شبكة ذي قار
عـاجـل










خلال الأسبوع الأخير من حزيران، والأول من تموز استقطب الحدث المصري الاهتمام العربي والاقليمي والدولي ، وإليه انشدت الأنظار لمعرفة الاتجاه الذي ستسلكه الحركة الشعبية، الواسعة الطيف التمثيلي، والتي نزلت إلى الشارع بحشود غير مسبوقة، تحت شعار "انهاء حكم المرشد" واستحضار الشعارات والمواقف التي أطلقت عشية انطلاق الحراك الشعبي بداية عام /2011.


إن الحشد الشعبي الذي غصت به الميادين والساحات، لم يكن وليد اللحظة التي انطلق فيها، بل جاء في سياق حراك سياسي وشعبي لم يتوقف على مدى سنتين ونصف، واتخذ أشكالاً مختلفة في التعبير عن نفسه، واستطاع في نهاية الأمر أن يفرض وجوده في الشارع وفي الضغط على السلطة التي تشكلت خلال السنة التي تلت الانتخابات الرئاسية وحملت مرشح "الإخوان المسلمين" إلى الموقع الأول في الهرمية الرئاسية وبأغلبية شعبية بسيطة هي بحدود 51%.


إن وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة لم يكن مستغرباً في ظل واقع الحال الذي عاشته مصر بعد إسقاط حكم مبارك وما قبله. فالإخوان الذين كانوا آخر من نزل إلى الشارع إبان الانتفاضة على حكم مبارك، كانوا أول الواصلين إلى السلطة مستفيدين من جملة عوامل: الأول، أنهم حزب منظم يختزن تجربة طويلة من العمل التنظيمي والسياسي ولهم حضور فاعل في العديد من الهيئات النقابية .اما الثالث، أنهم اكستبوا عطفاً شعبياً يوم كانوا في المعارضة على تتالي أنظمة الحكم المتعاقبة باستثناء فترة وجيزة إبان حكم السادات والرابع، أنهم استفادوا من حالة التدين العام في المجتمع المصري أسوة بكل المجتمعات الشرقية، الخامس، أنهم استفادوا من دعم إقليمي ودولي عبر عنه بأنماط مختلفة من التأييد السياسي إلى الرعاية الإعلامية والدعم المادي.


هذه العوامل الذاتية التي لم تكن متوفرة للآخرين حيث أن المجتمع المصري لم يكن قد استطاع إعادة هيكلية حياته السياسية خلال هذه الفترة الوجيزة، كون الزلزال السياسي الذي ضرب مصر، كان أكبر من قدرة الأطراف الداخلية المعارضة على احتواء تداعياته، نظراً للتعددية السياسية في اصطفاف المعارضة وعدم قدرتها على بلورة رؤية موحدة وصيغ تنظيمية تكون قادرة على تأطير الحراك الشعبي، وتوظيف عوامل الاعتراض والاستياء في سياق مشروع متكامل قادر على أن يشكل رافعة سياسية، لدفع الحراك بالاتجاه الذي يحاكي المطالب الشعبية التي تراكمت في ظل حكم الفساد والإفساد والتبعية، وسيطرة طبقة الاقتصاد الريعي والطفيلي على مقدرات البلد وتوظيف مردوها في خدمة قلة متناقصة، شكلت حاشية للسلطة، وكانت أحد اهم أسباب اختمار النقمة الشعبية التي انفجرت كالبركان الهائج.


لقد كان واضحاً، ان الأسلوب الذي اعتمدته حركة الاخوان المسلمين في إدارتها للسلطة والشأن العام لا بد وأن تفضي إلى النتيجة التي ظهرت عشية الثلاثين من حزيران وذلك لأسباب عديدة أبرزها:


1- أن جوعها المزمن ونهمها للسلطة، جعلها تعطي الأولوية لإملاء بطونها السياسية على حساب أدوار الأخرين وعلى حساب أصحاب البطون الخاوية.


2- إنها مارست نفس الأساليب التي مارستها الأنظمة السابقة من خلال احتكار مراكز القرار في الدولة، واقصاء الآخرين استناداً إلى ما سمته "شرعية" صناديق الاقتراع.


3- إنها لم تقدم رؤية اقتصادية – اجتماعية لحل القضية الاجتماعية والتي كانت واحدة من أسباب الانفجار الشعبي. وبالتالي أثبتت الحركة إنها لا تملك حلولاً جدية وفعلية للأزمة الاجتماعية.


4- إنها لم تقدم نفسها بصيغة حركة وطنية قادرة على حل المسألة الوطنية لجهة توحيد مختلف مكونات المجتمع المصري، بل على العكس، تصرفت باعتبارها تمثل مكوناً مجتمعياً أكثرياً، سعى ويسعى لفرض وجهة نظره على إدارة الدولة وكل منظومة القيم والمفاهيم والسلوكيات المجتمعية. وهذا ما جعل مكونات أخرى بغض النظر عن مجموعها العددي وهي من صلب النسيج الاجتماعي المصري، تعيش تحت هاجس القلق على وجودها الوطني.


5- إنها لم تقدم رؤية سياسية للقضية القومية ببعديها التوحيدي والتحريري، بحيث غابت قضية الوحدة وقضايا العروبة، وقضية فلسطين عن الخطاب السياسي الإخواني. لا بل أكثر من ذلك فإن مرسي افتتح عهده بمخاطبة شمعون بيريز "بالصديق العزيز".


كل هذه العوامل أظهرت أن حركة الاخوان المسلمين، هي في قلب مأزق سياسي حاد، فهي لا تستطيع أن تتقدم، ولا تريد أن تتراجع، وأن التخبط كان السمة الغالبة على الأداء السلطوي. وأن ما جعل المأزق السياسي يشتد وطأة عليها، فضلاً عن الاصطفاف الشعبي العريض الذي عارضها هو الاعتراضات الفعلية من ثلاث مؤسسات تشكل مراسي النظام المؤسساتي في مصر. هذه المؤسسات، هي مؤسسة الجيش، ومؤسسة القضاء، والمؤسسة الدينية بركينها المسلم والمسيحي.


إن ما يميز المكون الوطني المصري عن سائر المكونات الوطنية العربية الأخرى، أن البنية المؤسساتية ليست حديثة التكوين والتركيب، وبالتالي فهي تملك عراقة تعود بجذورها التاريخية إلى بداية تكوين الدولة المصرية. وهذه حال الدول التي تأسست حضارتها على ضفاف المجاري المائية ومنحتها مواقعها الجغرافية أهمية في الاستراتيجيات القارية ومنها العراق.


إن الطريقة التي اختطتها حركة الإخوان لإدارة الشأن الرسمي والشعبي، لم يستفز الشعور الشعبي العام وحسب بل استفزت أيضاً دور المؤسسات الارتكازية في الدولة والمجتمع المصري.


لقد ظهر جلياً، ان حركة الإخوان في مصر، عمدت إلى استحضار النموذج الإيراني، بحيث يكون القرار الفعلي في إدارة شؤون الدولة والمجتمع "للمرشد" على غرار سلطة ولي الفقيه الإيراني بالنسبة للرئيس، كما تبين، ان حركة الإخوان استحضرت النموذج الإيراني باستحداث ما يسمى بهيئة تشخيص النظام، بحيث تكون هذه الهيئة هي المرجع في تحديد صلاحيات الأشخاص لاستلام إدارة الشأن العام. وهذا يعني، ان الاخوان كانت بصدد أعداد قيادات ظل ومرجعيات لكل ما له علاقة بشؤون العامة والخاصة. وان هذا كان كافياً ليثير حفيظة المؤسسة العسكرية التي تعتبر في بنيتها الحالية إحدى الضمانات الأساسية لمدنية الدولة. كما كان هذا كافياً لاستشارة مؤسسة القضاء، والتي تعتبر واحدة من اعرق المؤسسات القضائية في العالم ذات الباع الطويل في التشريع الدستوري والقضائي، وبالتالي فإنها لا تقبل بتهميش دورها، ولا بإفراغها من جهابذتها، خاصة بعدما تبين، ان السلطة، عازمة على التخلص من القضاة الذين لا يشاطرونها الرأي في التشريع والقضاء تحت عنوان "تطهير" هذا الجهاز من الفساد، علماً أن مؤسسة القضاء شكلت رأس حربة في التصدي لحكم الفاسد والإفساد وتجاوز القانون الذي كان سائداً إبان حكم مبارك، وان إقدام السلطة القضائية على أبطال إعلانات دستورية رئاسية، وقوانين وانتخابات لمخالفتها الأنظمة والإرادة الشعبية، شكلت سابقة مهمة عبر إقدام السلطة القضائية على الحد من شطط وإنحراف السلطة السياسية.


وفي السياق نفسه، فإن المؤسسة الدينية التي مثلها "الأزهر" والكنسية القبطية، رأت في سلوك الاخوان السياسي خطراً على الوحدة الوطنية، لأنه كان يسير باتجاه دفع البلاد نحو انشطار عامودي بين مكوناتها المجتمعية وهذا بطبيعة الحال لا يخدم الوحدة الوطنية، ويطيح بكل التراث القيمي الذي راكتمه هذه المؤسسة من خلال الأدوار الوطنية التي لعبتها، وحرصها على مدنية الدولة رغم كونها مؤسسات دينية.


إن الاعتراض الذي واجه حركة الاخوان من قبل هذه المؤسسات التي تشكل مراسي الدولة المدنية في مصر، وما واجهته من اعتراض شعبي وسياسي، جعلها تدور حولها نفسها في دائرة المحاصرة الداخلية، ولم تفدها كثيراً احبال النجاة التي رميت لها من الخارج سواء على شكل مواقف سياسية كالتي عبرت عنها الولايات المتحدة الأميركية أو تلك التي كانت تراهن على دور وحضور أكبر في السياسة العربية، من طهران إلى قطر وانتهاء بتركيا ومروراً بكل من تماهى مع السلطة الاخوانية في الاقطار العربية سواء كان في مواقع السلطة أو خارجها.


على هذا الأساس، فإن التغيير الذي حصل في مصر عشية تموز كان سيحصل عاجلاً أم أجلاً، لأن نظاماً لا يستطيع أن يقدم حلولاً للمسألة الاقتصادية الاجتماعية، لافتقاره إلى البرنامج الذي يحاكي القضايا الشعبية الحيوية، ونظاماً لا يستطيع أن يقدم حلاً للمسألة الوطنية، لأنه يستند إلى حزب، ديني البنية والمنظومة الفكرية وبالتالي فهو تقسيمي بطبيعة وأن اعتبر نفسه منتمياً بأفكاره وافراده لأكثرية الاعتقاد الإيماني الإسلامي، وأن نظاماً لا يستطيع أن يقدم حلاً للمسألة القومية خاصة قضية الوحدة وفلسطين، لأنه يستند إلى حركة لا تؤمن بوجود أمة عربية بالأساس، وهي تحاكي في بنيتها وتفكيرها حركات تريد إقامة الدولة الدينية، هو بطبيعة الحال في حال اصطدام دائم مع القاعدة الشعبية العربية العريضة التي تعتبر العروبة هوية قومية لها، والوحدة سبيلها للخلاص والتحرر من الاستلاب القومي والحرية سبيلها للتحرر من الاستبعاد والاستلاب الاجتماعي..


كل هذه الأسباب مجتمعة، عمقت من حدة المأزق الاخواني، وجعلت قطاعات شعبية واسعة، واصطفاف سياسي عريض ومؤسسات استفز سلوك السلطة دورها، كمراسي للنظام المؤسساتي والدولة المدنية، تعبر عن موقفها الرافض للأداء السلطوي بنفس الأسلوب الذي أسقطت فيه النظام السابق، فكانت الحركة الشعبية العارمة، حركة معبرة عن حراك شعبي، أعاد استحضار نبض الشارع، وأعاد شد الخطاب السياسي إلى مضمونه الوطني.


هل ما حصل هو انقلاب عسكري ؟؟
وحول ما إذا كان الذي حصل يندرج تحت مسمى الانقلاب فالموضوع لا ينظر إليه من خلال ميكانيكية التظهير المادي للقرار السياسي، الذي وضع حداً لإمساك حركة الاخوان بمفاصل السلطة.
قد تكون تلك الحركة، تندرج شكلاً تحت مسمى الانقلاب، إلا أنها في المضمون ليست انقلاباً عسكرياً كالذي شهدته العديد من الدول سابقاً. فالجيش لم ينزل بعدده وعديده إلى الشوارع والساحات، ولم يذع بلاغاً عسكرياً من الإذاعة والتلفزيون الرسمي، ولم يعلن حالة طوارئ ولم يدع إلى منع تجول ،


وكل ما من شأنه أن يحد من الحريات العامة، بل الأمر كان معكوساً، إذ أن الجماهير اعتصمت بالميادين والساحات بشكل غير مسبوق، والقوى السياسية على مختلف أطيافها مع هيئات المجتمع المدني كانت في طليعة الداعين إلى إسقاط سلطة "المرشد"، بالتالي فإن مؤسسة الجيش التي وقفت على الحياد في الانتفاضة الاولى فسر موقفها بأنه انحياز إلى الشعب، وقد مارست الموقف نفسه، في الانتفاضة الثانية، لكن بمبادرة ذاتية. حيث في المرة الأولى، تنازلت السلطة عن صلاحياتها للمجلس العسكري، وفي الثانية فإن السلطة، رفضت الانصياع للإدارة الشعبية، وسعت إلى حشد شارع مقابل شارع، وعمدت الى تحريض سياسي وأمني موصوفين ضد المؤسسات الشرعية ومنها مؤسسة الجيش والقضاء والمؤسسة الدينية، ولهذا كان لا بد للمؤسسة القادرة على ضبط الوضع من أن تأخذ المبادرة، وتضع ما سمته خارطة حل لمرحلة انتقالية بغية إخراج مصر من الأزمة ووضعها على طريق إعادة هيكلية الحياة السياسية.


من هنا، فإن الجيش في خطوته السياسي الأخيرة، لم ينفذ انقلاباً بالمفهوم الكلاسيكي المتعارف عليه، بل استجاب لإرادة شعبية، وهو اتخذ قراره في ضوء مصلحة مصر العليا وفي ظل توفير تغطية سياسية وشعبية واسعتي التمثيل. وان إناطة إدارة المرحلة الانتقالية بسلطة مدنية رمزها الأبرز سلطة القضاء، هي التي تجعل حركة الجيش، تندرج في إطار المعطى الموضوعي لحركة التغيير وليس في الإطار الشكلي لمسمى الانقلاب العسكري.


لكن السؤال، مصر إلى أين ؟
إن ما حصل في نهاية حزيران وطليعة تموز، لايعني أن الأزمة ستجد طريقها السريع للحل، بل أن مرحلة المخاض السياسي ستطول إلى أجل لن يكون قصيراً إلا بقدر ما يتصرف الجميع بمسؤولية حيال مصر ومنهم جماعة الاخوان المسلمين، الذين وان تصرفوا بعقلية الاقصاء والالغاء، إلا أن السلطة الانتقالية قد دعتهم للمشاركة باعتبارهم أحد الأطراف الأساسية في مصر و ليسوا الكل، والأمل كبير أن تعود مصر إلى استعادة موقعها كمركز عربي جاذب، ومعها يعود الهرم العربي ليرتكز على قاعدته ولتبدأ مرحلة جديدة من العمل العربي ذي التوجهات الوطنية والقومية، وبمضامين اجتماعية تحررية وتقدمية.


إننا نراهن على وطنية جماهير مصر وعروبتهم، وهي متجذرة في نفوسهم ولولا ذلك لما كانت مصر تطل على أمتها بأدوار قومية كلما كانت تعصف بالامة ازمات كبرى .ان ما يجري في مصر حالياً شاهد حي و الحقبة الناصرية شاهد آخر تستحضر دلالاتها جماهير مصر وهي تستنهض ذاتها لاعادة الاعتبار لموقع مصر ودورها كرافعة للنضال العربي التحرري .

 

 





الاحد ٥ رمضــان ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / تمــوز / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة