شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

صراع القوى العظمى والكبرى على وجه الخصوص مستمر ، وتتميز استمراريته بأن كلا من هذه القوى يعمل على بناء قوته ويخطط لتجميع عناصرها جيوبوليتيكيًا ، وفي الوقت نفسه يعمل على إجهاض وعرقلة جهود خصومه في هذا الشأن ، ويمنع بلوغهم مرحلة التبلور وعلى كل المستويات وبكل الوسائل الممكنة والمتاحة .. حتى بات هذا النهج يكرس تنميطًا واقعيًا في سياساتهم وعلاقاتهم وتحالفاتهم وتحركاتهم وصيغ تفاهماتهم في تسوية إشكالاتها بالمساومات والصفقات المتقابلة .. هذا هو عصر الصراعات التي تجمع بين سياسة ( حافة الهاوية ) من جهة وسياسة التفاهم والتعاون في بعض المفاصل الضرورية التي يقتضيها الصراع كما يقتضيها الركون إلى ما يسمى العقلانية الواقعية .

- مناخ الاستقطاب الدولي .. وعلاقات القوى العظمى :

العالم كما يوصف في كل الظروف ، أنه متحرك بسرعة ، وحركته تتسم بوتائر تبدو أحيانًا بأتجاه التغيير الإيجابي حين تبرز مفردات ومسميات ذات سمات مبدئية أو أخلاقية ، ولكنها تحجب أهداف السياسة المرسومة كـ ( الديمقراطية ، ومحاولات تصفية السيادة ، والشرعية الدولية ، وحقوق الإنسان والتعددية ، والأكثرية والأقلية .. إلخ ) ، بيد أن حقيقة المعطيات التي يفرزها الواقع الموضوعي للعلاقات الدولية والإقليمية تخالف الصبغة الإيجابية لهذه المفردات والمسميات التي درجت عليها سياسات الغرب الاستعمارية وفي مقدمتها سياسات الامبريالية الأمريكية .

كما تبدو وتائر حركة العالم أحيانًا أخرى تأخذ منحى التوجس في رسم خطوات التحركات والتحالفات ، وخاصة حين يشهر سيف الأحادية القطبية ، ليضع دول العالم أمام خيار واحد هو ( الانقياد التام ، وطمس الهوية ، وفرض المنهج الشمولي تحت مزاعم العولمة في خطواتها الثقافية والاقتصادية والفكرية والعسكرية والتقنية والمعلوماتية .. إلخ ) .

إن الخيار الذي تفرضه الأحادية القطبية الأمريكية المأزومة ، يخالف طبيعة الأشياء وطبيعة النظم الاجتماعية والاقتصادية في العالم ، كما يتعارض مع نمو ونضوج الشعوب والأمم على سلم التطور والتقدم الحضاري ، فضلاً عن اختلافات في السمات والمقومات والأصول والطباع والمعتقدات لشعوب الأرض كافة !! .

وثمة إشكالية تبرز في الظروف الراهنة على المسرح السياسي الدولي تتمثل في انهيار نظام عالمي وعدم قيام نظام عالمي جديد بديل ، وكل من أركان النظام المتداعي يتمسك بدعائم ركنه المنهار ويحاول ترميمه .. أمريكا تريد أن تستبقي على أحاديتها وتفردها غير قابل للتطبيق الواقعي .. وروسيا تريد أن تستعيد ثنائية الصراع وكأن الاتحاد السوفياتي لم يسقط .. فلا الأولى قادرة على البقاء في القمة ، ولا الثانية قادرة على التسلق من السفح نحو القمة .. وتظل حالة الصراع في شد وجذب محفوفة بتوترات واحتقانات وبنزاعات وبحروب إقليمية بالوكالة وعلى أكثر من ساحة ممهدة لهذه الصراعات .. والحالة هذه قد غَيبَتْ التوازن الدولي وجعلت أمريكا وطاقمها الغربي المنفرط ، تنتهز الفرصة لاستخدام أليات جديدة مباشرة تقع في خارج آليات الأمم المتحدة ومجلس أمنها ، وبأداة حلف شمال الأطلسي .

ولكن تشكيل نظام دولي ليس مجرد هيمنة عسكرية ، إنما هو تشكيلة تنظيم مؤسسي يحتاج نشوؤه وتشكله وبلورته إلى زمن ، لأن العالم الراهن في حالة انتقال ، والنظام الدولي الجديد لم ينشأ بعد ، وسينشأ بعد وقت طويل ، والجميع مسؤول عن تشكله بما يخدم البشرية ويحافظ على الأمن والسلم الدوليين .

لذلك ، فإن حالة العالم الراهنة ، كما نتصورها هي ( فوضى ) عائمة في ظل غياب نظام دولي قائم على اختلال التوازن ، تتزعمه نزعة هيمنة أمريكية متصهينة تهدد باستخدام القوة ، يقابلها حالة رفض الأمم والشعوب والدول لهذه النزعة ومقاومتها سياسيًا واقتصاديًا وربما عسكريًا كل بطريقته الخاصة على طريق خلق التوازنات في المستقبل ، فيما تنتهز قوى إقليمية لتفرض نزعتها المذهبية والإثنية لأهداف التوسع في ظل خيمة الفوضى .

إن انتهاء الحرب الباردة كشف حقيقة القوة وتوازناتها ، كما كشف في الوقت نفسه هشاشة هذه التوازنات ، سواء كانت في إطارها العسكري والسياسي أو غيره .. وبالتالي كشف ضعف حركة الكثير من الدول حيال التفرد الأمريكي في فرض سياسة القوة ، بيد أن دول العالم ، وهي تستوعب الصدمة التي سببها انهيار القطبية الثنائية وظهور ( فراغ القوة ) في التوازن الذي شل النظام الدولي وأربك العلاقات الدولية ، قد أدركت حقيقة أن هذا الفراغ هو حالة مؤقتة ونسبية ، لأن هناك قوى عظمى ( تتشكل ) وقوى كبرى ( تتحول ) وقوى إقليمية ( تعبث وتتوسع ) ، ومعظمها يمتلك مقومات التشكل والتحول ، فيما التوسع فهو في دائرة الرصد الإدانة والحساب .. وعليه فإن فراغ القوة كحقيقة لا تسمح لأي قوة منفردة أن تملء أي نوع من أنواع الفراغات وتخل في ميزان التعادل .. لأن تَشَكلْ وتحول قوى عظمى وكبرى وعبث قوى إقليمية يمنع ويعرقل نهج التفرد بمختلف الوسائل الممكنة والمتاحة .

كما أن دول العالم وهي تجتاز مرحلة الصدمة قد أدركت أن قوة عظمى واحدة لا تصلح لزعامة العالم تضع مصالحها جانبًا وترعى مصالح دول العالم ومنها على وجه الخصوص مصالح الدول النامية !! .

إن مثل هذه القوة لا توجد .. وعليه فإن التفرد القطبي غير ممكن ، والحالة تشترط المشاركة الجماعية في القيادة كمرحلة مهمة تسبق تشكل التعددية القطبية لخلق التوازن المطلوب .. والمشاركة الجماعية تتم عن طريق توسيع تمثيل ( نظام وحدة الفيتو ) في مجلس الأمن الدولي وتوسيع تمثيل الدول غير الدائمة العضوية في هذا المجلس .

إن التنظيم الدولي ممثل بمنظمة الأمم المتحدة هو ( نتاج ) المنتصرين في الحرب العالمية الثانية الذين وضعوا للمنظمة ميثاقها ونظامها وآلياتها وتنظيمها وأدوات تنفيذها لقراراتها .. وكل ذلك يخدم مصالح المنتصرين وينحاز إليها ويدفع دول العالم إلى الانقسام والتبعية في استقطاب ثنائي يضع مصالح العالم وسيادة دول العالم النامي على حافة الانهيار .

وعليه ، فإن المنظمة الدولية نجدها :

أولاً- تعاني من أزمة بنيوية ( Structural Crisis ) داخلية تعكس عدم قدرة المنظمة على تمثيل المجتمع الدولي ، مما يتطلب الأمر توسيع العضوية الدائمة وغير الدائمة في مجلس الأمن لتشمل أعضاء يمثلون قارات ومناطق حيوية بمواقفها وقدراتها وإمكاناتها وكثافتها السكانية كالهند واليابان والبرازيل والأقطار العربية والقارتين الأفريقية والأوربية.. مما يرتب ضرورة إعادة النظر في ( نظام وحدة الفيتو ) في مجلس الأمن الدولي بما يتماشى والوضع العالمي الجديد ، الذي يعكس استيعاب التحولات والمتغيرات الإقليمية والدولية ، فضلاً عن أهمية إيجاد آليات من شأنها ضبط ألية إصدار القرارات في مجلس الأمن سواء كانت موضوعاتها من المسائل الموضوعية أو الإجرائية !! .

وتعد الأزمة البنيوية التي تواجهها المنظمة الدولية من أكبر الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي ، الذي هو بأمس الحاجة إلى تعزيز ركائز الاستقرار والأمن الدوليين ، ليس بصيغة تحويل مفاهيم أساسية للعلاقات الدولية بإتجاه التحريف المتعمد ، كإعطاء مسوغ افتراضي للتدخل العسكري والتدخل الإنساني بدعوى غير رصينة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية المذهبية والإثنية ، ومحاولات إلغاء السيادة الوطنية بمفاهيم طارئة تلغي الحقائق السيادية التي يقرها القانون الدولي .

لقد أدى انهيار النظام الدولي الذي كان قائماً على القطبية الثنائية إلى انهيار مماثل لتلك القواعد والضوابط التي تحكمت في سلوك الدول بعضها حيال بعض وبالتالي في التوازنات العالمية والإقليمية ، مما رتب إنفلاتاً تنظيمياً للعلاقات الدولية متفاعلاً مع بروز قائمة مشاكل عالمية جديدة دونما حلول ، مع انفتاح العلاقات داخل معظم الدول وفيما بينها أمام كافة الاحتمالات ومن بينها مثلاً : زيادة التهديد باستخدام القوة وزيادة استخدامها وفرض العقوبات والحصار الاقتصادي الشامل فضلاً عن التدخل المستمر في الشؤون الداخلية كما حصل للعراق منذ بداية عقد التسعينيات وحتى الآن .

وتؤشر التجربة التاريخية إن إعادة هيكلة الخريطة الجغرافية - السياسية لدول مهمة خارج العالم غير الغربي تعد إحدى وسائل الشمال لتصنيف أوضاع هذه الدول خدمة لمصالحه ، وذلك بتشجيع أو دعم ( تشكيل دول جديدة ) عبر ( تفكيك دول قائمة ) أو ( تفكيك كتل كبيرة ) و ( تفتيتها إلى دويلات صغيرة متناحرة ) ، وخاصة في مناطق حيوية تتميز إما بواقعها الاجتماعي - السياسي غير المستقر وإما بكثافة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأمريكية والغربية فيها ، ومن بينها الوطن العربي .

إن بروز اليابان واتحاد أوربا في مثلث تكون أمريكا أحد أضلاعه الثلاثة ، سوف يعجل في المقابل بظهور المثلث ( الصيني – الروسي – الهندي ) وقوى أخرى ( موازناً ) عملياً وموضوعياً يحقق ( توازن المصالح ) أولاً و ( توازن القوى ) ثانياً ، وعلى أقل تقدير ، في منطقة جغرافية - تجارية ( Geo- Economic ) ، مهمة ومحددة قد تمتد لتكون إطاراً لتجمع مؤسسي لدول معنية بواقع التوازن وعدم احتكار القوة باستخدامها والتهديد بها .

إن الرؤية الموضوعية للتشكيل الواقعي لحالة العالم الراهنة تعتمد أساساً على تحليل القدرات ( الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والموارد الطبيعية والبشرية .. إلخ ) للدول في ضوء مكونات القوة الأخرى ، وإن التحليل الموضوعي لقدرات القوى الدولية يأتي في إطار الآتي :

1- إن ثمة وضعاً دولياً إنتقالياً بين مرحلتين أولاهما : انهيار نظام دولي ، وثانيهما : تبلور نظام دولي جديد لم يتشكل بعد .

2- إن المرحلة الانتقالية الأولى صاحبتها فوضى واضطرابات عمت العالم في موجة عنيفة كانت خاضعة لصدمة الانهيار .

3- إن الوضع الدولي الراهن يعيش حالة الاضطراب والتغيير ، فهو بحاجة إلى عناصر الاستقرار التي تحتاج إلى تظافر الجهود الإقليميــة والدوليــة لتحقيـق التعـاون والتوازن الإقليمي والدولي النسبي .

4- في ظل هذا المناخ المضطرب ظهرت قوى ( تقاوم وترفض ) الهيمنة الأمريكية ، وتسعى إلى التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والثقافي في ما بينها ، وإن مثل هذه المساعي الإيجابية التي يحتاجها العالم للاستقرار والتنمية ، تبرز الحاجة إلى تنظيم دولي جديد يرتكز على هيكلية وآليات جديدة ذات طبيعة ( تمثيلية ديمقراطية ) تبدأ بإعداد ميثاق جديد لمنظمة الأمم المتحدة يعني بتوسيع التمثيل الجغرافي لمجلس الأمن ، كما أسلفنا ، ليشمل القارات والدول ذات الأهمية والتأثير في مجريات السياسات الإقليمية وتعزيز ( نظام وحدة الفيتو ) في المجلس بعناصر جديدة تتمتع بحالة الاستقرار وتتوازن مع اتساع التمثيل الجغرافي آنف الذكر ، وذلك لمنع محاولات ( تهميش ) الأمم المتحدة أو ( تقزيم ) دورها أو ( تضخيمه ) وكأنها حكومة عالمية !! .

وإزاء حالة التوتر الناجمة عن التهديدات والتدخلات العسكرية الأمريكية وتجاوزات الدول الإقليمية في بعض مناطق العالم الحساسة ومنها المنطقة العربية ، وإزاء حالة التهتك في المعايير التي كانت تحكم العلاقات الدولية والتجاوز على قواعد القانون الدولي ، ومن أجل وقف العدوان الأمريكي المستمر على الشعوب لتحطيم مقومات وجودها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وانتزاع هويتها القومية وتقسيمها وتفتيتها ، فلابد من قيام نظام ينشأ على أسس من العدالة والديمقراطية ، يحجم سلوك العدوان والتهديد باستخدام القوة ونزعات الهيمنة على مقدرات الشعوب ، في صيغة نظام دولي يستند إلى مواثيق متفق عليها بين الأقطاب القادرة على فرض الأمن والأستقرار والعدالة في العالم .

إن العالم متنوع في طبيعته ومختلف في طبيعة مكوناته وقواه .. وإذا كانت شعوب العالم تلتقي في نزوعها ومثلها العليا ومصالحها الحيوية ، فإن القلة التي تقود السلطة في دول العالم الرأسمالي لا تلتقي في نزوعها اللاإنساني ومعاييرها المزدوجة ومصالحها الضيقة ، مع متطلبات حاجة الشعوب إلى التنمية والرفاهية والأمن والاستقرار في العالم .

تمت ... والله المستعان





الخميس ٩ رمضــان ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / أيــار / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق الدكتور أبو الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة