شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل عشر سنوات انطلق حراك شعبي في أوكرانيا تحت عنوان "الثورة البرتقالية" وبنتيجته تمكنت المعارضة التي قادت الحراك، أن تفرض تسوية سياسية، حدت فيها من سلطة الرئاسة، ووسعت صلاحية "البرلمان" وخاصة لجهة دوره في تسمية رئيس الحكومة.


هذا الصراع السياسي الداخلي في أوكرانيا ومثله العديد في الدول الأوروبية التي كانت منضوية في إطار الاتحاد السوفياتي قبل التفكك، لم يكن بمعزل عن تأثيرات خارجية متمحورة حول الدور الروسي من جهة، والدور الأوروبي الغربي المدعوم أميركياً من جهة ثانية. وان كلا الدورين لهما مرتكزاتهما السياسية الداخلية، كما لهما تأثيراتهما الاقتصادية والجيوسياسية. فروسيا، تعتبر أوكرانيا حديقة خلفية لها، وهي في أهميتها الاستراتيجية كبوابة عبور إلى الشرق والوسط الأوروبي توازي أهمية بولونيا كبوابة عبور إلى الغرب الأوروبي.


لذلك، فإن روسيا، تعتبر ان ما يجري في أوكرانيا، وكل دول الشرق الأوروبي إنما يعنيها مباشرة، لا بل يرتبط بأمنها القومي، ولهذا لم تتوان عن التدخل المباشر في جورجيا، كما أنها لم تتحفظ على استعمال وسائل الضغط التي تملكها ضد الحالة السياسية التي أفرزها حراك 2004، واعتبار محصلته انتصاراً للغرب الأوروبي، أو بمعنى أخر انتصاراً للخيار الأوروبي الغربي في الإدارة السياسية الأوكرانية. ومن وسائل الضغط، الغاز والنفط، ومنظومة التسليح العسكري، ونسبة الأوكران الذين ينتمون إلى الروسية، فضلاً عن بقايا تأثيرات المخلفات السوفياتية في كثير من المنظومات التي تتعلق بالشأن العام. على أساس هذا التداخل في عوامل التأثير، كانت التسوية تهتز كلما رجحت عوامل تأثير على أخرى. وهذا ما حصل عندما امتصت روسيا نتائج الصدمة التي تولدت عن أحداث 2004، واستعادت هجوميتها السياسية التي أسقطت ما اعتبر مكاسب سياسية للمعارضة، وأعادت القوى السياسية المتماهية مع موسكو إلى السلطة.


إن المشهد السياسي الذي عاشته أوكرانيا قبل عشر سنين، استحضر خلال الأشهر المنصرمة، وقد بدأت المشادة السياسية الداخلية حول توقيع عقد الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والذي وجدت فيه روسيا، محاولة لربط أوكرانيا سياسياً بالمحور الأوروبي الغربي المدعوم أميركياً، وهذا يشكل بنظرها انكشافاً لحديقتها الخلفية نحو الشرق الأوروبي، وبالتالي تحويل أواكرانيا إلى خاصرة رخوة في حزام أمنها القومي. وعليه ضغطت للحؤول دون توقيع عقد الشراكة، فما كان من هذه المشادة الدولية حول موقع أوكرانيا في خارطة الاصطفافات القارية أن انفجرت في الداخل الأوكراني حراكاً شعبياً ضد النظام القائم.


بضعة أسابيع، وبخسائر بشرية بلغت العشرات في القتلى والمئات من الجرحى، وبشكل محدود لتعطيل دورة الحياة في ميادين المدن الرئيسية وخاصة العاصمة كييف التي شهدت أيامها الأخيرة أعمال عنف وحرق وتخريب، كانت كافية لإنتاج تسوية أعادت الأمور إلى المرحلة التي أنتجها حراك 2004 وبذلك تجنبت أوكرانيا، مخاطر الانزلاق لأتون حرب داخلية، وخرجت بتسوية، بان ظاهرها أن فيها خسارة لموسكو وحليفها الأوكراني، بقدر ما فيه ربح للاتحاد الأوروبي وحليفه الداخلي.


لكن بعيداً عن حساب الربح والخسارة بالنسبة للقوة الدولية التي ظللت الوضع السياسي بتغطياتها، وبعيداً عن الربح والخسارة بالنسبة لقوى الداخل، فإن الرابح الوحيد هي أوكرانيا، كبلد يبحث عن استقرار سياسي يلاءم بين الاتجاهات الأساسية للشعب الأوكراني الطامح لحياة سياسية تحكمها قواعد التعددية والديموقراطية، وبين العوامل التي تفرضها معطيات الجغرافيا السياسية.


ومن يستعرض الوضع الشعبي الذي انفجر في أوكرانيا قبل أسابيع، واتجه في أيامه الأخيرة ليأخذ طابعاً عنيفاً، يجد كثير شبه مع حراك شهدته أكثر من مساحة عربية، وخاصة الساحة السورية.


إن التسوية التي أنتجت أخيراً في أوكرانيا، كان بالإمكان إنتاجها في سوريا، وحركة الاعتراض الشعبي في سوريا لم تكن تطمح في بداية حراكها بأكثر مما تضمنته تسوية أوكرانيا. لكن عدم استجابة المنظومة السياسية الأمنية الحاكمة لمطالب الحراك الشعبي الذي انطلق سليماً، وعدم قدرة المعارضة على توحيد صفوفها ضمن إطار واحد وعلى أساس رؤية سياسية واحدة، وعدم رغبة الطرفين تقديم تنازلات متقابلة لمصلحة حل سياسي ينقذ سوريا من أتون الصراع الذي قتل البشر ودمر الحجر، حول سوريا إلى أرض محروقة دون الوقوف عند حجم التكلفة البشرية والاقتصادية والاجتماعية والتي ما تزال مفتوحة على ارتفاع فاتورتها.


لقد ركزت التسوية في أوكرانيا، على العودة إلى دستور 2004، الذي يحد من السلطات المطلقة لرئيس البلاد، وبعطي للبرلمان المنتخب من الشعب صلاحيات أوسع في تركيب السلطة التنفيذية والرقابة عليها، ونصت التسوية على تشكيل حكومة وحدة وطنية وعلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وكتعبير عن معارضة روسية لها، فإن الوفد الرسمي لم يوقع على اتفاق التسوية.


ان تمنع الروس عن التوقيع لم يحل دون توقيع الرئيس الأوكراني الذي تصرف استناداً إلى ما رأى فيه مصلحة أوكرانيا، الدولة والكيان الوطن، وبغض النظر عن الربح والخسارة السياسية في السلطة، لأن الخسارة السياسية تعوض بسهولة، لكن الخسارة الوطنية لا تعوض بالسياسة. وعندما تشكل حكومة مفتوح على تأثيرات خارجية، ولهذا قدمت مصلحة البلاد الوطنية على مصالح الأطراف السياسية.


لكن هل ما حصل في أوكرانيا، يشكل حافزا، ويكون دافعاً لإنتاج تسوية مشابهة في سورية، تأخذ مصلحة البلاد الوطنية على حساب مصالح القوى السياسية التي تدير الأزمة بكافة جوانبها من موقعي السلطة والمعارضة؟؟


إن مصلحة سوريا الوطنية توجب إنتاج تسوية شبيهة بتلك التي أنتجت في أوكرانيا، خاصة وأن اللاعبين الدوليين هم أنفسهم، وإذا كانت هذه التسوية قادمة لا محالة، فلأن معطيات مرحلة ما قبل 15 آذار /2011 ليست كما بعدها، و لذا فالمطلوب أن لا يكون إنضاج هذه التسوية بحاجة إلى وقود جديد من بشر سوريا وحجرها وشجرها.


لقد دمرت سوريا، والربح والخسارة لا يقاس بتموضع القوات على الأرض، بل بتموضع المواقف في نصاب التسوية التي لا تؤخذ معطياتها من زاوية التأثير العسكري بل من زاوية التأثير السياسي.
 






الاحد ٢٣ ربيع الثاني ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / شبــاط / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة