شبكة ذي قار
عـاجـل










ضمن الاستراتيجية التي رسم خطوطها تيار المحافظين الجدد، وتبناها جورج بوش الابن، وأطلقوا عليها "الشرق الأوسط الجديد"، أجمعت آراء الخبراء والمراكز المتخصصة أن هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تنجح إلا بعد زوال العراق ـ كدولة ونظام وجيش وإمكانيات ـ لتدميره و"تعميق روح الطائفية والعرقية والإنقسام، تمهيداً لتقسيمه إلى دويلات متناحرة، يصب تناحرها في صالح دول الإقليم" (العدو الصهيوني وإيران) كما أشار إلى ذلك العديد من هؤلاء الخبراء. وأنه تم تطوير هذه الاستراتيجية لاحقاً إلى الشرق الأوسط الكبير ـ كما أشار المعهد البحثي "جلوبال ريسيرش" الأمريكي ـ بدءً من عام 2006 بطلب صهيوني وقبيل زيارة غونداليزا رايس لكيانهم. وكان لها علاقة بالتأكيد بالتطورات التي كانت تعيش على وقعها المنطقة العربية.

كما يمكن تلمس هذه الاستراتيجية أيضاً في كتاب (نهاية شر: كيف نكسب الحرب على الإرهاب) الذي أصدره لاحقاً ريتشارد بيرل وديفيد فروم "وهما من دعاة غزو العراق، وأعتبر "أنجيل" المحافظين الجدد. حيث يوصمان أي حركة مقاومة بأنها أرهاب بشكل انتقائي، وبما يخدم مصالحهم واستراتيجيتهم. والذي رأى فيه السياسي الاصلاحي الامريكي "باتريك بيوكانيين" أنها دعوة صريحة لتوريط أمريكا في حروب لا نهاية لها، لأنهم "يدمجون حربنا على الإرهاب بحربهم من أجل الهيمنة".

إتخذ القرار، بعد حصار إمتد لسنوات، بضرورة غزو العراق وإسقاط نظامه الوطني، وبدأت الخطوات بشيطنة النظام. وإطلاق أكاذيب فاضحة لتأليب الرأي العام الدولي وأن يتقبل الغزو وكل نتائجه الكارثية.

في مرحلة الحصار، وبعد عودته من زيارة للولايات المتحدة، إتصل بي الشهيد الكبير منصور الكيخيا. وأكد لي خلال لقائنا، ان الامريكيين ذاهبون لغزو العراق من خلال معلومات حصل عليها من أصدقاء له بالأمم المتحدة (كونه كان سابقاً ممثل ليبيا بها ووزيراً للخارجية لاحقا)ً ومن لقاءات مع مطلعين بالإدارة الامريكية، وأكد أن هناك أسباباً متعددة وراء القرار الامريكي، سببها المواقف العراقية، ولعل من أهمها:

ـ القرار السياسي الوطني والقومي المستقل للنظام العراقي.
ـ التمسك بحق الشعب الفلسطيني.

كان أصدقاء آخرين للعراق الوطني يؤكدون على قرار الحرب الامريكي، وأتذكر ان الرئيس الجزائري الأسبق الراحل أحمد بن بلة، وعند إتصالي به للإطمئنان على صحته، قال لي: "الامريكيين بدهم يحتلوا العراق.. هذه مسألة مؤكدة.. أنا متأكد أيضاً ان الأخ الرئيس صدام حسين سيتصدى للعدوان برجولة". وأشار لي أن معلومات على مستوى عالي وصلته حول ذلك.

أيضاً، أكد لي الصديق المناضل الراحل الفقيه محمد البصري، لدى زيارته لي بمكتبي بباريس أن العدوان على العراق بات مؤكداً. كان يتحدث بغضب شديد: "هناك تواطؤ إقليمي مع العدوان الأمريكي". وأوضح لي أن معلومات على مستوى رفيع في المغرب أكدت له نذر العدوان الوشيك ومنهم خال ملك المغرب.

هذا الإدراك المبكر، لنوايا الغزو والإحتلال، بات واضحاً، وإشار إليه الخبراء والسياسيين، وأن المسألة هي تحديد ساعة الصفر. بعد إن استكملت الإجراءات الميدانية واللوجستيه الامريكية للحرب.

أرادت الإدارة الامريكية، أن تحصل على تغطية "قانونية وإخلاقية" بأن يصدر مجلس الأمن الدولي قرار الغزو إستناداً على الفصل السابع. هذه المحاولة باءت بالفشل لسببين رئيسين:

1ـ موقف الرئيس جاك شيراك الاخلاقي والحاسم وإبلاغ الامريكيين بأن فرنسا ستعمل على إستخدام حق النقض وإفشاله.

2ـ الموقف الروسي، الذي كان يفتش عن مصالح روسيا في هذه المنطقة الحيوية والتي توصله للمياه الدافئة. وكان التفاهم مع الموقف الفرنسي.

هنا، إتجه الموقف الامريكي إلى منعرج خطير. تمهيد الأرضية فعلياً للغزو. التفاهم مع الأنظمة العربية للتواطؤ مع الموقف الامريكي. تحييد العدو الصهيوني وعدم تدخله العلني بالغزو بأي شكل. والتنسيق خلف الكواليس مع حكومة طهران وتبادل المصالح، بعيداً عن ديماغوجية الإعلام والإتهامات الصورية (الشيطان الأكبر، أو حكومة الشر).

كل ذلك لم يثني القيادة العراقية، عن موقفها الوطني والقومي، سواء علانية أو خلف الكواليس. حيث أكد الرئيس صدام حسين للعديد من الموفدين الدوليين الذين نشطوا في "الربع الساعة الأخيرة" أن للعراق حقوقاً، وان للشعب الفلسطيني حقوقاً، وان للأمة العربية حقوقاً، ولسنا في وارد التنازل عنها أو المساومة عليها، رغم إدراكنا لجدية المخاطر التي تهددنا.

وحدث العدوان والغزو والاحتلال بكل تفاصيله المعروفة ....

لم تتمتع امريكا ب "نشوة النصر" و"غطرسة القوة" بعد الاحتلال، إلا أياماً قليلة، وبرز لها مارد المقاومة العراقية التي قادها البعثيين والجيش الوطني والحرس الجمهوري والخيرين من أبناء الشعب العراقي.

بين عامي2003 و 2005، كانت خسائر الجيش الامريكي بالأفراد والعتاد يومية، والمصروفات الهائلة بدأت تؤثر بشكل جدي على الاقتصاد الامريكي وإرتفعت نسبة المديونية إلى أرقام فلكية، حاولت الإدارة تغطيتها لاحقاً بأكذوبة أزمة العقارات، ولكن تقرير وزارة الخزانة الامريكية حينها، أرجع الأسباب إلى بند "المصروفات العامة" التي تعني مصروفات الجيش الامريكي وتكاليف الحروب الخارجية.

أيضاً، بدأت الإدارة الامريكية تدرك ـ ولو متأخرة ـ كما أكد "جوين باير" في كتابه (الفوضى التي صنعوها: الشرق الأوسط بعد العراق) التبدل الخطير بالرأي العام العربي والكراهية ضدها، حيث يؤكد: "أدت حرب العراق إلى تعاظم مستوى الكراهية لحدود غير مسبوقة ضد امريكا وسياستها وإنعدام الثقة بها كلياً" ويضيف: "لم يعد الشارع العربي مستعداً للتصديق ان واشنطن مخلصة أيضاً لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية" و يذهب للتأكيد:" ان الشعور السائد لدى الشارع العربي بأن الغرب يتدخل في منطقتهم بسبب ثروتها النفطية".

في هذه المرحلة ـ بعد الغزو وبروز المقاومة العراقية الوطنية ـ كانت امريكا في وضع حرج، داخلياً وخارجياً، وكان الأهم للإدارة الوضع الداخلي، مع تزايد الخسائر البشرية والمادية، وبدأت تعيش شبح فيتنام جديدة. فقد عمدت على التحرك بأكثر من شكل:

1ـ إعادة إنتشار الجيش الامريكي وسحب القوات من المدن والشوارع لتخفيف الخسائر.
2ـ محاولة فتح قناة إتصال للحوار مع المقاومة العراقية وقيادة حزب البعث في العراق، وإستعدادها لتقديم تنازلات قاسية.
3ـ تشكيل ما عرف لاحقاً بالصحوات.

4ـ الدفع بإتجاه إبراز منظمات "جهادية" لسهولة السيطرة عليها لاحقاً ولتحقيق الصدام ـ عند الضرورة ـ مع المنظمات الممولة إيرانياً، أو كما رسموا له الصدام السني ـ الشيعي.

في أوائل عام 2005، إتصل بي المعارض المغربي الصديق عبد المؤمن ديوري، طالباً لقائي لأمر هام. في اليوم التالي وأثناء اللقاء صارحني بأن هناك "مبعوثاً أممياً" يتحرك لإيجاد قناة إتصال موثوقة مع قيادة البعث والمقاومة في العراق، ويرى أنني بحكم علاقتي التي يعرفها بالقيادة العراقية تداول معه بأسمي، وأن المبعوث على استعداد للقدوم إلى باريس فوراُ. وبعد أن أطلعت من صديقنا الراحل عبد المؤمن على التفاصيل الأولية، طلبت منه فرصة للإتصال ومعرفة رأي قيادة البعث والمقاومة. كان رأيهم لاحقاً: "لا بأس من الإستماع له إذا كان وسيطاً نزيهاً ومحايداً، على أن تبلغه مسبقاً، أنه لن يكون هناك أي لقاء معه إلا إذا تحملت امريكا المسؤولية القانونية والإخلاقية على غزو العراق، وان المباحثات إن حصلت لاحقاً ستكون كل جدولة الإنسحاب".

بعد أيام وصل المبعوث الأممي إلى باريس، الذي كان السيد جمال بنعمر (مبعوث الأمم المتحدة لأزمة اليمن) وفي أول لقاء معه بحضور عبد المؤمن ديوري، سألته بوضوح: "هل أنت مكلف من الأمم المتحدة أم من الإدارة الامريكية؟؟" أجابني:"أنا مدير دائرة التطوير والإنماء بالأمم المتحدة، والمستشار السياسي لكوفي أنان للشرق الأوسط وافريقيا، لكن مهمتي هذه بطلب من الإدارة الامريكية وبإشراف غزنداليزا رايس (كانت حينها مستشارة الامن القومي الامريكي). وأضاف : "هناك مطلب امريكي ملح وعاجل بإيجاد تسوية لتخفيف خسائر الجيش الامريكي البشرية لأنها لم تعد تحتمل وبدأت بوادر تذمر بالشارع الامريكي ومقابل ذلك فهم على استعداد لتقديم تنازلات سباسية قاسية"

وحتى لا أدخل بالتفاصيل كثيراً، التي رافقت لقاءات عديدة بين عامي 2005 و 2006، سواء هنا بباريس، أو لاحقاً عبر تشكيل لجنة للأمم المتحدة (للتغطية على الاتصالات) برئاسة الأخضر الابراهيمي والتي كان جمال بنعمر نائبه بها وذلك قبل تفجير مقر الأمم المتحدة ببغداد، حيث تم أكثر من لقاء ببغداد بينه وبين عدد من وجهاء عشائرعراقية كلفوا من قيادة البعث والمقاومة بلقاء جمال بنعمر. وقد أصرت القيادة على مطالبها:

ـ حياة الرئيس صدام حسين خط أحمر (كان بالأسر)
ـ الاعتراف بمسؤولية امريكا على غزو العراق وإحتلاله قانونياً وأخلاقياً وكل ما ترتب على ذلك.
ـ إيجاد حل عادل لقضية الشعب الفلسطيني.

بات واضحاً لاحقاً، ان الامريكيين كانوا يهدفون لإشراك حزب البعث بالعملية السياسية، مع عملائهم. وان ينحصر النقاش حول الوضع العراقي وحسب. هنا كان تصلب قيادة البعث والمقاومة لجهة رفض أي عملية سياسية تحت الاحتلال أو اي مشاركة مع عملاء المحتل و أضافوا لشروطهم الآنفة الذكر شرطين أضافيين:

ـ سحب كافة القواعد الاجنبية من كل الدول العربية.
ـ عدم التدخل الامريكي بمنظمة الاوبيك، سواء بتوزيع حصص الإنتاج أو سقفه أو أسعاره.

وفي آخر لقاء لي مع السيد جمال بنعمر، قالي لي: "ان مهمتي باتت مستحيلة. أصدقاؤك العراقيون يصعدون مطالبهم وشروطهم". وفي اليوم التالي إتصل بي عبد المؤمن ديوري طالباً مني ترتيب لقاء بين جمال بنعمر، وعضو قيادة قومية للحزب، صودف وجود بباريس، حيث رفض اللقاء معه وقال لي:

"قل له ان أمين عام الحزب صدام حسين موجود لديهم بالأسر، ليتفاوضوا معه، ونحن ننفذ ما يقرره الأمين العام". وللحقيقة لا أعرف إذا كان لهذه الرسالة علاقة باللقاء الذي اجراه مجرم الحرب رامسفيلد حينها مع الرئيس صدام حسين في مكان أسره أم لا؟ّ!!

تتابعت الأحداث لاحقاً حتى يومنا هذا، لتؤكد أن هناك فارقاً شاسعاً بين أصحاب المبادئ وتجار السياسة، وان قيادة العراق الوطنية هم رجال تاريخ. وان المقاومة الوطنية العراقية التي يقودها المناضل عزة الدوري استمرت في ادائها الواضح، رغم كل الصعوبات، والاستهداف المحموم من محور الشر الامريكي ـ الصهيوني ـ الصفوي.

ومن يعتقد ان هذه المقاومة قد وهنت، او تراجعت هو واهم.. والأيام حبلى بالمفاجآت..وهي بيننا.






السبت ١٠ رمضــان ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / حـزيران / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي نافذ المرعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة