شبكة ذي قار
عـاجـل











بعد الإطاحة بنظام شاه إيران وإستلام ملالي قم وطهران السلطة وعلى رأسهم الملعون الخميني سادت المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تركيا مشاعر متباينة. فقد أعتبر الكثيرون منهم ان ما حصل في إيران جاء نتيجة إنتهاكات نظام الشاه لحقوق الانسان والى عمليات القمع التي إرتكبتها قوات الباسيج ضد الشعب الإيراني. ولكن سرعان ما تغيرت هذه النظرة حيث تأكد لتركيا ان إيران عازمة على إثارة القلاقل والفتن عبر تركيزها على إثارة النزعة القومية الفارسية وممارساتها لسياسة إضطهاد الاكراد في شمال ايران، ناهيك عن مباشرتها بتصدير الثورة تحت عباءة الإسلام.

بعد أن إتضح لتركيا ضخامة المشروع الفارسي ونواياه في زعزعة إستقرار المنطقة وتصديرها للدجل والشعوذة والارهاب تحت غطاء الدين، عملت على أن تتعايش مع تلك الظروف طيلة الأربعين سنة التي تلت الثورة المزعومة. ورغم ذلك، كانت هنالك حالات من المد والجزر في العلاقات بين البلدين بالمقارنة مع علاقاتهما التي اتسمت بالمستقرة بعد اتفاقية قصر شيرين في عام 1639 والتي عقدت بين الامبراطورية العثمانية والدولة الصفوية آنذاك. حيث انهت تلك الاتفاقية جولات طويلة من الحروب بينهما. لكن من المفارقات التي برزت على الساحة أن تركيا، رغم رعايتها للعلمانية، اصبحت تنحو نحو الاسلام السياسي في السنوات الأخيرة، وبهذا يكون قد ظهر مساران من الإسلام: مسار إيراني ومسار تركي.

العلاقات التركية الإيرانية منذ 1979 وما بعدها
اصيبت العلاقات التركية الإيرانية قبل مجيء الملالي بالتوتر نتيجة إيواء الأتراك لمعارضين إيرانيين من جهة، ومن جهة مقابلة دعم الشاه لحركة الإنفصال الكردية في شمال العراق في مطلع السبعينات. لذلك أيدت تركيا ثورة الملالي في بداياتها وراحت تعبر عن مناهضتها لامريكا مما مكنها من كسب رضا الشعب التركي. من ناحية ثانية رحبت الحكومة التركية التي ترأسها آنذلك بولند أجاويد بإنسحاب إيران من منظمة المعاهدة المركزية ، ثم سعت تلك الحكومة الى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع طهران. وعلى هذا الاساس بعث بولند أجاويد وزير خارجيته الى طهران بزيارة رسمية في حزيران 1979 حيث استقبله الخميني تعبيرا عن نوايا إيران السلمية. الا ان تلك العلاقات سرعان ما تعثرت بعد الإنقلاب العسكري الذي تزعمه الجنرال كنعان ايفرين مع مجموعة من الضباط، والذين تبنوا فكرة حماية المبادئ الأساسية للجمهورية التركية كما وضعها اتاتورك، واعتقادهم بأن سبب تدهور الامبراطورية العثمانية واندحارها عسكرياً كان لارتباطها بالأقطار العربية والإسلامية، وكذلك تخوفهم من الصعود الملحوظ للتيار الإسلامي في الانتخابات التركية. وقد رأى الجيش التركي أن النظام الإيراني الذي يرتدي عباءة الدين يشكل تهديدًا للعلمانية التركية وللأمن القومي، بينما نظرت طهران إلى تركيا على أنها "خادم الشيطان"، ويقصد بها أميركا، التي تطمح لتقويض الثورة. استمرت تلك التصورات والتهديد المتبادل بين الطرفين وانعدام الثقة طيلة التسعينات وحتى الألفية الجديدة. ومن الأمثلة على ذلك الإنتقادات التي وجهتها إيران الى تركيا في عدم السماح للنساء التي ترتدي الحجاب من إكمال الدراسات العليا ومن تقلد المناصب في الدوائر الحكومية. ومقابل ذلك، اتهمت تركيا إيران بأن فرض إرتداء الحجاب يعد نوع من التخلف وعدم التحضر. اضافة الى ذلك، أبدت إيران مخاوفها إزاء توطيد العلاقات التركية الإسرائيلية، كما اعربت عن قلقها من فرض القومية التركية على الأقلية الأذرية. من جانبها إتهمت تركيا إيران بانها تدعم حزب العمال الكردستاني، لذا ارسلت قطعات عسكرية لمطاردة مقاتلي هذا الحزب، وقصفت مقراته ومخابئه بالطائرات. هذا في الوقت الذي امتنع فيه دبلوماسيون إيرانيون من زيارة ضريح كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، كما رفضت السفارة الإيرانية في أنقرة تنكيس علم السفارة بمناسبة وفاته مما أثار إمتعاض تركيا وغضبها من تلك التصرفات. وكثيرا ما اتهمت أنقرة طهران بدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة في تركيا وإتهمتها باغتيال المثقفين العلمانيين البارزين. في عام 1997، كانت مشاركة السفير الإيراني في فعاليات إجتماعية ذات طابع إسلامي أجريت بالقرب من أنقرة بمثابة الشرارة التي اشعلت "انقلاب ما بعد الحداثة" ، مما عجل من إستقالة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان من حزب الرفاه وإنهاء حكومته الإئتلافية. بعد مجيء حزب العدالة والتنمية التركي الى السلطة في عام 2002، إزداد تقارب الدولتين بعد زوال الخلافات الإيديولوجية تدريجيا. وقد أدى هذا التقارب الى زيادة التنافس للسيطرة على المنطقة برمتها. وتركز هذا التنافس على العراق بعد الإحتلال، حيث نجحت إيران في دعم الموالين لها من حثالة القوم ومجرميهم ومكنتهم من إحكام السيطرة على مفاصل الدولة برمتها، بحيث اصبح العراق أشبه بمحافظة إيرانية.

إزدادت حدة التنافس بين تركيا وإيران بعد حلول الربيع العربي. في بداية الأمر بدت تظاهرات الجماهير العربية تصب في صالح تركيا التي تتمتع بنفوذ كبير في الشرق الأوسط ولكن سرعان ما تغير واقع الحال ومالت كفة الميزان لصالح إيران خصوصا في سوريا. ومما عزز هذا الموقف تدخل روسيا في الساحة السورية عام 2015 ذلك التدخل الذي ادى الى إنسحاب المعارضة وبالتالي عزز من إحتلال إيران لسوريا بالكامل وبمباركة بشار الأسد الذي لم يبغ شيئا سوى بقاءه في السلطة. لقد فسحت سوريا المجال امام تركيا وإيران بالتدخل على أساس الدفاع عن المجموعات المتشرذمة التي تنتمي الى كل منهما، ولكن الحقيقة تقول ان هاتين الدولتين إنما كانتا تعززان من مكانتهما في سوريا لحماية مصالحهما في مجالات تشمل التسليح والتدريب والتفرقة بين فئات الشعب المختلفة، وبإذكاء الخلاف بين السنة والشيعة التي لم تكن يوما موجودة على ارض الواقع الا بعد ان زرعت ايران الفتنة في المنطقة وتبعتها تركيا في الشأن نفسه.

على الرغم من وجود خلافات بين تركيا وإيران ظاهريا، الا ان الواقع يشير الى وجود علاقات حميمة بينهما بدأت منذ أوائل 1979، اي بعد مجيء الملعون الخميني للسلطة عن طريق تعزيز التبادل التجاري والدبلوماسي، واستمرت تلك العلاقات لحد الآن رغم العقوبات المفروضة على ايران. من العوامل التي شجعت على توسيع التبادل التجاري بين البلدين بعد إستلام الملالي للسلطة نشوب الحرب التي شنها المجوس ضد العراق في عام 1980، وقرار الحكومة التركية بإتباع إستراتيجية تصدير المنتجات الصناعية والزراعية الى العراق. وقد كان لموقف تركيا المحايد تجاه الحرب العراقية الإيرانية دورا فاعلا في تنشيط التبادل التجاري بين تركيا وإيران، حيث إستفادت تركيا من إستيراد النفط الإيراني مقابل البضائع المنتجة محليا في تركيا. اضف الى ذلك إمتناع إيران عن مهاجمة أرتال الشاحنات المحملة بالبضائع التركية والمتوجهة الى العراق والصهاريح المحملة بالنفط العراقي والمتوجهة الى ميناء جيهان التركي.

إنخفض التبادل التجاري بين تركيا وإيران بعد إنتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ولكنه عاد وأنتعش بعد فترة وجيزة، خصوصا بعد توقيع إتفاقية تصدير الغاز الطبيعي من إيران الى تركيا في عام 1996. لقد كانت إيران المصدر الأكبر للنفط الخام الى تركيا، الا ان هذا الموقف قد تغير بعد العقوبات الأميركية على إيران، رغم حصول تركيا على إعفاء من تلك العقوبات. في 2001 بلغ حجم إيرادات التبادل التجاري بين البلدين 1,2 بليون دولار، وبعد عشر سنوات إرتفعت لتصل الى 16 بليون دولار.
بعد معاناة في العجز التجاري، رفعت تركيا القيود عن إصدار تأشيرات الزيارة للأغراض السياحية للإيرانيين، وبهذا إرتفع عدد السياح من 300 الف سائح في عام 2001 الى ما يقارب 1,9 مليون سائح في عام 2011، ثم ارتفع العدد الى 2,5 مليون سائح في عام 2017.

إن إهتمام تركيا بتوسيع التبادل التجاري وحجم الاستثمارات في إيران يفسر معارضتها للعقوبات الأميركية ضد نظام الملالي. ومن الجدير بالذكر أن تركيا لم تنظم الى المؤيدين للعقوبات التي فرضت بعد أزمة الرهائن في عام 1980، ولم تتخل عن تلك السياسة حتى بعد تدهور علاقاتها الدبلومساية مع إيران، خصوصا في التسعينات. لقد لعبت تركيا دورا مهما في مساعدة إيران على التحايل على العقوبات الإميركية خصوصا في عهد أوباما. وبعد إبرام الإتفاق النووي بين أميركا وإيران في 2015 تنفست تركيا الصعداء حيث عززت تلك الإتفاقية من طموح تركيا في توسيع التبادل التجاري مع إيران، خصوصا قبل إنسحاب إدارة الرئيس الأميركي ترامب من تلك الإتفاقية في 2018 والذي أعاد العقوبات على إيران. من الواضح إن تركيا قد حافظت على علاقاتها مع إيران طيلة عقود ما بعد الاطاحة بنظام الشاه ومجيء الملالي للسلطة، وإتسمت تلك العلاقة بالعملياتية حيث عمل الطرفان على إبقاء كافة القنوات الدبلوماسية مفتوحة بينهما حتى في أسوأ الحالات والظروف. في عام 2008 اتفقت تركيا وإيران على حل خلافاتهما بشأن حزب العمال الكردستاني، وتوصلا الى القضاء على حزب الحياة الحرة الكردستاني في إيران، ثم تبع ذلك وقوفهما سويا لمنع إستقلال إقليم كردستان العراق، ليس حباً بالعراق، ولكن حفاظا على مصالحهما الخاصة. ومن الأدلة على تعاونهما الوثيق، كثفت الدولتان بدعم روسي وقوفهما ضد المعارضة السورية وخصوصا في إدلب بعد أن بدأت تركيا والمعارضة السورية المتحالفة معها بفقدان الأراضي التي تسيطران عليها.

في عام 2010 شاركت تركيا والبرازيل بمحاولات دبلوماسية لحل الخلافات بين أميركا وإيران والمتعلقة ببرنامج إيران النووي. وفي 2011 صدر القرار التركي بقبول نشر نظام الدرع الصاروخي لحلف شمال الاطلسي بتركيا مما أثار حفيظة إيران التي هددت بضرب تلك المنظومة في الاراضي التركية. الا ان تركيا استطاعت بنزع فتيل الخلاف عبر جهود دبلوماسية وتمكنت من تهدئة المخاوف الإيرانية.

رغم وجود تناقض في سياسات الحكومتين التركية والإيرانية، الا ان السنوات الأخيرة أثبتت وجود إنسجام وتجانس بينهما نتيجة إعتمادهما على البراغماتية السياسية. ولو عدنا الى عام 2002 نرى ان الرئيس التركي أحمد سيزار زار إيران وتفقد مناطق الأذريين المتاخمة لتركيا، كما القى محاضرة عن كمال أتاتورك وإيديولوجياته، تلك الشخصية والإيديولوجيات التي يكن لها الملالي الحقد الدفين. وبعد سنوات تعززت أواصر العلاقت الحميمة بين الطرفين خصوصا في عام 2009 بعد وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة عبد الله غول الى سدة الحكم، والذي تقدم جميع رؤساء دول العالم وملوكها بتهنئة إيران لإعادة إنتخاب محمود أحمدي نجاة وسط أحتجاجات ضد تزوير صناديق الإقتراع. ولم تعبر تركيا عن رفضها لقمع المتظاهرين مما يشير الى تأييدها للسياسات الإيرانية.

في الشأن الفلسطيني، لم تكن تركيا على موقف ثابت تجاه القضية الفلسطينة. فمن جانب نراها تبتعد عن السلطة الفلسطينية وتؤيد حركة حماس في غزة، وهذا الموقف متطابق مع سياسات إيران بهذا الشأن. كما انه موقف متناقض مع دورها في عقد لقاء في انقرة عام 2007 بين محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، وشمعون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل. حيث كان اللقاء ثمرة جهود رجب طيب اردوغان للتسوية بينهما، اضافة الى جهوده للتوسط بين سوريا وإسرائيل.

من المعلوم ان تركيا سلكت سلوكا غير مسبوق في عدوان مبطن تجاه العراق. اليست هي التي قللت من حصة العراق من مياه الرافدين دجلة والفرات منذ السبعينات، وما زالت تسلك السلوك ذاته لحد الآن. ودارت الأيام على تلك الأعتداءات البيئية، حتى جاء دور إيران بقطع المياه عن الروافد المنتشرة شرق العراق. وفي الوقت الذي لم تتمكن فيه من قطع المياه، راحت تدس السموم والنفايات في الروافد والانهار مستهدفة ليس شعب العراق فقط بل الكائنات المائية الوفيرة فيها. ويبدو ان سياستها هذه مستوحاة من قرينة لها دأبت على تلك السياسة منذ عقود.

الخاتمة
في الوقت الذي تمكنت فيه إيران من بث سموم ثورتها المزعومة وتعكير صفو علاقاتها مع تركيا، الا ان الدولتين حافظتا على تطوير علاقة إتسمت بالبراغماتية، تتماشى مع إرثهما التاريخي الطويل. وفي نهاية المطاف، حصل تطابق في وجهات نظر الحكومتين، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن السياسة في العالم برمته لم تعد تحكمها الإيديولوجيات، بل اصبحت خاضعة الى تأثر العلاقات الإقتصادية المادية بصورة مقززة في بعض الأحيان، وبعيدة عن الموضوعية بحيث تتخطى عتبة الذوق والإنسانية.





الجمعة ٣ ذو القعــدة ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / تمــوز / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عماد عبد الكريم مغير نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة