شبكة ذي قار
عـاجـل










في ذكرى الرَّد العراقي على العدوان الإيراني


انتَصَرَت إرَادَة الخَيرِ والحَقّ

وتَقَهْقَرَت إرَادَة الشَّرِ والبَاطِل

الجزء الثاني

 

د. محمد رحيم آل ياسين

 

العِرَاق وإيرَان واقِعَين مُتَناقِضَين

استعرضنا في الجزء الأول الاختلاف الجذري والشامل بين الواقع العربي والواقع الإيراني فنستنتج أنَّنا أمام واقعَين مُتَناقِضَين، واقعِ التَوثّب العربي المُتَقدّم، والمواكب للعصر والمتطلع نحو المستقبل، حيث النفس الإيمانية الصادقة، والشعور الوطني المُتَأجِّج فيها، وعمق الشعور بالثقة بالنفس الذي يمتلئ به وجدان الشخصية العراقية من جهة، وبين واقع الفقر والبؤس والشعور العميق بوطأة الحياة، وفساد الأحوال في الجانب الإيراني.

 

فبينما كانت الدولة الوطنية في العراق تَتحَسَّس حاجات الشعب بكل صدقٍ ونُبلٍ، بما يولِّد الشعور الانساني الراقي في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، العكس من ذلك كان الحال في إيران الخميني، من خلالِ أفكارٍ ضالَّةٍ مُشوَّهة، ومنهجٍ استِبداديٍّ لا يسمح بالتفكير والرأي، ولا يَتحَسَّس ما يعانيه الشعب الإيراني. في حين أنَّ ثورة تموز الظافرة، ارتفعت بالإنسان العراقي إلى منزلته ومكانته وقيمته التي يَستحقّها بين شعوب الأرض. وهو الذي اعتاد العمل والانتاج والجدّ والمثابرة، وتَعوَّد التضحية والعطاء، من أجل العراق وأمَّته العربية.  ويقيناً فإنَّ شخصيَّة بهذا المستوى من الوعي والتيَّقظ، لا بدّ أن ترتفع إلى مستوى يليق بإنسان واعٍ مُتحَضّر. في وقتٍ يعاني فيه الانسان في إيران من ثقل تلك الأسمَال البالية، والأفكار الخاوية التي حمَّلها له نظام الولي الفقيه.

 

إنَّ بناء الشخصيَّة العراقية بعد ثورة 17 تموز المباركة قد وصل إلى مراحلٍ متقدِّمةٍ، فقد أكسَبَت تجربة الثورة انجازاتٍ راقية بالاتجاهَين الأفقي والعمودي، من خلال تَعاظم الوعي والثقافة الوطنية بين أكبر عدد من أبناء الشعب، وعمودياً بالبناء القويّ المتين للمواطن العراقي. فقد اعتبرت ثورة البعث في العراق، الانسان العراقي هاجسها وهدفها الأول باعتباره أغلى وأعظم شيء يمتلكه العراق، ووضعت في اعتبارها أنَّ هذا الانسان هو المشروع الأول والأساس، وهو الأَوْلَى في البناء مترادفاً مع بناء المشاريع على الأرض، ولم تنسَ الثورة أن تَهتمّ ببناء الأسرة السويَّة، لدورها الفاعل في تربية الأبناء وتنشئتهم وتنمية قابلياتهم الفكرية والعلمية والأخلاقية والنفسية. اضافة إلى اطلاقات طاقات المجتمع وطموحاته في البناء والتطوير في كل المجالات العلمية والتقنية والطبية والمجتمعية والثقافية.

 

 ثُلاثيَّة الوَعِي والثَقافَة الوَطنِيَّة والضَمير الجَمعِي

 

الوَعي والثقافة الوطنية والضمير الجمعي، ثُلاثيَّة مهمَّة وخطيرة، في بناء الانسان العراقي الجديد، هذه الثلاثيَّة جعلت من الهوية الوطنية رمزاً مقدَّساً لدى العراقيين على تَعدُّد أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم. وكان من نتيجة بناء الإنسان العراقي الجديد، أن أصبح العقل الجمعي الفاعِل هو السائد في المجتمع العراقي. فالعقل الفردي لم يكن مُتفرّداً أو مُحاصَراً، بل كان يعمل ويتفاعل من خلال محيطه الاجتماعي الذي يعيش فيه، فالفاعِل الواحد يَتَعايَش مع الفاعلين الآخرين، وهذه هي طبيعة المجتمع الجديد في ظل الثورة. من هنا كانت المقاربة الوجدانية في أعمقها وأقواها بين العراقيين.

 

وفي ذات الوقت فقد كان الضمير الجَمعي للعراقيين في أحسنِ حالٍ، وهذا الضمير له دورٌ واقعيٌّ على الأرض من خلال دوام الروابط الاجتماعية والوطنية بين أبناء الرافدين. فهو عندما يكون حَيويَّاً وفاعِلاً ومُتَيَّقِظاً فإنَّه يُشكِّل القوّة الدافِعة التي توَحِّد أبناء الشعب، وتُقويّ لحمتهم الوطنية، وتَتحقَّق من خلاله الأُلفة والتَكاتف والمحبة في المجتمع، فالضمير الجمعي هو المُسَيطِر على عواطف ومشاعر بل وعقول الأفراد، ومن ثم يوَجِّه سلوكهم وأخلاقياتهم. انَّ مرادنا هنا وقصدنا هو الضمير الجمعي ولا نقصد به الضمير الخاص بكل فرد، فهذا الضمير الجمعي هو الذي يجعل الانسان على استعداد للتضحية بمصالحِه الخاصّة في سبيل المصالح الوطنية العامة، وتحقيق الأهداف الجمعية للشعب الواحد.

 

بل والأكثر من ذلك فالضمير الجمعي يرقى بعلاقات القرابة والدين والنسَب للفرد الواحد، إلى انماطٍ جديدةٍ من الانتماء للوطن، والقرابة إلى الشعب كلَّه، وليس إلى مَن هم على دينه أو مذهبه أو نسَبه، أو مَن هم مِن قرابته.

فقد تحوَّلت العلاقة بين الفرد العراقي وأبناء شعبه الآخرين إلى علاقةٍ حميميَّةٍ راسخةٍ بديلاً عن علاقته الضيِّقة بأقربائه وأبناء طائفته ودينه، وفي ضوء ذلك تَتَحدَّد الهوية الوطنية، فتُغادِر العَصَبيَّات العِرقية والمَذهبية وتَحِلّ مَحلها الهويَّة الوطنية الجمعيَّة. لقد ذاب الواحد في الكلّ، والفرد في الجمع، وذابت الذات في العموم، فلا شَهوات فردية تَحطّ من قيمة الانسان، فيكون سجينها، ولا مَلذَّات أنانيَّة تَجرّ به إلى أسفل، إلى المُنحدَر، وتهوي به إلى الحَضيض لا سمح الله. ولا أحقاد وكراهية بين أبناء الوطن الواحد، على تَعدُّد أعراقهم ومذاهبهم. فقد انصهر الجميع في بوتَقة الوطنيَّة الحَقَّة، فتعمقت الوحدة الوطنية أكثر وأكثر. فكانت القُربى الرُّوحية تجمع العراقيين في وطنٍ اسمه العراق، وكلهم ينتمون إلى أمة عربية واحدة.

 

هكذا كان جيل الثورة والبعث، والذي يليه ثم الذي يليه إلى ما شاء الله. حيثُ يعيش انسجاماً تاماً بينه وبين المجتمع والدولة الوطنية. من هنا كان يستحيل على العراقي أن يكون خانعاً مُستَسلِماً لعَدوّه حتى وإن كان ميزان القوة العسكرية يميل لصالح هذا العدوّ، كان ذلك واضحاً في الرَّدِ على العدوان الإيراني في معركة القادسية الثانية، وفي مجابهة العدوان الثلاثيني الغاشم، وفي الحملة الوطنية الكبرى في اعادة اعمار ما دمَّره أرباب الشَرّ في عدوانهم الاجراميّ هذا، فجاهَدوا يَصِلونَ الليلَ بالنهار وفق شعارهم الوطني المعروف:(يُعَمِّر الأخيَار ما دَمَّرَه الأشرَار)، ثم صبرهم واحتسابهم في سنوات الحصار الجائر، فشدُّوا على البطون وربطوا عليها.

 

وكان لمقاومتهم البطولية الأسطورية للاحتلال الأمريكي الهمجي والوحشي خير دليل على نوعية الشخصية العراقية، رغم قلَّة الامكانات المادية والعسكرية من السلاح والعتاد، حتى أجبروا القوات الأمريكية المُحتَلَّة على المغادرة بعد أن أُثخِنَت بالجِراح، فَوَّلَت هارِبةً تَئِنُّ من وقع ضربات المقاومين الأبطال. وقد استلهم شباب العراق النشامى من الجيل الصاعد كل هذه المفاخر والبطولات الوطنية لأبناء العراق الغُرّ الميامين، فخرجوا في ثورتهم التشرينية السِلميَّة المباركة، رافضينَ الوجود والوصاية الإيرانية على بلاد الرافدين، ومُتَصَّدينَ لحكومة الاحتلال الجائرة والفاسدة، فقدَّموا الآلاف من الشهداء والجرحى والمُعاقين، ولم يزلوا في ثورتهم الظافرة حتى تحقيق النصر والتحرير والخلاص النهائي من أذناب المحتل المُتَسلّطين على رقابِ العراقيين.

لقد كانت الشخصية العراقية تمتلئ بالحياة والحيوية، وهي كما تظهر بكل طاقاتها وامكاناتها في أوقات الخير والاستقرار والسلام، فإنَّها تبرز أكثر قوَّة وصلابة ومتانة في أوقات الشَّدائِد والمِحَن والتَحَدِّيات، مَشحونة بالإيمان والشَجاعة والتَّحدّي والمطاولة.

 

 إنَّ الانسان العراقي الجديد كان قد خرج من نظامٍ سياسيٍّ تقليديٍّ قديم، إلى نظامٍ ثوريّ جديد تتَوافر فيه عناصر القوة والابداع والنضوج ، خرج من مجتمع عرف سنواتً طِوالاً من الاستعمار الأجنبي والاستبداد والطغيان الذي كاد أن ينحى به مَنحىً آخر، لكنَّه في ظل ثورة 17 تموز المجيدة، أصبح يعيش في مجتمعٍ مُتَحرّرٍ ناهضٍ، وحياةٍ مستقرةٍ، مُطمئنةٍ، وينعم بالأمن والأمان، هذا المجتمع نَبذ وركَل النزعات والعصبيات العِرقية والطائفية، وانتقل عقلياً وعاطفياً ووجدانياً إلى الولاء للوطن الواحد، والأمة الواحدة، فالشعور الوطني الخالص لا ينفصل عن الشعور القومي، بل الوطنية تغذّي الانتماء القومي وتدعمه بكل قوَّة. من هنا وجدنا الانسان العراقي يغادر (فرديَّته) إلى البيئة الجمعية، دون أن يعيش بمعزلٍ عن أبناء جلدته.

 

تصادمٌ بين الخَير والشرِّ.. والمُقدَّس والمُدَنَّس

 

عندما نُقِيمُ مُقارنةً بين النهج الفارسي بزعامة خميني، والتحافه بعباءة الدين والطائفية زوراً وبهتاناً، تغلب فيه القومية العنصرية الجامحة، وبين النهج العراقي العروبي (البعثي)، في تَحَلِّيه بالقيَم العربية واستلهام روح ومبادئ الإسلام الجامِع، وفي تمثيله للفكر القومي على أساس القومية الانسانية المبنيَّة على التعايش السلمي مع القوميات الأخرى في ظل التسامح والحوار البنَّاء، نجد الفرق الشاسع بين التَّوَجِهَين، بين تَوَجُّهٍ تَحضَر فيه مبادئ الخير والحَقّ، وتَوَجُّهٍ تَحضَر فيه ارادة الشرِّ والظلام والعدوان. ففي الأول يَستقوي الدِّين ومُثُله وقيَمه وروحه، وفي الثاني يَتَوارى الدِّين، وتَختَفي القيم والمبادئ السَمحة، فالدين على أصولهِ يُقدِّم نموذجاً سلوكياً وأخلاقياً للمجتمعات البشرية. انَّ بين التَّوجِهَين فروقاً كثيرة، أولها كالفرق بين المقدَّس والمُدَنَّس، من خلال تشويه الصورة الحقيقية للدين وتزييف تعاليمه وقيمه الانسانية الراقية.

 

 ومن خلال استعراضنا لنوعية الشخصية العراقية، قبل العدوان الإيراني في الرابع من أيلول عام1980م، والرَّد الساحق من قبل الجيش العراقي الوطني الباسل في الثاني والعشرين من الشهر نفسه، حيثُ تَبيَّن لنا سمات ومُمَيِّزات هذه الشخصية الجادَّة والواعية والمُتَيَّقِظة، تلك الشخصية الفعَّالة، من هنا نكتشف ذلك السِرّ في التَصَدِّي للعدوان الفارسي الغاشم، وفي تلاحُمِها، وتوَحُّدِها في ظلّ الهوية الوطنية الجامعة، ذلك المعين الذي يُغَذِّي المواطن العراقي، ويدفعه دائماً للدفاع بآخر قطرة دم عن العراق والأمة.

 

الهويَّة الوطنيَّة والانتِماء للأمة سِلاح العِراقيِّينَ الأقوى

 

لقد كانَ العراقيّونَ يمسكون بأقوى سِلاحٍ بكلِّ ما أُوتوا من قوَّةٍ وايمانٍ راسخٍ، وهما الهوية الوطنية الخالصة، والانتماء (القومي) للأمة العربية، في ثنائية متكاملة، بعد أن تَحوَّل الفكر القومي العربي، والنظرية (البعثية) إلى واقعٍ عمليٍّ على الأرض، فاندمَجت الوطنية مع القومية العربية لتُشَكِّل مصدر قوَّة ومَنَعة للعراقيين جميعاً.

 

وفي الوقت الذي كانت فيه عملية البناء العقلي والمعنوي والحضاري للمواطن العراقي تؤتي أكُلها الطيِّب، كان العقل الفارسي يعيش أزمةً قاهرةً بين التَحوّل من نظامٍ مَلَكيٍّ شاهنشاهيٍّ علماني، إلى نظامٍ طائفي مُتخلّف، يعمل على تَسيِّس الدين ويحاول بكل خبثٍ ضبطه على مقاسه العدواني المُظلم.. وهكذا كان الرَّد العراقي الصاعق والحازم، ولم يكن هذا الرَّد اختياراً بل هو رَدٌّ اجباريٌّ يستلزمه حقّ الدفاع عن النفس، عن العراق وحماية حدوده وأرضه وشعبه، وما بناه العراقيّون لسنين من الزمن. فقد اهتَّزت عُروق العروبة في الانسان العراقي، واستَيقَظت الرُّوح الوطنية في أعماقه، وتَفَتَّح المخزون الوجداني الكامن في الشخصية العراقية، وشَدَّته الوشائج القويَّة والعميقة التي تربطه بتراب العراق والوطن العربي الغالي. فكانت قادسية العرب الثانية التي سطَّر فيها أبناء الرافدين أعظم الملاحم البطولية، وشاركهم ابناء العروبة في كل مكان، ولقَّنوا العدو الفارسي دروساً مثيرةً وعظيمةً في الشجاعة والاقدام والتضحية من أجل الدفاع عن البوَّابة الشرقية للأمة العربية المجيدة. هكذا كانت الرُّوح الوطنية كريمةً عزيزةً وثَّابةً، لدى أبناء الفراتين واخوتهم من أبناء الأمة العربية الذينَ لا يعرفون الخوفَ والاستسلام أو التراجع مهما كانت الظروف، وليس في قاموسهم شيء اسمه الخنوع والتبعية إلَّا لله سبحانه وتعالى.  






الاحد ٢٩ صفر ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / أيلول / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. محمد رحيم آل ياسين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة