شبكة ذي قار
عـاجـل










الكاتب والأديب المخضرم في صحيفة القدس العربي الذي عاصر الصحيفة منذ زمن بعيد ، رغم إخلائها من آخر رئيس تحريرها عبد الباري عطوان ، الذي ما يزال ينفخ في قربة مثقوبة على الهوى الفارسي وبعض صغار العرب في صحيفة ( العرب اليوم ) .. عطوان إنْبحَّ صوته في تحذير قيادة ملالي إيران من هجمات أمريكية محتملة قادمة .. أقول ظل الكاتب صبحي حديدي مستمرًا في عموده الذي يتربع صدر الصحيفة يوميًا .

في مقال له تحت عنوان ( دَيْن صدام حسين في عنق جورج هربرت بوش ) نشرته القدس العربي يوم 7/12/2018 ، يهاجم فيه بوش الأب قائلاً ( جورج بوش في نظر الآلاف ، وربما الملايين من ضحايا سياساته ، قاتل تارة ومجرم حرب طورًا أو مجرد الرئيس الـ(41) للولايات المتحدة .. طبعًا هذا رأي الكثيرين الذين تابعوا سياسات هذا الرئيس ، والكاتب واحد منهم يقول ( إن بوش الأب لم يكن مرشحًا لدخول التاريخ من أي بوابة ، واسعة أم ضيقة ، لولا ضربة الحظ التي وفرها له رجل واحد وحيد يدعى صدام حسين ، حين اجتاح الكويت وقدم ذريعة فريدة كي تعسكر الولايات المتحدة في قلب الخليج العربي ، تلك كانت الفرصة الذهبية الوحيدة والدراماتيكية بكل المقاييس التي مكنت بوش أخيرًا من إسباغ المعنى على رئاسة شبه جوفاء وإختلاق القنطرة التي أتاحت ذلك العبور العجيب : من سأم اليانكي المعاصر جراء اختتام الحرب الباردة ، إلى إشعال حرب فعلية وقودها مئات الآلاف من الضحايا .. ظل بوش الأب شخصية عامة ، يبدل معتقداته ويعتنق فلسفة المحيطين به في هذه الحقبة أو تلك .. كان تارة جمهوريًا معتدلاً وطورًا محافظاً متشددًا يصرف نهاره في ترداد مقولات رونالد ريغان .. وظل كما وصفته أسبوعية إيكونومست البريطانية - لا يؤمن بشيء ما خلا ذاك الذي يسمح بتوطيد مواقعه ، ولا يقوده شيء ما خلا العجالة في ارتقاء سُلَم السلطة .. كان بوش يحتاج اللحظة والأزمة والمناخات لكي يصل الموقع الذي يطمح إلى احتلاله في التاريخ ، والرئاسة الأمريكية كانت خاوية رتيبة ومملة ، لا حرب باردة ولا حرب نجوم ، لا شيوعية ولا عدو أحمر ولا مكارثية ، حتى مَثَلَ اجتياح الجيش العراقي للكويت الذريعة الأهم لنفض الغبار عن رئاسة خاملة وخاوية .. وليست مبالغة إن جورج بوش يغادر هذا العالم في عنقه دَيْن باهظ مستحق لأبرز الدائنين : صدام حسين ) !! .

ما الذي أراد أن يقوله الكاتب صبحي حديدي ، المحسوب سابقًا على الاتجاه القومي العربي ، والآن محسوب على التيار الإسلاموي الذي قضى نحبه إلا من بعض الذيول .. يريد أن يقول ( رئاسة أمريكية خاوية وخاملة أنعشها وأنقذها صدام حسين بدخوله الكويت ، فجورج بوش مدين لصدام حسين على ذلك ) !! .

هذه فكرة المقال الذي بنى عليها الكاتب سطوره ، فأين يكمن الجهل في الموضوع وأين تكمن المغالطة فيه ؟ ، دعونا نُذَكِرُ الكاتب صبحي حديدي بالآتي :

1-  لو كان الكاتب قد اطلع على مذكرات بوش الأب ، الذي غادر ، ليس إلى رحاب التاريخ ، إنما إلى مزبلة التاريخ كمجرم حرب ، لما بنى مقاله على هذه الفرضية الخاطئة .. قال بوش الأب ( حتى لو لم يدخل صدام حسين الكويت فنحن سنسقط نظام بغداد ) .. وهذا يعني إن دخول الجيش العراقي إلى الكويت لم يكن ( ذريعة ) لقرار الحرب الذي أتخذه بوش ) .

2-  ثمَ ، أن أي رئيس أمريكي هو ليس وحده من يصنع القرار ، إنما هناك مؤسسات تحيطه تتولى التخطيط الاستراتيجي على وفق مديات معروفة - قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى -  والتخطيط هو الذي يجمع بين الأهداف والوسائل .. فالأهداف لم تولد بين ليلة وضحاها ، فهي موضوعة مسبقًا .. فبعد انسحاب الجيوش السوفياتية من أفغانستان ، وتنامي المد الإسلاموي ، الذي لعب دورًا محوريًا في هذا الانسحاب ، وكانت القيادة الأمريكية تعول عليه كثيرًا كخط متقدم في العمق الآسيوي ، انسحب بعد نجاحه ، إلى المنطقة العربية حيث مشروع الشرق الأوسط الكبير .. واستنادًا إلى هذا السياق التاريخي للأحداث لم تكن هناك ( ذريعة ) للتدخل الأمريكي في الخليج يا صبحي يا حديدي ، سوى مخطط يتم تنفيذه على مراحل منذ مؤتمر الطاقة الدولية عام 1973 ولحد الآن .

3-  لا أحد قدم ذريعة للقاتل بوش ، حسبما تعتقد خطأً وتروج يا صبحي .. هناك دولة ( عميقة ) ذات طابع استراتيجي تستند على هياكل إمبريالية خالصة ، كما أسلفنا ، تقف خلف بوش الأب والأبن أيضًا .. وقرار الحرب وهو - مختوم بهذه الهياكل حيثما تجد مصالحها - ، جاء سريعًا من ( الأيباك ) قبل ( الكونغرس ) ، لأن هدف الحرب إزاحة ( عقبة ) يراها الكيان الصهيوني قوية تقف بوجه مخطط تصفية القضية الفلسطينية من جهة ، وتنفيذ مشروع من النيل إلى الفرات ، ومجالاً لتصريف منتجات مصانع السلاح الأمريكي لإنعاش ضعف الاقتصادي الأمريكي ، و( العقبة ) هذه في عرف الكيان الصهيوني خطرة جداً ، طالما أنجزت التوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني بتحطيم نظرية الأمن الإسرائيلية .. فقرار دخول الكويت لا يمكن مقارنته بقرار الحرب العدوانية التي شنتها أمريكا مع جيوش التحالف الثلاثينية تنفيذًا لمخططها العام ، الذي تعكف أمريكا على تنفيذه في المنطقة .. فمن قدم لأمريكا ذريعة التدخل في سوريا مثلاً ؟ ، هل أن روسيا بشخص بوتين قدم لها الفرصة الذهبية للتدخل في سوريا يا صبحي ؟ .

4-  لقد اعتمدت واشنطن على الخط ( الإسلاموي ) الذي طرد الجيوش السوفياتية من أفغانستان واستعجلت بسقوط الشاه واستعجلت بتنصيب نظام خميني في طهران عام 1979 ، الذي استعجل ، هو الآخر ، بإشعال الحرب مع العراق التي دامت ثمان سنوات ، أملاً بسقوط العراق ووضع المنطقة في دائرة العنف والتفكيك .. وحين فشلت أهداف العدوان على العراق بتجريع خميني سم الهزيمة ، لم تطو صفحة التعويل على الخط الإسلاموي حيث أُشْعِلَ ( الربيع العربي ) وأُسْقِطَتْ نظم وعبثت أمريكا بمعاونة نظام طهران ، بأمن وإستقرار المنطقة .. لماذا لم تستقر المنطقة أمنيًا منذ احتلال العراق ولحد الآن ؟ ، والجواب : هو لاستكمال مخطط الدولة العميقة في واشنطن .. فلماذا هللت أمريكا وساعدت ( محمـد مرسي ) على الوصول إلى السلطة ؟ ، ولماذا رحبت به كل من طهران وأنقرة ؟ ، لأن أمريكا كانت تدعم ( التيار الإسلاموي ) المتمثل بالأخوان المسلمين خلال فترة ولاية ( بيل كلينتون ) وولاية ( أوباما ) .. الآن تغيرت الـ( وسائل ) وليس الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة ، وسقط حكم الأخوان ، وجاءت ولاية ( ترامب ) ، الذي استأنف تغيير التعامل مع التيار الإسلاموي إلا من بعض جيوبه تكتيكيًا .. فأمريكا تضغط على أنقرة بقسوة وتحارب حماس غزة وتضغط على إيران بقسوة وتشدد الخناق عليها اقتصاديًا لأنها ترعى الإرهاب وتدعم فصائل القاعدة وتمد داعش التي خلقتها بالسلاح العراقي وبأموال النفط العراقي وبأبناء العراق وقودًا للحرب الميليشياوية المعلنة .. فالمرحلة الراهنة بدأها ترامب على وفق قواعد الحسابات التي تتقنها الهياكل الأمريكية العميقة لحكومة الرئيس الأمريكي .

5-  وربما تعلم ، وأنت تبحث في حيثيات مبادئ الرؤساء الأمريكيين وصلاحياتهم ، أن الرؤساء هؤلاء هم موظفون في البيت الأبيض ولا تغرنك بهرجاتهم وتصريحاتهم ، فصلاحياتهم تنفيذية لقرارات هي ليست من صنعهم ، إنما من صنع مراكز صنع القرار المتعددة محكومة بمجالس تمثيلية صارمة .. وعلى الرئيس أن يختار أحد أهم القرارات المعروضة على طاولته ، وهذا ما يسمونه بـ(political options) ، حيث تقلصت الخيارات السياسية من (10) خيارات إلى (3) ثلاثة خيارات ، وتتضمن حجم الخسائر في كل قرار يتخذ ، كما أن مبدأ الرئيس المعلن الذي يوصف ويتميز به كمبدأ ترومن وكارتر ونيكسون وكلنتون وبوش الأب والأبن وأوباما وترامب .. مبادئ هؤلاء هي ليست بديلاً أو أنها تعمل في خارج الاستراتيجية الأمريكية العظمى أبدًا ، إنما تمثل صفة النهج الذي ستتبعه الإدارة في جزئية مرحلية .. وهذا لا يعني أنها ستغرد خارج سرب الدولة العميقة .

6-  الدولة العميقة الأمريكية تخطط والرؤساء ينفذون ( وليس هناك دَيْن في عنق هذا أوذاك ) ، وإذا ما زاغ أو انحرف أحدهم عن الخط يُعْزَل أو تنهى ولايته ولا يستكمل ثانيتها أو يغتال .. هذه هي الدولة الأمبريالية يا صبحي حديدي .. فلا تفكر بطريقة عرجاء حول تقديم ( الذريعة ) .. العراق بات في حينه ( عقبة ) وطنية وقومية قوية أمام مخطط تغيير الشرق الأوسط .. وخطط التغيير وضعت منذ تأميم العراق لثروته النفطية استنادًا إلى قرار مؤتمر الطاقة الدولية عام 1973 الذي أشرف عليه هنري كيسنجر .. فلا تُخطئ في سياق أحداث التاريخ .. وإن الخط الإسلاموي لا يبني دولاً إنما يعبث ويدمر ويدور في فلك أقطاب الماسونية العالمية التي تحرك جرافتها الأمريكية من أجل التغيير مرحليًا ، ونظام طهران أداة مرحلية من أدوات هذا التغيير لأغراض الهيمنة !! .





الاثنين ٢ ربيع الثاني ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / كانون الاول / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق الدكتور أبو الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة