شبكة ذي قار
عـاجـل










في مطلع العام ١٩٨٨ فوجئ القاضي المرحوم أياد عبد اللطيف ( رئيس محكمة جنايات واسط آنذاك ) بمكالمة هاتفية من وزارة العدل تبلغه بالحضور إلى القصر الجمهوري في موعد محدد دون بيان الغاية التي طُلب حضوره من أجلها.

تزاحمت في ذهنه وهو يمضي في طريقه من الكوت إلى بغداد توقعات شتى عما يمكن أن يكون سبب استدعائه غير المعتاد وتواردت شتى الإحتمالات. وفي مكتب استعلامات القصر وجد من يصحبه إلى مكتب السيد رئيس الجمهورية.

بعد دقائق دخل إلى المكتب الرئاسي وبعد عبارات ترحيب السيد الرئيس صدام حسين الذي اشتهر عنه احترامه للقضاء ودعمه له، اتضح سبب اللقاء حين بدأ يسأله عن ظروف قضية كانت محكمة جنايات واسط التي يرأسها قد أجرت محاكمة المتهمين فيها وأصدرت حكمها بحقهم.

وخلاصة القضية أن شاباً في إحدى قرى واسط كان على علاقة بفتاة، وكان يروم الزواج منها، لكن عائلتها رفضت تزويجها له، فهرب وإياها إلى قرية أخرى بعيدة وتزوجا رغم الرفض. وبتأثير القيم الإجتماعية السائدة في الريف، التي تعد هرب المرأة مع رجل ، أي ما يطلق عليه ( النهيبة )، فعلاً شائناً يلحق العار بسمعة العائلة، فقد أخذ ذووها يتعقبون آثار ابنتهم والشاب الذي هربت معه دون أن يتمكنوا من الوصول إليهما حتى جاءهم أحد معارفهم ليخبرهم بمكان وجودهما ويدلهما عليهما، فتوجهوا وإياه إلى المكان وقاموا بقتل الإثنين، وبعد انتهاء التحقيق وإحالة القضية إلى المحكمة، أصدرت حكمها فيها على المدانين وهم ذوو الفتاة وشريكهم الذي قام بمهمة الدلالة وتسهيل ارتكاب القتل، حيث كانت عقوبة هذا الشريك أشد من عقوبة ذوي الفتاة، ما أدى إلى تقديمه شكوى إلى الرئاسة ووصول الموضوع إلى الرئيس رحمه الله ، الذي أوعز بحضور القاضي للوقوف على التفاصيل والأسباب.

سأل الرئيس صدام القاضي أياد باستغراب عن سبب التباين في العقوبة بين المساهمين في الجريمة رغم أن القانون قضى بمعاقبة الفاعل والشريك بعقوبة الجريمة ( المادة ٥٠ من قانون العقوبات )، فكان جوابه أن القانون قضى بذلك لكنه فرق في الوصف بينهما ( أي الفاعل والشريك ) رغم تعاونهما على تنفيذ الجريمة ليتيح للقاضي ما يسمى ( تفريد العقوبة ) أي معاقبة كل مساهم في الجريمة بعقوبة تناسب دوره في التنفيذ وظروف مساهمته، وهو ما تسنده المادة ( ٥١ ) من القانون ذاته، ولما كان ذوو الفتاة يستحقون التخفيف بسبب سورة الغضب الذي تملّكهم جراء فعلها وشعورهم بالعار في محيطهم الريفي القبلي، فقد هبطت المحكمة بعقوبتهم على نحو يختلف عن عقوبة شريكهم الذي لا تربطه قرابة بالفتاة ولم يصبه ما أصابهم في سمعتهم ولم يكن تحت تأثير انفعال وغضب.

أثارت موضوعية القاضي والجهد الكبير الواضح في تعامله مع القضية إعجاب السيد الرئيس ، فعبر عن شكره له، وقام بتكريمه بسيارة ( سوبر ) وتكريم عضوي المحكمة اللذين شاركا في النظر في القضية بسيارة ( برازيلي ) لكل منهما، وفِي اليوم التالي صدرت الصحف العراقية وعلى صفحاتها الأولى صورة القاضي جالساً مع الرئيس صدام حسين.

في هذه القضية تجلت الحكمة التي أطلقها السيد رئيس الجمهورية في لقائه مع القضاة في العام ١٩٧٩ من أن على القاضي العادل أن يتلمس الجوهر الإنساني في القضية المعروضة عليه، وفيها تجسد أيضاً شاهد من شواهد احترامه للقضاء وحرصه على إشاعة العدالة رحمه الله.

توفي هذا القاضي النبيل بنوبة قلبية ألماً وحسرة على العراق في أيام العدوان الأولى في العام ٢٠٠٣.
يرحل الرجال وتظل مواقفهم ناطقة.





الخميس ١٤ ربيع الاول ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / تشرين الثاني / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب بقلم كادر قضائي عراقي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة