شبكة ذي قار
عـاجـل










مدخل : التكاملية بين القضايا القومية سرُّ قوَّتها

عندما يجد صوت في قطر عربي صداه في ذرى قطر عربي آخر،فهذا يعني ان الصوت العربي الرافض واحد لا يتجزَّأ.فهو يتمرَّد على خطوط مقاييس سايكس – بيكو الجغرافية، وعلى الخطوط الطائفية، وعلى خطوط التفتيت الوهمية التي يزرعها الاستعمار والصهيونية ودول الإقليم ذات المشاريع الدينية السياسية.وإنه على الرغم من أن كل تلك القوى تستغل أمراضنا في الطائفية والتجزئة القطرية، يبقى صوت الأكثرية من الشباب العربي، لا تحده خطوط الجغرافيا السياسية، ولا تحيط به خطوط الجغرافيا الطائفية.

وإذا كانت الأنظمة الرسمية مأسورة في خطوط محدَّدة لها، جغرافية كانت أم طائفية أم عشائرية أم طبقات مستغلة لثروات الشعوب، فلأن مقاساتها تكون مفصَّلة بناء على معايير مصالح الطبقات الحاكمة فيها بالتنسيق والتحالف مع الدول الخارجية التي ساعدت على إنشائها، والتي تزعم أنها تحميها.ولقد أسلست تلك الأنظمة انقيادها ورهنت أنفسها لمصالح الخارج واهمة أنها تحميها من السقوط.وتجاهلت أنه يمكن تبديل جلودها عندما تنتهي أدوارها بإسقاط السلف ليُؤتى بخلف أكثر طمعاً باستغلال أبناء جلدته من الطبقات الفقيرة والمعوزة.ويحصل ذلك عندما تجد الدول الخارجية ضرورة لتبديل تلك الجلود بأنظمة قد تختلف ظاهرياً، ولكنها تعيد إنتاج مناهجها للتوافق مع المصالح الخارجية.وهكذا تعيش تلك الأنظمة على وقع استغلال شعوبها لتوفير البيئة الآمنة لمصالح تلك الدول.

وأما بالنسبة للجماهير، فعلى الرغم من استسلامها لإرادة أنظمتها الرسمية، فإنها تشعر دائماً بالغبن والقهر ولكنها لا تعرف في معظم الأحيان طريقاً للخلاص، لأنه يتم تدجينها بثقافة تلك الأنظمة، وسجنها في مناهج ثقافية تسليمية وتقليدية خاصة إذا كانت أنظمة طائفية سياسية.

ولكن على الرغم من سجونها تلك، فإن الأكثرية الساحقة من الجماهير تختزن النقمة والغضب من جراء ما يصيبها من فقر وحرمان ومصادرة للحريات.وعندما تحين ظروف انفجار تلك الخزانات، فإنها تنتظر أول فرصة تحين لها.وليس هناك من فرص حقيقية أكثر تأثيراً من تأثير نخبة مثقَّفة تحفر في اللاوعي الشعبي إشعاعات الوعي وتحفِّزها على التغيير.وتتوسع دوائر الإشعاعات إلى أن تبلغ درجة من الغليان فتحدث انفجاراً لم تكن تلك الأنظمة تتوقعه، وتبلغ شدته درجة يصعب عليها السيطرة عليه.

ولأن الأنظمة العربية الرسمية تقود مجتمعاتها بمنهج الاستغلال ذاته، ولأهداف خدمة حلفائها من الدول الخارجية، تختزن تلك المجتمعات الغضب ذاته، وتصل إلى درجة من الغليان ذاتها، ما إن ينفجر البركان في قطر عربي حتى ينفجر في قطر عربي آخر.وإذا استعدنا مفاعيل ما حصل، في العام ٢٠١١، في أكثر من قطر عربي في توقيتات واحدة، على الرغم من مآسيه ومصادرته وتحويل وجهته في كل من تونس ومصر وليبيا وسورية، يؤكد ما توصلنا إليه من نتائج.

حينذاك انتشرت الانتفاضات الشعبية في وقت واحد، تحت شعارات واحدة، وهي الدليل الأكثر إفصاحاً عن وحدة المعاناة من الفقر والحرمان، ومن قمع الأنظمة واضطهادها.كما أنها الأكثر إفصاحاً عن حجم الغضب الشعبي الذي كان يتراكم عبر عشرات السنين التي كان يظهر الشعب فيها وكأن الصمت والاستسلام لفَّه إلى الأبد.ولكن وحدة الشعور بالاضطهاد، ووحدة الأهداف، شيء ونتائجها شيء آخر.و لما كان لما حصل سابقاً نتائج سلبية، فقد كان سببها سرقة نضالات الحراكات الشعبية من قبل اطراف خارجية عملت على ركوب الموجة لتغيير تلك الأنظمة بأسوأ منها.

ومن دون الخوض في تحليل تلك المرحلة ، سنعتني في هذا المقال بدراسة تجربة ثورة تشرين في العراق، وتجربة انتفاضة تشرين في لبنان منذ عام ٢٠١٩.ولأن المقاربة بينهما واضحة، جاء الهدف من حصر موضوع المقال بهما، لكي نرصد من خلالهما كيف يمكن أن تكون عليه وحدة صوت الشعب العربي ووحدة الآلام والمصالح الشعبية، التي عملت الأنظمة الرسمية على تمزيقه وتفتيته.كما أننا سنعمل على المقاربة بينهما من حيث المنهج السياسي والاقتصادي والثقافي.وهنا، سنطرق بوابة المقاربة من حيث إخضاع العراق إلى الارتهان للخارج، والتشكيل الطائفي السياسي :

منهج التقسيم الطائفي بعد احتلال العراق هو الأنموذج الذي يتم تقليده في تقسيم الوطن العربي :

من الثابت أن تخطيط إدارة اليمين المسيحي المتصهين، بقيادة جورج بوش الإبن لاحتلال العراق، كان مقدمة لإعادة رسم خرائط الوطن العربي على أسس طائفية، مستفيدة من الأمراض الطائفية التي نخرت عظام بعض القواعد الشعبية نتيجة الدور اللاواعي، المملوء بالتعصب الأعمى.ذلك التعصب الذي زرعته المؤسسات الدينية السياسية، ويأتي في طليعتها كل من حزب الإخوان المسلمين من جهة، والاحزاب المؤمنة بفكر نظرية ولاية الفقيه من جهة أخرى.
ولم تعد قضية التحالف بين إدارة اليمين المسيحي المتصهين وإدارة كل من حركتيْ الإخوان وولاية الفقيه، خافية على أحد.فقد برزت بشكل واضح وجلي في اللقاء الحميم المشبوه في مشاركة التيارين في تشكيل ( العملية السياسية ) في العراق منذ بداية الاحتلال والتي لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة، لذا فلن يسقط هذا التحالف سوى في اللحظة التي تسقط فيها العملية السياسية.

لبننة العراق للاستفادة من عورات نظام المحاصصة الطائفية في لبنان :

لم يكن استغلال العامل الطائفي الذي خُطِّط له في دهاليز المخابرات الأميركية – الصهيونية نظرية مجردة تحتاج للاختبار.فالتجربة اللبنانية في بناء النظام الطائفي السياسي ماثلة في مخططات التآمر على الوحدة المجتمعية العربية.خاصة أنها خضعت لاختبارات دامت أكثر من مائة عام، وأثبتت أنها المنهج التفتيتي الذي يصلح لتعميمه على أقطار الوطن العربي.ولم يكن من قبيل الصدف أن يُعلن الاحتلال الأميركي، منذ اللحظة الأولى للاحتلال، بتشكيل ( مجلس الحكم الانتقالي ) في العراق على قاعدة تمثيل كل الطوائف فيه.

بمثل تلك الخطوات أخذ منهج ( لبننة العراق ) طريقه للتطبيق.فتم تشكيل الأحزاب الطائفية لكل مكون من تلك المكونات.ولأنه تمت عملية ( اللبننة ) ، فقد استلم رجال الدين دفة إدارة العراق، حيث أسبغوا شرعية طائفية على مكونات السلطات الحاكمة من أجل حمايتها.وخطورة تلك الشرعية تكمن في أن خدع الكثيرين من رجال الدين تنطلي على العامة من الشرائح الشعبية ذات الثقافة التسليمية والتقليدية التي تنظر إلى رجل الدين بعين القداسة.وإذا بالعديد من الذين تعتبرهم العامة من المرجعيات الدينية يُتخمون بتجميع الثروات الطائلة، هذا في الوقت الذي وصلت فيه أعداد الفقراء والمسحوقين والجياع والمرضى إلى عشرات الملايين.

كان من المرسوم له أن تأتمر منظومة اللصوص والخونة المدعومين من رجال الدين، أو من رجال دين انخرطوا بشكل مباشر في المؤسسات السياسية، بأوامر الحاكم المدني الأميركي، لتتحول وظيفة تلك المنظومة إلى وسيط بين الاحتلال والشعب العراقي، يديرون عمليات النهب لمصلحته، ويقتاتون بفتات حصيلتها.

ولكن لم تنته الأمور إلى ما خطط له الاحتلال.فقد انقطع حبل ما خطط له ، بعد إلحاق الهزيمة به بواسطة المقاومة العراقية المسلحة الباسلة.الأمر الذي دفع به إلى تسليم العملية السياسية ووضعها بإمرة نظام ولاية الفقيه، فكانت الفرصة الذهبية لذلك النظام التي طالما حلم بها، وقد وصلته على طبق من ألماس.

وابتداء من تلك اللحظة حظي نظام ولاية الفقيه بكل الثروة التي كان الاحتلال الأميركي يستأثر بها، ولأن أحزاب الطوائف أسلست قيادها للاحتلال البديل، وهذا ما أثار حفيظة الإدارة الأميركية ودفع بها إلى العمل لاستعادة ما حسبت أن ثروات العراق هي حق شرعي لها تتصرف به كيفما تشاء وأنى تشاء ومتى تشاء، كما عبر عنه الرئيس دونالد ترامب بقوله : ( إن أميركا دفعت المال والأرواح ولم تحصل على شيء، وإن إيران لم تدفع شيئاً، ولكنها حصلت على كل شيء ).ولأن لهذا تفصيل آخر، تكفي الإشارة إلى أن النزاع الأميركي – الإيراني، في عهد ترامب، وكذلك في عهد بادين، سوف يستمر حتى إعادة التسوية إلى مساراتها التي سبقت هزيمة جيش الاحتلال في العام ٢٠١١.

ولن يغير شئ من قواعد لعبة النزاع سواءٌ أكانت الإدارة ديموقراطية أم كانت جمهورية، وهو استعادة حقوق النهب لمصلحة أميركا، على أن تبقى قواعد لعبة تقسيم العراق إلى إثنيات طائفية وعرقية الناظم الأساس لأي احتلال.ولهذا أصبح من الواضح أن خلاص العراق يجب أن يمر عبر تحطيم قواعد اللعبة الطائفية، فيكون تهديم ( العملية السياسية ) من أهم الوسائل التي يمكنها أن تعيد استقرار العراق إلى ما كان عليه قبل الاحتلال في العام ٢٠٠٣.

المحافظة على قواعد ( لبننة العراق ) ، و ( عرقنة لبنان ) ، من أجل حماية مؤامرة التقسيم :
ما كان لتدخل خارجي أن ينجح، لولا وجود الضعف العربي.وإذا كانت أطماع القوى الخارجية واضحة تماماً، فإن الكشف عن عوامل الضعف في الجسد العربي تبقى هي المسألة الأهم.ومن أهم عوامل الضعف، هي الفجوة السحيقة في الثقة بين الأنظمة العربية الحاكمة والجماهير الشعبية.

ويكمن الحل في انقلاب الجماهير الشعبية على قواعد ( العرقنة ) و ( اللبننة ).

ولأن منهج الأنظمة في الحكم قائم على تبادل المنافع مع تحالفاتها الخارجية، تبقى تلك المنافع حكراً على طبقة حاكمة تفكر في مصلحتها أولاً، ولا ضير من أن تدعم مواقعها مع القوى الخارجية ليتبادلا عوامل الاستمرار ثانياً، لذا تبقى إرادة تغيير تلك المعادلة موكولة على الصفوة الوطنية الصادقة بربط أهدافها بمصلحة الجماهير المسحوقة.

وكما أن واقع ( لبننة العراق ) يشكل عامل صراع دائم بين المذاهب الدينية بصورة ميليشيات مسلَّحة تهيمن على شتى مفاصل الدولة، فإن مبدأ ( عرقنة لبنان ) يحمل عوامل تشريع وجود الميليشيات المسلحة التي تحمي مصالح الأحزاب الطائفية الحاكمة، والتي تشكل بدورها خدمة للمشاريع الخارجية التي لن تستطيع أن تمر من دون وجود أحزاب تحكم باسم الطوائف.
وكما احتفل حراكيو لبنان باندلاع ثورة تشرين الأول في العراق، فقد اعتبر ثوار العراق أن اندلاع انتفاضة لبنان التشرينية أيضاً تشكل أهم داعم معنوي لهم في ثورتهم.ولهذا انطلق شعار ( ثورة العراق، وانتفاضة لبنان، وجهان لعملة ثورية عربية واحدة ).

ولذلك يجمع تشرين العراق ولبنان وحدة الهموم، ووحدة الشعور بالظلم، ووحدة الموقف بالانقلاب على الثقافة الطائفية التي تفرِّق ولا توحد؛ ونشر الثقافة الوطنية التي توحد ولا تفرق، وكلاهما يهتفان : ( نريد وطناً ) ، وبـ ( اسم الدين سرقونا الحرامية ).

وأخيراً، يبقى أن نقوم بـ ( تعريب ) الثورات في كل ساحات الوطن العربي، لأنه بها تتآزر وتتعاون في مواجهة خصم واحد، يُعرف باسم تحالف مشاريع ( الحركات الدينية السياسية ) ، أو مشاريع ( أحزاب الطائفية السياسية ) مع قوى الاستغلال الأجنبية في سائر دول العالم، وبالأخص منها الدول المجاورة للوطن العربي.






الاحد ٢٠ ربيع الثاني ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / كانون الاول / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة