شبكة ذي قار
عـاجـل










 

أي شخص متوازن، أو أي إنسان طبيعي، لا يمكن أن يغض الطرف عن الحرب في أوكرانيا، حتى وإن جاء تفسيرها على أساس أنها وقعت درءً لخطر مصيري أكبر، وخاصة إذا ما كان هذا الشخص أو الإنسان قد عاش أغلب حياته في ظل حروب كثيرة. ذكريات تلك الأيام العجاف كلها عادت في الأيام القليلة الماضية، بضمنها العيش أكثر من عقد من الزمن تحت وطأة حصار لا إنساني قاتل ولئيم حرم الناس من الغذاء والدواء، بل ومن كل مقومات الحياة البسيطة، ومعها ذكريات قضاء أيام وليالي، وليست ساعات قصيرة، في ركن من أركان المنزل وفي حالة رعب لا يدري متى ستسقط قنبلة أو صاروخ من طائرة أمريكية أو بريطانية، أو حتى عربية، على المنزل قد تودي بحياته وحياة عائلته الصغيرة، وبدون كهرباء ولا حتى ماء صالح للشرب، لأن الطائرات المعتدية قصفت محطات الكهرباء والماء وحتى محطات الصرف الصحي.

 وأقسى من ذكريات القصف والقتل والتدمير هو تذكر ما كان يصدر من أحاديث تحريضية وتصريحات من (معارضين!) للنظام متشفية بالعراق والعراقيين وهم في تلك الحالة المأساوية، فمثلاً من يدعي إنه (عراقي) يعلن جذلاً وبأعلى صوته إن أصوات القنابل والصواريخ وكل أدوات القتل التي كانت تنهال على بغداد والعراقيين هي أعذب (سمفونية موسيقية) سمعها في حياته، وآخرون من شاكلته كانوا يحثون الولايات المتحدة التي كانت تقود قوات التحالف الغاشم (التي بالمناسبة كان من بينها قوات أوكرانية)، على تكثيف القصف والتدمير، وكانوا يصرون على تبرير الجرائم ضد الإنسانية التي كانت ترتكب بحق المدنيين الأبرياء، بل ويعتبرونها السبيل الوحيد (لتحرير العراق)، وقبل ذلك كانوا يطالبون علناً وبدون خجل أو غيرة أو أي شعور إنساني بتشديد الحصار على العراقيين الصابرين المحتسبين. أو أن يكتب صحفي كويتي بعد إحدى جولات القصف الهمجي المكثف على بغداد مقالاً يعنونه (اللهم لا تبقي فيها حجراً على حجر)، بينما (نصح) مثقف مصري في حديث إذاعي أثناء الحرب القوات الأمريكية بقصف السدود العراقية لكي تغرق البلاد وتستسلم الحكومة، أما على الجانب الأمريكي فلقد كانت التصريحات أكثر استفزازاً وإيلاماً وصلافة، فمثلاً شبه رامسفيلد العراقيين بالحشرات وأن القصف هو دواؤهم الوحيد، وجاهرت مادلين أولبرايت بتصريحها الشهير عندما كانت وزيرة خارجية أمريكا والذي قالت فيه إن قتل أكثر من نصف مليون طفل عراقي أمر مقبول بل ومبرر، وأن الأمر سيستمر لأن العراق لا زال يمتلك العقول القادرة على تطويره، وهذا أمر مرفوض من وجهة نظرها ويسوغ ما ترتكبه بلادها من جرائم.

 

ومع ذلك فإن كل هذه الذكريات المأساوية التي لا تزال تدمع العين حبن تذكرها، لا يمكن بل ولا يجب أن تجرد أي إنسان عن إنسانيته ويتشفى بما يجري في أوكرانيا، حتى وإن كان رئيسها الحالي قد تشفى بمقتل الفلسطينيين، أطفالاً ونساء وشيوخاً، أثناء الاعتداءات الاسرائيلية على غزة أو اقدامه على وصف الفلسطينيين الضحايا بالإرهابيين، وسارع إلى نقل سفارة بلدة إلى القدس المحتلة، ولم يكتشف (بدهائه السياسي الكوميدي) أن الفلسطينيين يتعرضون إلى جرائم إبادة بشرية على يد قوات الاحتلال الاسرائيلي. ولم يستهجن مشاركة قوات بلاده في حملة احتلال العراق، وبدون وجود أي تفويض من الأمم المتحدة أو أي دليل على وجود أسلحة دمار شامل، كالتي اختزنتها وكدستها الولايات المتحدة وبريطانية في بلده، أو التي تعلن هذه الدول أنها سترسل كميات كبيرة أخرى منها إلى أوكرانيا كمساعدات عسكرية لكي تديم الحرب الجارية هناك. وأن التركيز يجب أن يظل على إيجاد حل سلمي يجنب المدنيين مآسي الحرب.

 

استرجاع الذكريات المؤلمة يكون أقسى وأكثر إيلاماً عندما نسمع قادة أوروبا يطالبون بمحاكمة الرئيس الروسي لأنه (يرتكب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة بشرية)، في حين لم يطالب أيٌّ منهم بمحاكمة بوش الابن وتوني بلير على جرائم الإبادة البشرية التي ارتكبوها وخاصة في العراق. أو عندما يقول رئيس وزراء بريطانيا إن الهجوم الروسي (بربري ويقتل أطفال)، متناسياً الجرائم والكوارث الإنسانية التي ارتكبتها القوات البريطانية الغازية في جنوب العراق وفي البصرة بالذات، وبعض هذه الجرائم استوجبت إجراء محاكمات في بريطانيا نفسها، أو عندما يتحدث الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته والصحافة الأمريكية عن (همجية القوات الروسية الغازية)، وتناسوا همجية قوات بلادهم في العراق التي ذهب ضحيتها أكثر من مليون ضحية، وقبلهم حوالي مليوني ضحية نتيجة حصارهم اللاإنساني الذي امتد 13 سنة، وثمانين ألف جندي عراقي فقط دفنوا أحياء في خنادقهم في عام 1991، هذا عدا من قتل من القوات المنسحبة من الكويت، وغيرها كثير.

لقد أُجبِرَ العراق على دفع 54 مليار دولار كتعويضات إلى الكويت جراء اجتياحه الخاطئ لها، والكل يعلم إن هذه التعويضات قد ضُخِمَت بشكل كبير، ولو كان هناك قضاء دولي عادل، وحكومات عراقية تضع مصلحة العراق نصب عينيها لأجبرت الولايات المتحدة وبريطانيا على دفع أضعاف هذا المبلغ كتعويضات للعراق وللعراقيين. وهذا سيحدث يوماً ما في المستقبل لا محالة.

 

واخيراً، شيء لطيف والتفاتة إنسانية جميلة أن تسبق مباريات كرة القدم الانكليزية وقفة تضامنية مع أوكرانيا وضحاياها، ولكن هل تذكر من دعا إلى هذه الفعالية وغيرها، ضحايا العراق أو سلسلة جرائم الإبادة المستمرة التي ترتكبها اسرائيل في فلسطين المحتلة؟ أو ما فعلته أميركا لوحدها أو بالتحالف مع بريطانيا، في أفغانستان وسوريا وليبيا؟ وقبل ذلك في فيتنام وكوريا والفلبين ولاوس وكمبوديا؟ وغيرها من الدول التي استهدفها القصف الأمريكي مثل السودان والصومال واليمن؟

من وجهة نظر شخصية لا أعتقد أن من ينظم ويدعوا إلى هذه الفعاليات المستنكرة لما يجري في أوكرانيا بغافل عن أوجه التشابه الكبيرة بينها وبين تلك التي ترتكب أو ارتكبت في الشرق الأوسط وآسيا وافريقيا. لكن الحقيقة المؤلمة والعارية والواضحة تبقى هي تلك التي صدرت عن مراسل قناة CBS الأمريكية، حبن قال إن هناك فرق بين قتل العربي والمسلم ومعهم الإفريقي والآسيوي، وبين قتل (الأوربي الأبيض المتحضر) أو تعجب غيره من الصحفيين من أن يطال القتل الإنسان (الأشقر صاحب العيون الزرقاء).

الجرائم الأولى تبقى مقبولة ومبررة، بل ومطلوبة حسب الفكر الاستعماري الغربي، أما أن تستهدف الإنسان الأبيض فهذا أمر (مرفوض ومستهجن) ويجب أن يهاجم بعنف من قبل الصحفيين والإعلاميين والساسة والمنظمات الدولية التي أنشأوها. وهذه الحقيقة هي ليست بالجديدة أو المستحدثة.

 

فلقد ظهرت منذ أن بدأت أوروبا وبعدها الولايات المتحدة التخطيط لاستعمار واستعباد شعوب العالم الثالث، وكان أول نماذجها تجارة الرقيق التي افتخرت (الحضارة الأوربية) بروادها وأقامت لهم نصباً تذكارية، وكانت حاضرة في أذهان من وضع مخططات احتلال الدول بعد الحرب العالمية الأولى، وأكدها تصريح رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل الشهير في برلمان بلاده رداً على لومه لأنه أمر باستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد الثوار العراقيين الذين دحروا جيشه في إحدى المعارك عام 1916، حيث عنف مستجوبيه بل وتعجب من تفكيرهم في محاسبته على استخدام ذلك السلاح ضد أشخاص لا يصلون إلى مستوى البشر من وجهة نظره الاستعمارية. والأمثلة الجديدة على هذا التفكير ظهرت في تصريحات رامسفيلد ومادلين أولبرايت.

 هذه هي حقيقة التفكير العنصري والشوفيني والديني المتطرف الذي يغلب على تفكير النخب الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة ومالكي الأجهزة الإعلامية فيها مهما بلغت تلك الأجهزة من تطور.

في أحدث لقاء لصحفية بريطانية مع وزير خارجية روسيا لافروف قالت له بحدة وانفعال شديدين أرجو أن تنظر لي مباشرة وتجيبني كيف لك أن تنام الليل وجيش بلادك يقتل الأطفال؟ وتساءلت مع نفسي يا حبذا لو ذهبت وسألت جورج بوش وبلير وأولبرايت هذا السؤال؟ هذه هي حقيقة الإعلام الغربي الذي اعتاد الكيل بمكيالين.

 

ولكن اللوم لا يقع على هؤلاء، بل اللوم كل اللوم والعتب كل العتب على أولئك الساسة والكتاب والمفكرين العرب والأسيويين والأفارقة الذين كانوا ولا يزالون يؤمنون بأن دول الاستعمار القديم والجديد هي منقذهم الوحيد.

نعم كان مارتن لوثر كينغ المناضل الأمريكي مصيباً عندما قال (لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنياً). وصدق عز من قائل:

(إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم).

 

كاتب وأكاديمي عراقي






الاربعاء ٦ شعبــان ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / أذار / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. سعد ناجي جواد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة