شبكة ذي قار
عـاجـل










للقلم والبندقية فوهة واحـدة

ما انفكّ الوضع العربيّ يعرف تطوّرات دامية ومتسارعة تسارع المكائد والدّسائس المتجدّدة التي تحيكها الصّهيونيّة العالميّة والقوى الاستعماريّة والامبرياليّة التّقليديّة والصّاعدة على حدّ سواء، فلم تكتف الأحلاف المعادية للعرب والعروبة بما ألحقته الحقبة الاستعماريّة الطّويلة التي رزح تحتها الوطن العربيّ وما نتج عنها من تداعيات كارثيّة تراوحت بين الاستبداد السّياسيّ والتّخلّف العلميّ والتّقنيّ والرّكود الحضاريّ والاجتماعيّ والتّراجع الثّقافيّ والهشاشة الاقتصاديّة غذّاها خصوصا تقسيمه على أسس تضرب مصلحة جماهيره في مقتل، فراحت تتسابق على مزيد إدامة حالة الوهن العربيّ وتعميق الهوّة بين العرب وتفرقتهم وإغراقهم في صراعات طائفيّة وإثنيّة لا تنتهي لصرفهم عن مواجهة العدوّ الحقيقيّ وضربه واقتلاعه ألا وهو الاستعمار وأدواته المختلفة وعناوينه المتعدّدة.

شكّل الغزو البربريّ الظّالم للعراق عام 2003 ضربة قاصمة جديدة للمشروع القوميّ العربيّ والجهود النّهضويّة الحقيقيّة، حيث كانت الدّوائر الاستعماريّة والصّهيونيّة والصّفويّة الخمينيّة تتحسّس خطر نجاح العراق ونظامه الوطنيّ في نحت معالم تجربة وطنيّة وقوميّة ثوريّة متكاملة اعتنت بالرّقيّ بالمواطن العراقيّ على جميع الأصعدة وبنائه بناء علميّا دقيقا يسهّل انخراطه في مشروع الثّورة العربيّة الكبرى العاملة على استرداد الحقوق العربيّة كاملة غير منقوصة ولا قابلة للتّفاوض والمساومة، وهو ما دفعها في سعي استباقيّ لوأدها في مهدها مستعينة بالتّلفيق والافتراء والشّيطنة وكلّ الأحابيل التي تفتّقت عنها قريحة دهاقنة الأعداء وذلك خشية تعميم تلك التّجربة على عموم أبناء الأمّة في بقيّة الأقطار العربيّة وهي النّوايا التي أفصح عنها نظام العراق الوطنيّ بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ بدون مخاتلة ولا تردّد. وليس يخفى على أحد، أنّ ما لحق بالعراق من دمار وخراب وجرائم وإرهاب لم يشهد له تاريخ البشريّة مثيلا، لا يتوقّف في آثاره عند حدوده بل كان على جسامته وفظاعته لبنة رئيسيّة وقاعدة أساسيّة للانطلاق في المشروع الأكبر والأخطر على الإطلاق وهو الاستفراد ببقيّة الأقطار العربيّة وخلخلتها وزعزعة أمنها تمهيدا لمعاودة رسم الحدود في الرّقعة العربيّة وهو ما أشرنا إليه منذ زمن بعيد وعرّفناه بتجزئة المجزّئ وتفتيت المفتّت.

وبعد إسقاط النّظام الوطنيّ في العراق، غرست الامبرياليّة والصّهيونيّة مسنودتين بالفرس الصّفويّين أنيابها القاطرة سمّا في كلّ الجسد العربيّ، وانطلقت حملات الإبادة العرقيّة الممنهجة عقب ما عرف بـ " ثورات الرّبيع العربيّ " في استكمال وتعويض عن فشل مشروع الشّرق الأوسط الكبير الذي تعثّر وَوٌئِـد بفعل الهزيمة النّكراء التي ألحقتها المقاومة العراقيّة الباسلة بالغزاة ما أدّى إلى فرار الأمريكان من المستنقع العراقيّ عام 2011.

إنّه ما من مجال لإنكار أنّ غرق الوطن العربيّ مجدّدا في برك الدّماء نتيجة حتميّة لما حلّ بالعراق وقد كان درع العرب الواقي من الأخطار خاصّة بعد إخراج مصر نهائيّا من المعادلة العربيّة بعد مفاوضات كامب دافيد الاستسلاميّة، وما تعرفه ليبيا و خاصّة سوريّة ( التي استباحها معسكر الشّرّ - أمريكانا وغربا استعماريّا وفرسا حاقدين وروسا حالمين بإحياء أمجاد السّوفييت - ) من سلسلة متواصلة من الحرب الأهليّة بعد العدوان الأطلسيّ الحاقد عليهما بأشكال مختلفة إلاّ دليل على ذلك، وليس اليمن والسّودان ومصر وتونس بمنأى عن الهزّة الارتداديّة النّاجمة عن غزو العراق اليوم.

ليس من باب الإفراط في التّشاؤم القول اليوم إنّ الوضع القوميّ العربيّ يمرّ بإحدى فتراته الأشدّ سوادا والأكثر مأساويّة في تاريخه، فما تعرفه ربوع الوطن العربيّ الكبير لا يمكن توصيفه بغير الحرب الكونيّة الرّابعة التي حوّلتها لساحة معركة حامية الوطيس لكبريات القوى الدّوليّة والجهات الاستعماريّة المتناحرة من أجل السّيطرة على الثّروات الطّاقيّة الهائلة التي يزخر بها وطننا وهو ما يقتضي وجوبا انتهاج سياسة الأرض المحروقة حيث تٌدقّ أعناق السّكّان الأصليّين وتطحن رقابهم وتزهق أرواحهم صباحا مساء بمسمّيات وذرائع جاهزة ليس أسهل على تجّار الموت الدّوليّين من تبريرها وتقنينها كالحديث عن نشر الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان حينا ومحاربة التّطرّف والإرهاب الدّينيّ ( ولا إرهاب دينيّ إلاّ الإسلام ) أحيانا.

لقد بات شبح التّقسيم والتّشظّي يخيّم بظلاله الثّقيلة على وطننا بكلّ وضوح، وبلغت الوقاحة بالأجهزة المخابراتيّة الأمريكيّة والغربيّة أن تجاهر مثلا بأنّه على العالم الاستعداد لاندثار تسميات " العراق وسوريّة " اندثارا كلّيّا بالمعنى الجغراسياسيّ والاصطلاحيّ والتّاريخيّ، وصارت التّسريبات تتوالد مفصحة عن خرائط مستقبليّة كثيرة لهذا الوطن العربيّ فتحوّله لمجرّد كنتونات متناثرة تقوم على دعائم هجينة متخلّفة أساسها الطّائفيّة والقبليّة والعشائريّة لتظلّ مصائر جماهير الأمّة بيد الكيان الصّهيونيّ اللّقيط وبقيّة جوقة القوى الإقليميّة المتآمرة المتحفّزة لإلحاق مزيد من الضّرر بالعرب كلّما سمحت الفرصة وعلى رأسها العدوّ الفارسيّ الصّفويّ. ولعلّ احتدام المساعي الفارسيّة في نخر الجسم العربيّ والتّمطّط داخله ونكئ جراحاته والاستهتار والاستخفاف بمشاعر العرب وكرامتهم عبر التّعامل المتعالي والمتغطرس معهم تارة، وتقتيلهم وتذبيحهم وارتكاب مختلف ألوان الأحقاد والجرائم النّاضحة عنصريّة تارة أخرى كما يحدث في العراق وسوريّة والأحوز العربيّة، وسعيهم لبثّ نوازع التّفرقة بين العرب بتأجيج الخلافات الطّائفيّة بينهم، أحد أكبر ما يفسّر الهجمة الشّرسة المحمومة التي لم تخفها مواقف ملالي طهران ومعمّميها وصدح بها كبار رموز مؤسّسات فارس العسكريّة والسّياسيّة. هذا دون تناسي الإرهاب الصّهيونيّ المتواصل ضدّ شعب الجبّارين في فلسطين، حيث يتمادى الصّهاينة في إطلاق يد المغتصبين الإرهابيّين في تقتيل الفلسطينيّين العزّل وإتلاف ممتلكاتهم بل وإحراقهم بمنتهى البرود إن لزم الأمر علاوة على المضيّ حثيثا في تهويد القدس وطمس كلّ معالمها العربيّة واتّباع نفس السّياسة بشأن المغتَصَبات مع تزامن كلّ ذلك مع تسريع الحفريّات السّاعية لتشييد هيكل سليمان المزعوم وبقيّة الممارسات النّازيّة المعروفة من العالم بأسره.

إلاّ أنّه ورغم كلّ ما يلفّ الوضع العربيّ من سواد وقتامة، فإنّه لا يمكن التّغاضي عن كثير من بوارق الأمل على شحّتها في مقدرة الأمّة على الصّمود والخروج من هذا النّفق المظلم وبالتّالي تفويت الفرصة على الأعداء بتخييب آمالهم وإسقاط رهاناتهم وإفشال مخطّطاتهم.
إذ سيكون من الإجحاف بمكان، أن يتجاهل العرب اليوم البلاء الحسن والأداء المبهر للعقل والفعل العربيّ المقاوم المتمترس في سوح الكفاح الشّعبيّ المسلّح يدافع بشراسة لا تهدأ على ثغور الوطن ويذود عن حماه رغم كلّ المخاطر والمصاعب والمشقّة. فلا يجوز البتّة إلاّ أن نثمّن عاليا العمل البطوليّ والملاحم الاستثنائيّة للمقاومة العراقيّة التي نجحت لحدّ الآن في الحفاظ على وحدة العراق التّرابيّة إذ لولا صمود نشامى العراق ومقاومته الباسلة بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وأمينه العام الرّفيق القائد المجاهد عزّت إبراهيم وانخراط كلّ القوى الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة العراقيّة المخلصة في مشروع صدّ الغزاة لبات العراق أثرا بعد عين، بل إنّ أداء المقاومة العراقيّة شكّل العقبة الأهمّ والحاجز الأكبر في درء مخاطر ودسائس حيكت ضدّ العرب لإنهائهم وتغييبهم للأبد. وبالقدر ذاته، لا يملك المرء إلاّ أن ينحني إجلالا لنضالات شعبنا العربيّ في فلسطين السّليبة وأعماله البطوليّة حيث لم تنجح آلة التّدمير الصّهيونيّة الغاشمة في النّيل من تصميمه على انتزاع حقه في وطنه وأرضه وعرضه، ولا يقدر الواحد منّا إلاّ أن يحيّي ثورة الخناجر والسّكاكين التي أقضّت مضاجع الصّهاينة وسبّبت لهم أذى كبيرا وكبّدتهم خسائر لا تطاق. هذا وينسحب نفس الأمر على المقاومة الجبّارة للشّعب الأحوازيّ الصّابر المحتسب، وهو الذي يلاحق المحتلّ الفارسيّ البغيض ويثخن فيه الجراح رغم كلّ التّعتيم وحجم القمع والإجرام المتّبعين من طرف الملالي، ورغم العزلة المفروضة عليه بالحديد والنّار، وقد لا نفي شعبنا العربيّ في الأحواز حقّه مهما سلّطنا الضّوء على مقاومته مقارنة بنضاله المتواصل منذ عقود في سبيل الحيلولة دون تفريس الأحواز العربيّة تمسّكا منه وإيمانا بعروبتها وأصالتها.

هذا، وتجدر الإشارة في هذا الصّدد جنبا لعراقة الفعل العربيّ المقاوم وما يشكّله من أهمّية استراتيجيّة في تثبيت الأمل، إلى الاستفاقة النّوعيّة الحاصلة في الوعي السّياسيّ العربيّ الذي أفصحت عنه المواقف الاقتحاميّة للملكة العربيّة السّعوديّة، حيث تجشّمت أعباء تشكيل تحالف عربيّ إسلاميّ ينهض لقطع دابر الأفعى الفارسيّة بعد أن أخذتها العزّة بالإثم وادّعت أنّها ستلحق العرب رعايا بإمبراطوريّتها المزعومة وعاصمتها بغداد، فتصدّت السّعوديّة بحزم في عاصفة الحزم لنغول إيران في اليمن وقلّمت أظافر الحركة الإرهابيّة الحوثيّة التي سعت لهدم مقوّمات الدّولة في اليمن وعبّرت جهرا عن نواياها في السّيطرة عليها في مرحلة أولى ومن ثمّ إلحاقها كرها ببيت الطّاعة الصّفويّ، وها هي السّعوديّة تواصل في ظلّ قيادتها لتحالفها عزمها على مطاردة الورم السّرطانيّ الفارسيّ حيثما انتشر، وها هي تلاحق مشروع الخمينيّة في سوريّة وتتعهّد بعدم التّوقّف عند دمشق دفعا لخطر التّغلغل الصّفويّ ونسفا لأحلام جنرالات طهران وملاليها.

إنّ الخطوة السّعوديّة، وإن كنّا في الطّليعة الطّلاّبيّة العربيّة من أوائل من دعا إليها في بيان فيفري 2015، هي بارقة أمل جديدة قد تنعش الجسم العربيّ المنهك إذا ما عرف المناضلون القوميّون العرب توجيهها ودعمها وتثبيتها واستثمارها لصالح المشروع العربيّ الوحدويّ الثّوريّ الجامع لكلّ العرب بصرف النّظر عن اختلافات في الرّؤى والتّكتيكات والأساليب. بل إنّ العزم السّعوديّ وعودته لحاضنته العربيّة الطّبيعيّة والتّقدّم لريادة الدّفاع عن المصلحة العربيّة الاستراتيجيّة العليا حريّ بأن يلتفّ حوله كلّ العرب الرّسميّين وغير الرّسميّين. وإنّ الانكفاء الإيرانيّ والحذر الشّديد في التّعاطي مع الخطوات السّعوديّة الجريئة برهان على أنّ المطلب الملحّ اليوم هو رصّ الصّفوف في مواجهة الأعداء الأخطر فالأقلّ خطرا والقويّ فالأشدّ قوّة.

لا غرو في القول إنّ المبعث على الاطمئنان لحركة السّعوديّة ليس حصر أدائها وانتقال مواقفها من الدّفاع للهجوم في زاوية خشيتها على مصالحها الذّاتيّة الضّيّقة لأنّه رأي يسقطه واقع الحال، إذ لو كان الأمر كذلك فكان أولى بها أن تكتفي بلجم أطماع الحوثيّين في اليمن وتقليم أظافرهم وأظافر الفرس هناك، وبالتّالي فما الدّاعي لحدّ المغامرة للتّوجّه صوب دمشق للذّود عن شعبها وقد أثخن النّظام ومن استقبلهم سرّا وجهرا الجراح في أهلها. هذا ولا يتوقّف التّبدّل في المواقف والسّياسات السّعوديّة عند هذا الحدّ، بل إنّ دعوتها وريادتها لمجهودات حسنة للأخذ بيد الأحوازيّين وتعهّدها بفكّ العزلة الدّيبلوماسيّة والسّياسيّة والقانونيّة عن الأحواز العربيّة لهو من صميم المنظومة القوميّة العربيّة.

إنّ الطّليعة الطّلاّبيّة العربيّة وإذ ترصد باهتمام بالغ المتطوّرات في السّاحة العربيّة، تدعو جميع الخيّرين للوقوف صفّا واحدا وسدّا منيعا بوجه كلّ المعتدين على الأمن القوميّ العربيّ وأدواتهم، وتهيب بكلّ المخلصين أن يساندوا وينخرطوا بكلّ الأشكال الممكنة في مساندة المقاومة العربيّة مادّيا وأدبيّا وسياسيّا وإعلاميّا وثقافيّا كما تتمنّى على كلّ المؤمنين بالمشروع القوميّ العربيّ أن يتعظوا من دروس التّاريخ وعبره لئلاّ تتعمّق الأزمة العربيّة وتسوء الأحوال لحدّ قد لا يقوى العرب بعده على النّهوض مجدّدا.

تونس في ١٧ فيفري ٢٠١٦





السبت ١٢ جمادي الاولى ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٠ / شبــاط / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الطـليـعـة الطـلابـية العـربية نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة