شبكة ذي قار
عـاجـل










تأخذني الحيرة والاستغراب حين أجد هذا الاهتمام الكبير بما قد تفوه به الدكتور احمد الكبيسي من على شاشة (البغدادية)؛ التي لا يختلف حالها كثيراً عن حال هذا الكبيسي المسكين. فالأمر لا يستحق كل هذا الاهتمام، إذ أن الكبيسي و البغدادية لا يختلفان ولا يبتعدان كثيراً عمن كانوا قد تخلوا، مرغمين أو طائعين، عن كل ما يملكون من غيرة وشرف وقيم ومثُل من أجل الحصول على مبتغاهم من حطام الدنيا، أو لقاء ما قد حصلوا عليه، ممن استعبدوا عقولهم ومشاعرهم وألسنتهم فسخروها لغاياتهم وغايات أسيادهم الصليبيين والصهاينة والفرس الشعوبيين، أولئك الذين اختاروا طريق الهروب من بلد لم يكن يربطهم به سوى المنافع، وبخاصة بعد أن فُرض الحصار على العراق، فصارت الحياة فيه عصية على الذين كانوا قد اتخذوه مجرد مرعى مجاني، لا يبغون فيه إلا ملذاتهم وحاجاتهم الحيوانية. وقليل هم الذين كانوا على غير ما وصفنا، أولئك الذين كشفت معادنهم النقية أحداث عقد من الاحتلال.


أما الذين اختاروا العراق وطنا وهوية فقد مكثوا فيه، ورابطوا رباط الأسود الضواري، قبل الحصار وبعده، خلال الغزو وما أعقبه، بل وزاد تشبثهم فيه، وفوق هذا فقد نذروا له أنفسهم، وتخلوا عن طموحاتهم الشخصية والكثير من متطلبات عيشهم، كي لا ينكسر عمود بيتهم، ولكي لا تنتكس رايته، ولكي لا تزوّر هويته. وهكذا كان حال العراق خلال بضعة عقود من الزمن مضت.


ولا نختلف على أن الكبيسي والخشلوك (مالك قناة البغدادية الظاهري) كانا قد تصرفا إزاء محنة العراق كالذين مارسوا عملية الهروب من قبلهما، ذلك الهروب الذي لا يعقبه، إلا التنكر والتنصل لكل قيم الرجال الأحرار، فمن أين للذين اختاروا العبودية أن يمتلكوا القدرة والإرادة على الثبات؟ فكما أن الذين آوتهم إيران الفارسية تخلوا عن العراق، بل وصاروا أعداء له، بعد أن حولهم الهروب إلى عبيد أذلاء لا تعشعش في عقولهم وأنفسهم المريضة بالصغار إلا مفردات الحقد الشعوبي، كذلك فعل الذين باعوا حريتهم ومعها كل قيم ومبادئ الأحرار لأنظمة العمالة والرذيلة المتسلطين على رقاب العرب لقاء ما قد حصلوا عليه من حطام الدنيا الفانية.


أما الذين لم يغادروا العراق، من الذين تنكروا بعد الاحتلال للوطنية التي كانوا يدعونها وللقيم والمثل والمبادئ التي كانوا يتغنون بها، وفعلوا فعل الكبيسي وأخسّ منه، فإنهم بالجملة كانوا قد تسلقوا الجيوب، هم كالغانيات يعرضن أجسادهن لكل صاحب جيب فيه مال ولكل صاحب منفعة. ولا أصدق دلالة على هذا من بعض قادة حرس الاحتلال ممن يطلق عليهم قادة الجيش والشرطة. وما عليكم من الرعاع الجهال، فإنهم يصفقون لكل صاحب عصا، ويقبلون يد كل يستحوذ على المال.


إن حال الكبيسي ومن على شاكلته سأختصرها بحادثة وقعت أحداثها في بغداد عام 1999م، ففي ذلك العام، وفي ظل الحصار الجائر الذي مازاد أشراف العراق، والذين لا تليق الوطنية إلا بهم، إلا عزماً وإصراراً وثباتاً، رغم أن آثار الحصار بدت واضحة على أجسادهم وأفصح عنها مظهرهم. عُرض على اثنين من المعلمين فرصة للعمل في أحد الأقطار العربية، بأجور شهرية تزيد على مرتبات نحو سبع سنين مما يتقاضونه من وزارة التربية العراقية. ولم يكن عليهما سوى الحصول على جوازي سفر، كان الحصول عليهما حينها لا يستغرق سوى ساعة واحدة. اغتبطا وتشاركا الفرحة وعزما على الذهاب في الغد لإصدار جوازات سفرهما، لكن الغد كان الموقف فيه قد اختلف، إذ أن أحد المدعوين كان قد استعاد وعيه فقلب الأمور ليجد أنه إن فعل فسيكون غادراً وناكراً للجميل، بل وفاقداً للوطنية. وحين جاء زميله وجده على غير حال، إذ بادره بالقول: ياهذا قد صرفت نظراً عن الدعوة، فتعجب زميله وتذمر، وقال له: أنت لست أهلٌ للنعمة. فأجابه بسؤال قصم فيه ظهره، إذ قال له: تخيل أن لك أولاد بحاجة لمدرسة ومعلم، وكنت أنا معلمهم، وقد طاوعت شهوات نفسي فتخليت عنهم ، أما كنت تسبني وتشتمني؟


والنتيجة أن أحدهما هرب والآخر مكث. فالماكث - يشهد الله – أنه كان يرتدي البنطلون على جلده، فإنه لم يكن يجد ما يشتري به لباس داخلي، وظل يمسك طباشيره ويعلم ويحدو بأشبال العراق؛ يرضعهم حب الوطن. أما الهارب فقد باع حريته بعبودية لقاء ذلك الأجر الكبير، وحين عاد للعراق بعد الاحتلال عام 2003 لم يكن له هم سوى مشاركة سراق العراق مهمتهم القذرة، ولا غرابة فيما فعل إذ أنه فقد الصلة والهوية بمجرد الهرب في ذلك الظرف العسير. فيما كان الماكث قد ألقى بالطباشير وحمل السلاح بوجه الغزاة حتى اختاره الله تعالى شهيداً؛ طيب الذكر، حراًّ ثابتاً. فأولئك الذين يمكثون في الأرض ويربضون على صفحات التاريخ كالأسود. وغيرهم زبد لا ذكر لهم، وإن هم اليوم نجوم شاشات.


وها قد اختار الكبيسي أن يكون من ذاك الزبد لقاء ما قد حصل ويحصل عليه من ملذات الدنيا من قبل عبيد الأسياد، حكام العمالة والخنوع والتآمر، أولئك الذين وجدت فيهم الصهيونية خير عون لها من خلال الفضائيات التي طوعوها كوسيلة فعالة أشاعت فقه التناحر ولاختلاف والسباب والشتائم بين العرب دون غيرهم من الأمم والشعوب، فاتجاههم المعاكس لم يعرض لنا اثنين من غير العرب يتبادلان الشتائم، كما يسوق العرب.


وإني لأرى بأن المجاهد الشهيد صدام حسين، ذو الهمة العالية وصاحب النفس الأبية، الراسخ في قلب العراق كأحد جباله الشم، الأسد الرابض على أنصح صفحات العزّ والسؤدد في غرّر التاريخ، لأجلّ من أن نطمع في هارب كسير ذليل مستعبَد كالكبيسي أن ينصفه بقول أو فعل.

 

 





الاثنين ٢١ ربيع الثاني ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / أذار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حديد العربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة