توجهاته وطنية، وأنـه بعيد عن المحاصصة الطائفية. أمـا منجزاته السياسية فكانت بصماتـه واضحة جـداً في تمرير الدستور ببدعـة تعديل بنوده الملغومة بعد ستة أشهر من أقراره التي لم تتحقق لحد الآن. وكان أحد المصوتين على تمريرالاتفاقية الامنية الامريكية العراقية، وكذلك اتفاقية التعاون الاستراتيجي وملحقاتهما. وكي نكون ممن يذكرون محاسن سياسييهم نقول بأن الرجل ساهم في أطلاق سراح بعض الموقوفين، وأرسل بعض المواطنين الى الهند لاغراض العـلاج، لكنها تبقى معالجات فرديـة لاترقـى الى حجم المأسـاة التي يعانيها شعبنا والتي شاء أم أبى يُعتبر شريكا أساسيا في صُنعها وأستمراريتها. فالعـراق وطـن مُغتصب وكل شعبه معتقل، ولن تكون الحلول الترقيعية لهذا السياسي أو ذاك حبل نجاة، كما أنها لن تشكل أنجازاً بطـــوليا للسياسي.


فالسياسي الوطني الحقيقي هو صاحب النظرة الثاقبة التي تتقدم على الآخرين في أكتشاف الخلل وأصلاحه، وله الصوت الاعلى حين يلتبس الحق بالباطل والباطل بالحق، ويقود عملية التغيير بيده لابقلبه كما يفعل ضعيفو الايمان، وصاحب عقل مدبب قادر على التفكير في مصلحة المجموع. أننا لانستطيع أن نُجرّم طارق الهاشمي أو أن نُبرّئه فذلك واجب القضاء وحده، لكننا في نفس الوقت نقول بأن القضاء كمؤسسة وليس كأشخاص قد أصاب عمله الكثير من الشك والالتباس، كغيره من المؤسسات التنفيذية والتشريعية في العراق، وعندما يحصل الشك يسهل الطعن. لذلك طعنت الكثير مـن المنظمات الانسانية والحقوقية بقرارات القضاء العـراقي وأعتبرتها عديمة المصداقية وتفتقر الى الشفافية والوضوح، بعد أن شابت الكثير من قراراته أهواء السياسة ونفوذ الطائفة والقبيلة والدين.


فكيف يمكن تفسير عدد من القرارات التي أصدرها القضاء ضد أحد الساسة بتهم الارهاب، وأختلاس المال العـام وغيرها مـن التهم، ثم يجري حـوار معـه في خارج العراق من قبل أحد نواب كتلة رئيس الوزراء مقابل وعد له بأسقاط جميع التهم عنه، ويتم أستقباله في المطار ليستقل سيارة النائب نفسه كي لايعترض طريقه أحد، ثم يدخل الى المحكمة مباشرة ويتم أسقاط جميع التهم عنه بدقائق معدودة معلنين براءته مـن كـل ماسبق، والمفارقة الكبرى أن نائب مـن كتلة أخـرى يعترض على القضاء في هذه القضية، فيذهب ليحرك الدعوى مرة أخرى مـن قاض أخر، فأين هي أستقلالية السلطة القضائية التي يزعمون ؟ كمـا أن هنالك الكثير مـن قضايا الفساد ضد العديد مـن السياسيين لـم يتحرك القضاء فيها الا بعـد أن غادر المُتهمون العراق. لقـد أعطت هـذه النماذج وغيرهـا الحق للكثيرين بالشك بأن الحكـم على الهاشمي كـان سياسـيا بأمتيـاز نتيجـة الصراع السياسـي الطائفي بين المدعين بالحـق الشخصي بتمثيل الطوائف. فلم يكـن الهاشمي زعيمـاً وطنياً بل حـاول صناعة زعامة طائفية لشخصه بنفس الادوات والوسائل التي توسل بها المالكي والجعفري والصدر والنجيفي والعيساوي وغيرهم. كانت وسيلة الجميع هي الارتماء بحضن ضامن أقليمي ومنهم الهاشمي الذي حاول أن يكون ضامنه الاقليمي تركيا، وبذلك يكون الرجل قـد وقع في فخ التكريس الطائفي وزيادة الانقسام المجتمعي.


قد يكون الكلام بصيغة وطنية هي الصفة التي سمعناها من الرجل ولانزال نسمعها حتى اليوم من ملجئه في تركيا، لكن الذي حدد تصرفاته وخطواته في أدارة الدولـة العراقية كـان فكرا طائفيا لاغبار عليه أسوة بزملائه في العملية السياسية. وبرغم ما للرجل وما عليه فإن ماتعرض له كان صفقة سياسية بين المالكي وبين الخـط الثاني مـن الزعامات السياسيـة التي تدعـي نفس التمثيل الطائفي للهاشمي، ومنهم ممن ينتمون الى القائمة العراقية أيضا. فالخريطة السياسيـة بعـد ألانتخابات الاخيرة في العـام 2010 أظهرت القائمة العراقـية كفائز أول بالاصوات، وهو ماشكل طعنة في كبرياء المالكي الذي كان يراهن على الفوز الساحق، وهو الذي دفعه للدخول في قائمة منفردة عن تحالف البيت الشيعي، على الرغـم مـن توسلاتهم بـه للانضمام اليهم في قائمـة موحـدة لكن غروره كـان أكبر، وعليـه فإن هــذه الخريطة السياسية الجديدة لم تعد تلائم التوجهات السياسية والطائفيـة للمالكي في المرحلة الجديدة، ولابـد مـن خلق خارطـة سياسية جديدة تخلو مـن الوجـوه التي أدعت تمثيل ( السُنة ) وتقدمت عليـه بالانتخاب.


ولأن العملية السياسية تقوم أساسا على المحاصصة التي لايمكنه التخلي عنها، فقد وجد في الخط الثاني ممن يدعون التمثيل ( السُني ) نوازع مصلحية تؤهلهم كي يكونوا مساندين لـه دون أعتراض، فأستمالهم وأختبرهم فرضوا أن يكونوا مخبرين لديـه ينقلون اليـه كـل ملفات الفساد فـي قيادات النسيج الذي يدعون تمثيله، فوجـد أن الحل الافضل هـو الاطاحـة برموز الخط الاول بما توفر لديه من ملفات عنهم. ألم يقل أنه يحتفظ بملفات ضد الجميع ؟ ألم يُصرح بأنه يعرف بقضية الهاشمي منذ ثلاث سنوات ؟ أذن حانت فرصة الاستبدال بقضايا سياسية سواء عززها بجانب قانوني أو بدونه، كي يهيء الفرصة لصعود الخط الثاني من القيادات ( السُنية ) ، وهو الخيار الوحيد الذي يجعله يمضي قدما في مشروعه السياسي والطائفي بعيدا عن منغصات الطائفيين الكبار من ( السُنة ) . فالتعامل مع طائفي بدون أجنحة عربية أو اقليمية افضل بكثير من طائفي أخر لديه ضامنون عرب وأتراك وقائمة متقدمة بالاصوات الانتخابية أكثر من المالكي، وسيأتي الدور على الاخرين قريبا.


لقد كان الفضاء السياسي الحُر مفتوحاً أمام طارق الهاشمي كي يستقيل مـن منصب جنى منه رواتب ضخمة ومخصصات وأمتيازات شخصية، ولـم يجن منه الشعب العراقـي عامـة ومنتخبوه خاصة أي شيء يُذكر. كانت أستقالته ستمثل حزمة ضوء شديدة التركيز على الواقع العراقي وصرخة مدوية في وجه الطائفية والقتل والاغتصاب والتعذيب والدمار. لكنه فضّل أن يبقى الى النهاية التي جعلته يكون ورقـة محروقة في دهاليز السياسة، حاله حال النائب عدنان الدليمي شريكه السابق في جبهة التوافق مـن نفس النسيج الطائفي، الذي تم أتهامه بقضايا شبيهة لقضايا الهاشمي ثم اُخرج بصفقة سياسية وبات يقيم منسياً في عمـان، يدعـو ويثقف الى مشروع طائفي ملغـوم يُدعـى ( الاقليم السُني ) .

 

أن الامانـة المعرفية وشرف القلم وصدق الكلمة الحرة تدعونا جميعا الى فضح الطائفية والطائفيين، وأن لانُجامل مـن كـان محسوباً على الطائفـة التي ننتمي اليها ونلقي عليـه الالقاب والاوصاف البطوليـة ونُشيد بسلالته وشجرة عائلته، بينما نُجرّم الطائفيين الآخـرين، لأن في ذلك تلاعب بالغرائز الطائفية للمجتمع وتغييب للوعي المجتمعي. فبغض النظر عـن صدقيـة التهم الجنائيـة أو عدم صدقيتها، فإن طـارق الهاشمي يبقى قطبا مـن أقطاب الطائفية السياسية في العـراق، وهي جريمة سياسية يجب أن يُجرّمها الفكر الحر على أقل تقدير في ظل عدم وجود قانون وضعي يُجرّمها.
 

صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الاثنين ٣٠ شــوال ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / أيلول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة