شبكة ذي قار
عـاجـل










في زمن كثرت فيه مواقع التواصل الإجتماعي وسَهُلت خدمات الرسائل الألكترونية في عموم الكوكب وصلتني رسالة (مسج مثلما يقولون) تتحدث عن الخميني وكيف عاش فترة غير قصيرة من الزمن في العراق، وعن التسهيلات التي قدمتها حكومة العراق وشعبها لهذا الرجل الذي إنطبق عليه المثل القائل "إتق شر من أحسنت اليه"! فقد رد الجميل للعراق بشن حرب إستمرت 8 سنوات أحرقت الأخضر واليابس، ثم خسر الحرب وتجرع السم معترفاً بلسانه. وأخيراً إبتلعته مزبلة التاريخ دون رحمة.

كنت في وقت إستلام ذلك (المسج) أقرأ قصة حقيقية في مجلة حصلت لمواطن أميركي يدعى "موريس هومر إيرون"، وهو واحد من المنقبين عن الذهب المعروفين في الولايات المتحدة الأميركية. حيث يقول انه توجه في موسم الربيع الى ولاية آلاسكا المعروفة ببرودتها الشديدة طيلة أشهر السنة، وتكثر فيها الغابات والثلوج. وعند توجهه الى منطقة التنقيب، رأى عن بعد كتلة سوداء بارزة بين الأعشاب واكوام الثلوج المنتشرة هنا وهناك. وعند تقربه الى ذلك المكان تبين له ان تلك الكتلة ذئب رمادي واقع في فخ حديدي، حيث إنحسر أحد أطرافه بين فكي الفخ، ولم يعد قادرا على الهروب منه. ومن حسن حظ ذلك الذئب ان الصياد الذي نصب الفخاخ قد توفي نتيجة أزمة قلبية، ولم يتمكن أحد من التخلص من الحيوانات التي سقطت في تلك الفخاخ.

يستمر موريس بقصته قائلا انه اصابه الذعر والفزع عند مشاهدته للذئب ولحركاته المرعبة وهو يهز الفخ وسلاسل الحديد معه. وعند التمعن فيه تبين له ان الذئب كان أنثى، وان حلماتها كانت مليئة بالحليب، مما يعني ان هناك جراء قريبة من هذا المكان، ولا بد لتلك الجراء ان تكون جائعة تنتظر امها في هذا الجو البارد. وقد تبين له من مظهر الذئبة انه مضى عليها ايام قليلة في هذا الموقف السيء. وهذا يعني ان الجراء ايضا ما زالت على قيد الحياة، وقريبة من المكان. لذا خطر في باله ان يحرر الذئبة من الفخ والمأزق الذي وقعت فيه، لكنه سرعان ما تراجع عن تلك الفكرة لمعرفته بشراسة الذئب وقدرته على تقطيعه إرباً إربا.

بعد هنيهة، قرر موريس أن خير طريقة لتهدئة الذئبة هو ان يجد لها جرائها. لذا بدأ يبحث عن آثار محتملة قد تؤدي الى وكرهم. ومن حسن الحظ كانت هناك بقايا من الثلوج المنتشرة في المنطقة. وبعد محاولات هنا وهناك شاهد آثار مخالب تشبه مخالب الذئب والجراء. إستمرت الآثار لنصف ميل تقريبا عبر الغابة، ثم وصلت الى منحدر صخري، حيث شاهد الوكر بالقرب من شجرة كبيرة. ولم يسمع اي صوت داخل الوكر سوى حفيف الشجر، حيث يعم المنطقة سكون تام. ويبدو ان الجراء كانت خائفة وحذرة منه. لذا بدأ بمحاولات إستدراجها الى خارج الوكر، حيث راح يقلد صوت الذئبة وهي تقترب من الوكر، ولكن دون نتيجة، ثم كرر المحاولة بعد دقائق قليلة، وإذا بأربعة جراء صغيرة تظهر من داخل الوكر لا يتجاوز عمرها اسابيع معدودة. وبعد ان مد يده اليها، زال عنها الخوف نتيجة الجوع وراحت تمص اصابعه طمعا في الحليب. وهكذا وضعها في حقيبته وتوجه الى المنحدر حيث الذئبة الأم.

عند مشاهدة الذئبة لموريس قادما من بعد، انتصبت واقفة، وراحت تعوي بصوت حزين إذ يبدو انها إستشعرت رائحة اولادها الصغار. وبعد أن أخرج الجراء من الحقيبة، إنطلقوا مسرعين صوب امهم. وبعد ثوان راحوا يرضعون ويتدفئون ببطنها.

نظر موريس اليهم وهو يفكر كيف يستطيع تخليص الذئبة من الشرك المؤلم. وعندما حاول ان يتحرك صوبهم، زمجرت الذئبة مهددة اياه بان لا يقترب منهم. حيث ان طبيعة الكائنات الحية حماية اولادها الصغار وتبعد عنهم الخطر. ولغرض إقناعها بأن نيته طيبة ولا ينوي أذيتها، فكر في أن يجلب لها طعاما لتأكله تعبيرا عن حسن النية.

إنطلق موريس باحثا عن طعام، وبعد نزوله الى الوادي رأى غزالا ميتا مدفونا في كومة ثلج. قطع منه قطعة كبيرة لا بأس بها، وترك الباقي تحت الثلج ربما يحتاج اليه فيما يعد. حمل اللحم الى الذئبة على امل ان يستطيع ان يكسب ودّها. وعند وصوله الى حيث كانت، قال لها بصوت خافت حنون، "حسنا ايتها الأم، لقد أتيت اليك بالعشاء! أرجوك هدئي من روعك. أنا صديق اود المساعدة." ثم دفع اليها باللحم، فراحت الذئبة تشم اللحم، ثم بدأت تلتهمه إلتهاما من شدة الجوع. بعدها استقر رأي موريس على ان يبيت ليلته في مكان قريب عسى ان يستطيع ان يجد حلا لتحرير الذئبة من مأزقها . وعليه وجد جذوع اشجار بالقرب من الموقع، فما ان تمدد هناك حتى غط في نوم عميق، ولم يستيقظ الا فجرا على اربع جراء جاءت تشمشم وجهه وتداعبه. عندها نظر الى الام مبتسماً على أمل ان يكسب ثقتها، وهذا هو الامل الوحيد لها.

مضت أيام معدودة على موريس وهو ينقب عن الذهب تارة، وتارة أخرى يحاول التقرب الى الذئبة ليكسب ثقتها. حيث كان يتحدث اليها بهدوء وحنان، ورمى اليها بمزيد من لحم الغزال، وقضى اوقاتا يتودد الى الجراء ويلعب معهم. ورويدا رويدا راح يتقرب اكثر فأكثر من الذئبة، لكنه لم يجازف بالتقرب أكثر من المعقول، في الوقت الذي كانت تنظر اليه بعينيها البراقتين وتتابع حركاته وسكناته. اما هو فقد ظل يردد عباراة التودد قائلاً، "هيا أيتها ألام. هل تودين الذهاب الى اصدقائك الذئاب في الجبل؟"

إستمر موريس على هذه الحال اربعة أيام، وفي اليوم الخامس عند الغروب رمى اليها بقطعة من لحم الغزال قائلاً، "هيا يا صديقتي، لا تخافي. استمتعي بهذا اللحم وسوف تكونين بخير!" ثم جاءته الجراء تتودد اليه، حيث كان قد كسب ثقتهم. وفي الوقت الذي بدأ يفقد الأمل من إمكانية تخليص ذلك الحيوان من مأزقه، لاحظ ان الذئبة بدأت تهز ذيلها قليلاً. عندها تقرب اليها أكثر، ثم أكثر، ثم أكثر. لم تبد الذئبة أي حركة، الا انه بدأ يرتجف من الخوف الى درجة انه سمع دقات قلبه كأنها دقات طبول. ثم جلس على بعد ثمانية أقدام منها، وتلحف ببطانيته وتمدد على الأرض وراح في سبات عميق.

جلس موريس عند بزوغ النهار على صوت الجراء وهي ترضع من أمها. عندها مد يده وأربت عليهم بحنان، لكن الذئبة توترت قليلاً. عندها قال لهم، "صباح الخير ايها الأصدقاء". ثم مد يده ببطء شديد ووضعها على رجل الذئبة المحصورة في الفخ. جفلت الذئبة، لكنها لم تظهر اي حركة عدوانية. هنا أدرك ان المستحيل قد حصل. إذ لا يمكن لإنسان أن يضع يده على جسم ذئب ويخرج سالما!

بعد ان تفحص قدم الذئبة، تبين له ان إصبعين من أصابع القدم محصوران بالفخ وهما منتفخان ومتورمان، الا ان المخلب ما زال سليماً. ربت موريس على رجل الذئبة قائلاً، "حسنا، سوف أخرجك من هنا!" ثم مسك فكي الفخ وباعد بينهما، فتحررت رجل الذئبة مما جعل الذئبة تتأوه وتقفز بعيدا بخطى عرجاء.

خبرة موريس في البراري تفيد بأن الذئبة سوف تأخذ جرائها وتختفي في الغابة. الا أن ما حصل، يختلف تماما. فقد تقدمت الذئبة بحذر بإتجاه موريس مع جرائها التي تلعب معها، ثم توقفت عند مرفقه، وراحت تشم ذراعه ويده، ثم لطعت أصابعه، مما أثار حقا دهشته. هل يعقل هذا؟ إن ما حصل يخالف كل قوانين الطبيعة ويتناقض مع المعلومات المعروفة عن طبيعة الذئاب. بعد ذلك، توجهت الذئبة مع جرائها صوب الغابة. ثم إستدارت الى موريس وألقت اليه بنظرة فهم منها أنها تشكره. ثم إختفت بين الأشجار. اما هو فجمع عدته وعاد أدراجه الى حيث ينقب عن الذهب.

إستمر موريس ينقب عن الذهب، وبعد أسابيع معدودة رأى تسعة ذئاب، من بينها 4 جراء كبيرة، تقف على بعد متطلعة اليه. وفجأة راحت تلك الذائب تنبح وتعوي بصوت غريب وكأنه عويل. وعند حلول الظلام، نصب خيمته وجلس يتدفئ بالنار التي اوقدها. ثم بدأ يرى اشباح الذئاب تحت ظل نور القمر وهي تجلس على مسافة قصيرة من الخيمة. عندها لم يكن خائفاً، بل تولد عنده الفضول لمعرفة ما تريده تلك الذئاب.

إستيقظ عند الفجر ورزم ادواته وحاجاته ثم إنطلق عبر المروج الخضراء بعيدا عن الغابة. ثم توقف ونظر الى الخلف فرأى الذئبة الأم مع جرائها الأربعة جالسة حيث تركهما، وهم يراقبونه ويلقون عليه تحية الوداع. اما هو فلوح لهم بيده كأنما يقول لهم وداعاً. وهنا سمع صوت الأم وهي تطلق عويلاً مزق سكون المنطقة من شدة الألم، وكأنها تبكي لفراقه.

عاد موريس بعد 4 سنوات من تلك الحادثة الى التنقيب عن الذهب في تلك المنطقة، بعد أن أدى خدمته العسكرية في الحرب العالمية الثانية التي عانى فيها من مخاطر المعارك والقتال. وها هو الآن يستنشق عبير الطبيعة ويرى جمالها في الحيوانات والنباتات. وبينما كان يتمشى في تلك المنطقة، رأى الفخ الذي وضعه على اغصان أحد الأشجار صدئأً، ذلك الفخ الذي بسببه تمكن من تغيير قوانين الطبيعة. وقد عادت به الذكرى حين رأى الفخ، وحرك في دواخله احاسيس غريبة أدت به الى تسلق الجبل والوصول الى المنطقة التي رأى فيها الذئبة واولادها آخر مرة. وعندما وصل الى هناك، أطلق صوتاً شبيها بعواء الذئب، سمع على أثره صداه قادما من مسافة غير بعيدة. ثم كرر ذلك، وسمع صداه، ثم تلا ذلك نباح ذئاب من مسافة تقدر بنصف ميل.

بعد فترة سكون رأى جسما داكنا يتحرك صوبه. وما أن تجاوز ذلك الجسم الداكن المروج الخضراء حتى تبين له أنه الذئبة. حينها سرت بجسمه قشعريرة. فقد عرفها حق المعرفة. إنها الذئبة بعينها. وقال لها بلطف، "مرحباً أيتها الأم الطيبة." تقدمت الذئبة نحوه ببطء وأذنيها منتصبتان، وجسمها متوتر ثم توقفت على بعد ياردات قليلة منه وراحت تهز ذيلها توددا له. بعد دقائق معدودة إستدارت وأختفت بين الأشجار. ولم يرها بعد ذلك.

لقد علق هذا الحدث بذاكرته طول حياته. حيث أن هناك أشياء تكمن خارج نطاق قوانين الطبيعة وبعيدا عن إستيعاب الإنسان لها، تفوق التصور. فاللحظات التي قضاها موريس مع الذئبة المجروحة مكنته من الدخول في عالم الذئاب، كما قدرت للذئبة ان تدخل في عالم الإنسان، وإستطاعت تلك اللحظات ان تزيل الحواجز بين الإثنين. لا يوجد تفسير لما حصل سوى ان تلك الذئبة أصيلة وعرفت معنى الجميل رغم إنها لا تمت للإنسان بصلة. وعلى العكس من ذلك، نتذكر ناكر الجميل الذي عاش معززا مكرما في عراق العروبة، وبعدها لم يكتف بما شنه من حرب إستمرت ثمان سنوات، بل خلّف أفاعي وعقارب وحشرات وصراصير ليستمر بأذاه علينا الى ان يشاء الله رب العالمين. ...... فأين الثرى من الثريا؟





الاربعاء ٢ شــوال ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / حـزيران / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عماد عبد الكريم مغير نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة