شبكة ذي قار
عـاجـل










في أعقاب نجاح الامبريالية والعالم الاستعماري في زرع الكيان الصهيوني الهجين في قلب الوطن العربي؛ تداعى العرب الأحرار لنصرة فلسطين واعتبروا تحريرها أولوية الأولويات وأعلى المهمات وأخطرها؛ ولا يمكن لمنصف في هذا السياق أن يشكك في ريادة حزب البعث العربي الاشتراكي لهذا الطرح وهو الذي كان سباقا في تأكيد مركزية تحرير فلسطين واعتبارها الرهان القومي العربي الأعز والأسمى وبذل في سبيل ذلك ما لم يبذله غيره إن على صعيد الأحزاب أو الهيئات أو حتى الأطر الرسمية. فحزب البعث لم يتعامل مع فلسطين من منطلقات انتهازية بغية المساومة والمناورة؛ ولم يرفع تحرير القدس شعارا طوباويا مفرغا من أي معنى إلا من حيث المخادعة ومخاتلة الجماهير؛ بل أفرد البعث فكريا وتنظيميا وتعبويا وبشريا فلسطين بمكانة مخصوصة ومتفردة؛ وشرح قضية فلسطين تشريحا لا نظير له ليوم الناس هذا لا على المستوى العربي أو الإقليمي فحسب بل وعلى صعيد كل العالم بدون مزايدة ولا مناكفة؛ ولعله ما من فائدة في عرض التضحيات المادية والبشرية التي قدمها البعث والبعثيون في سبيل تحرير فلسطين ومن أجل تثبيتها في أعلى هرم الواجبات القومية العربية التي لا تخاذل فيها ولا مهادنة.

إن التشديد على المركزية المطلقة لقضية فلسطين اليوم لم يعد مقبولا ولا معقولا؛ بل غدا طرحا غير علمي وبلا آفاق فعلية.

فالدارس للوضع العربي والمتابع له والمتفحص لتفاصيله والمحيط بأبعاده والعارف بتقلباته وتجلياته؛ يدرك بيسر كبير تغير المعادلات وتبدل الحسابات وانقلاب الموازين وتشكل معالم جديدة له تضاهي خطر ما تعرضت له فلسطين وتزيد عليه بأشواط.

ولفهم هذا يتوجب الغوص في مباعث إيلاء فلسطين تلك الأهمية القصوى؛ ليسهل علينا استيعاب هذا التغير الذي طرأ بحكم الواقع على ترتيب القضايا القومية العربية.

ليس من أمر أكثر بداهة من أن قضية فلسطين لم تحظ قضية بهذه المركزية عبثا ولا لهوا؛ بل كان ذلك استجابة للتحديات المرافقة لاغتصابها وأسبابه وتداعياته أيضا.

فمن نافلة القول إن الصهيونية العالمية مسنودة بالامبريالية والدوائر الاستعمارية والقوى الكبرى حاكت دسائسها ضد فلسطين وأهلها والأمة العربية جمعاء لتمزيق أوصالها وتشتيتها والحؤول دون استملاك زمام أمورها وارتكزت على مؤسساتها الإعلامية العملاقة المنتشرة في كل أصقاع الدنيا؛ وهو ما مكنها من إغراق العالم في برك الأكاذيب والتزوير والمغالطات؛ حيث زيفت تلك الجهات المجرمة التاريخ مدعية أحقية الصهاينة التاريخية في فلسطين للحد الذي دفع هؤلاء للادعاء بأنها الوطن القومي التاريخي لليهود رغم استحالة تقديم دليل علمي واحد مستوفى الشروط؛ وتواصل الجرم الامبريالي وتعاظم خصوصا بعد المؤامرة البريطانية الأقذر والتي عرفت بوعد بلفور المشؤوم الذي قنن ادعاء الصهاينة ليوجد بالتالي تبريرا قانونيا انبنى حصرا على عامل القوة والتنفذ.

إن هذه الظروف المحيطة بطعنة الأعداء للأمة وإن كانت كافية لوحدها بجعل فلسطين بوصلة العرب وقبلتهم الجهادية الكفاحية الأولى؛ إلا أن ذلك يتعمق بالنظر لما طبع الانتصاب الصهيوني في أرض العرب من احتلال استيطاني غاشم سمته الأولى نزعته العنصرية الشوفينية الحاقدة وما تلاها من عمل حثيث على تبديل الجغرافيا وطمس معالمها بالإضافة لسياسة التغيير الديمغرافي لصالح المغتصبين البغاة وما نتج عن ذلك من تهجير ونفي ورمي السكان الأصليين لخارج الديار؛ ناهيك عما أفصحت به خطط الصهيونية الآنية والمرحلية والبعيدة وعصارتها إنشاء ما يسمى بإسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل وهو ما دللت عليه الاعتداءات المتكررة التي طالت أغلب الأقطار العربية.

لقد دفعت هذه الحيثيات العرب جميعهم لمناصرة فلسطين وتقديمها عما سواها؛ وظل ذلك الوعي والحكم ساريي المفعول منذ اغتصاب فلسطين لغاية نهاية القرن العشرين.

إنه لا غرو ولا غلو في القول إن غزو العراق البربري الهمجي من قبل أمريكا عام ٢٠٠٣ شكل لحظة تمفصلية في التاريخ العربي معلنة عن تبدل جذري في كل المقاربات والقراءات والتحليلات العربية.

فما حمله الغزو في طياته وما يحدث به من استتباعات على العرب والعروبة؛ يبقى الأكثر مأساوية على الإطلاق؛ وهو ما فرض فرضا تبدل البوصلة العربية ليس من حيث الانشغال عن فلسطين بل عدها بوصلة من جملة أخريات لا تقل أهمية ولا خطورة عنها.

فما الذي يوجب هذا الزعم وما مدى واقعيته؟

لقد عمدت نفس الدوائر التي دعمت ونفذت ورعت اغتصاب فلسطين وباركته لاستهداف العراق وتدميره وتقويضه وإفساد الحياة فيه وإبادة شعبه؛ وكان ذلك الفعل الآثم ردا على ما تحقق في العراق خصوصا زمن نظامه الوطني بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي من مكتسبات وإنجازات لا نظير لها في دول الجنوب من حيث الطفرة النوعية الشاملة في الزراعة والصناعة والرعاية الاجتماعية والعناية الفائقة التي أولاها العراق للإنسان وهو ما خلق النهضة العلمية المبهرة التي عانقت مراتب جد متقدمة نافس العراق فيها الدول الغربية المتقدمة بل وتفوق على بعضها مثل إسبانيا والبرتغال؛ كما مكنت تلك المنجزات العراق من بناء جيش وطني عملاق يحسب له ألف حساب بين جيوش العالم.

كما عكس غزو العراق الوحشي حرصا امبرياليا صهيونيا على منع العرب من التخلص من براثن السيطرة الخارجية وفرض تبعيتهم المذلة للآخر؛ وعكس كذلك محاربة تجربة فريدة كانت معالمها تنحت بتصميم ووعي وتؤدة وحرص وفطنة وتسعى لبعث أهم لبنات التخلص من آثار عصور التخلف والقعود؛ هذا ولعل أهم ما سعى الغرو لضربه هو ذلك البرنامج والمشروع البعثي القومي العربي الإنساني الثائر على سياسات الإملاءات والأوامر التي لا تخدم الأمة ولا تضمن مصالحها الحيوية وتنسف كيانها القومي وتعبث بوحدتها القومية وتهدد جديا مستقبل أبنائها.

لم يكن غزو العراق إذن؛ مجرد عدوان عسكري خارجي تقليدي أبدا؛ لأنه انبنى على دوافع عنصرية سادية متخلفة حبلى بعزم على تخريب دولة واعتمدت على التنكيل بالإنسان العراقي وتقتيله انتقاما لما حققه من خطوات بيناها باقتضاب شديد يعتبرها الغربيون تجاوزا للخطوط الحمر مجتمعة المرفوعة سابقا؛ كما كان الغزو استهدافا للتاريخ العراقي وضربا مباشرا للموروث الفكري والحضاري العراقي وهو الموروث الأقدم والأشمل والأرقى والأغزر عطاء في تاريخ الإنسانية كلها.

ففي مقارنة بسيطة بين اغتصاب فلسطين واستهداف العراق سنلامس أن نفس الجهات والأسباب والتداعيات حاضرة وبقوة؛ مع ضرورة التأكيد على أنها أقوى تدميرا وأكبر عددا وأبعد مرمى في العراق عنها في فلسطين. ( يتبــــــــــــــــــع )
 





الاحد ١١ ذو القعــدة ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / أب / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة