شبكة ذي قار
عـاجـل










من 29 آب 1897 إلى 11 شباط 1979

2

 

نزار السامرائي

 

العلاقات بين بلاد فارس والعرب، أخذت طابع الكيد الفارسي للعرب في كل الساحات التي تتاح لفارس إلحاق الأذى بهم، ولم تسلم الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، منذ قيام الدولة الصفوية عام 1501، من تآمر فارس وبالتعاون مع أوربا المسيحية في القرون الوسطى، في بداية التوسع الغربي في ما وراء البحار البعيدة، إذ تقول إحدى الوثائق المحفوظة في المتحف البريطاني، كما يشير إلى ذلك الدكتور عبد الله النفيسي، أن إسماعيل الصفوي ومنذ وصوله إلى عرش الدولة الصفوية عام 1501م، راسل الملك مانويل الثاني ملك البرتغال حينذاك عندما كانت البرتغال تسعى بقوة للسيطرة على الممرات البحرية في الشرق الأوسط وتتحرك بتوجيه من الفاتيكان، فأراد الملك مانويل، الإجهاز على الإسلام في مركز انطلاقته أي في منطقة نزول الوحي على الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقال إسماعيل الصفوي لمانويل (لماذا لا نُجهزْ على مكة والمدينة)؟ فأجابه مانويل الثاني (إني أقدر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو أن تهاجم مكة، فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أو في البحرين أو في القطيف أو في البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل وسأنفذ له كل ما يريد).

هكذا بدأت الصفويون حكمهم المعادي للعرب والمسلمين، لا لشيء إلا لحلم قديم بالثأر من العرب الذين قوضوا الإمبراطورية الساسانية استغلالا لزعم  حب آل البيت، ونتيجة الاختلاف المذهبي، وإلا هل يتصور مسلم واحد في العالم أن حاكماً يزعم الانتماء للإسلام وله هذا القدر من الحقد على مكة المكرمة والمدينة المنورة؟

على وفق خلفيات نتائج الحروب الصليبية وتداعياتها وما أسفرت عنه، ونتيجة ما اختزنته أوربا من ضغائن متجددة، وصعود بريطانيا إلى مركز الاستقطاب الدولي الأول بعد الحرب العالمية الأولى، وانتقالها إلى مركز العقلَ السياسي الذي يفكر نيابة عن أوربا والغرب، ويرسم لهما خطط إضعاف الآخرين، وإثارة الأزمات البينية سواء بسبب الحدود، أو النزاعات الإقليمية على الثروات الطبيعية الباطنية منها والظاهرة على سطح الأرض، وعلى مجاري الأنهار وحسن استغلالها وتقاسمها، وجدت المملكة المتحدة أن مشروع زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي والذي بدا وكأنه استجابة لمقررات المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عُقد في بازل  بسويسرا في 29 آب/أغسطس 1897 بزعامة تيودور هيرتزل، لم يحقق أياً من نتائجه المُخطط لها والمرجوة منه، أي إثارة الانقسام في الصف العربي، بل على العكس من ذلك فقد جمعهم على كلمة واحدة في رفض هذا الوجود الطارئ عليهم، وحتى الدول التي كانت على استعداد للخضوع لمنطق السيطرة الاستعمارية في التعامل مع وجود إسرائيل كأمر واقع، كانت تصطدم بجدار من الرفض الشعبي الذي لا تستطيع تحديه إلى النهاية، لذلك كله فقد وجدت مراكز صنع القرار السياسي في بريطانيا والولايات المتحدة (وهي القوة الغربية التي اختزلت كل نوايا التوسع والهيمنة، التي كانت أوربا تختزنها ضد العرب باعتبارهم العصب الرئيس لأهم ثروات العصر الراهن وهو النفط، والممسكين بأهم الممرات البحرية المتحكمة بحركة الملاحة التجارية والعسكرية)، وجدت أن تعديل مسار الخيارات الغربية يجب أن ينصب على إحداث فتنة داخلية لا تجد لنفسها حلولاً وسطية، لأنها تتعلق بالمعتقدات الدينية، وهي إناطة مهمة تمزيق أوصال العرب والمسلمين إلى بلاد فارس التي صار اسمها "إيران، عام 1925، بتغيير نظام الشاه التحديثي في إيران، والإتيان بنظام ديني له من البرامج الاستراتيجية والتكتيكية، ما يؤمّن تحقيق أكبر اختراق لمنطقة تحمل موروثا من الخلافات بين المذاهب، ما هو قادر على استثمار الفتن والنزاعات التي لن تجد لها حلا، في مجتمع لا يقر بالهزيمة مهما تعرض لنكبات ومهما بلغت تضحياته، وهذا ما تحقق فعلا عندما نجحت الخطوة الغربية الكبرى في إيصال خميني إلى حكم إيران عام 1979، ليبعث في إيران تقاليد الدولة الصفوية التي حكمت بلاد فارس وباشرت من فورها حرب إبادة جماعية للمخالفين من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى وفرضت اللغة الفارسية على المكونات القومية الأخرى بحد السيف، في حين تركت أتباع الديانات الأخرى ليمارسوا شعائرهم بحرية كاملة بمن فيهم المجوس واليهود.

كما هو معروف فإن إيران الحالية وبحدودها المترامية الأطراف، دولة ملفقة بكل معنى الكلمة، لأنها حصيلة تواطؤٍ متعدد الأطراف الدولية، لا سيما ما قامت به بريطانيا من تضخيم لحدود فارس الجغرافية، بحيث أجهزت على كيانات عدة مستقلة أو شبه مستقلة، وقدمتها رشوة للحكام الذين تناوبوا على حكم بلاد فارس لتتحول إلى مخلب ميداني لصالح الغرب، وخاصة تآمر بريطانيا على الإمارة العربية في المحمرة، وتسليم الأمير خزعل الكعبي، إلى رضا خان الذي أقام الإمبراطورية القاجارية، وأطلق اسم إيران على بلاد فارس، فألحقت الأحواز كلها مع إطلالتها على الشاطئ الشرقي للخليج العربي بإيران وسط دعم بريطاني وتأييد أوربي وأمريكي، واستغلت المملكة المتحدة سيطرتها على الشاطئ الغربي للخليج العربي، فتصرفت باليابسة على جانبي الخليج العربي وكأنها ممتلكات خالصة للتاج البريطاني، إضافة إلى ضم أقاليم أخرى لم تكن جزءً من الإمبراطورية الفارسية.

فهل تكونت لدى بريطانيا ومعها الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية قناعة بأن إسرائيل لم تعد الخيار الأفضل للغرب في تحقيق أهدافه في المنطقة والوطن العربي؟ لأنها جزء من التحالف الغربي وتحمل تقاليد الغرب لأن المستوطنين جاءوا إلى فلسطين وهم يحملون تقاليدهم وقناعاتهم، وإذا وصل الغرب إلى هذه القناعة فهل وقع الاختيار على إيران لتنوب عن إسرائيل في لعب دورها، ولماذا لم يختارا تركيا على سبيل المثال للعب هذا الدور الاستراتيجي؟

فيما يتعلق بتركيا هي جزء فاعل من التحالف الغربي (حلف الناتو) وقواتها البرية هي ثاني قوة برية في هذا التحالف، ثم إن معظم الأتراك يتبعون مذهب أبي حنيفة النعمان أحد مذاهب أهل السنة والجماعة، وبالتالي لا يوجد إلا الاختلاف العرقي مع العرب، والذي لعب في مرحلة ما من أيام الدولة العثمانية دوره في سحب العرب لدعمهم لها بسبب سياسة التتريك التي اعتمدها بعض السلاطين المتأخرين، الذين ضعف وازعهم الديني، مما  إلى تململ العرب من سياسات السلطنة في أواخر أيامها، فأدى ذلك وغيره من أحداث داخلية وخارجية إلى إثارة تساؤلات جدية عن قدرة الدولة العثمانية على الاستمرار، وما والتعجيل بتفككها، ثم سقوطها وقيام دولة تركيا الأتاتوركية.

فالخيار البديل عن إسرائيل يجب أن ينتمي إلى العالم الإسلامي، ولكن بلا ارتباط مع العالم الغربي لا في الشعارات ولا في البرامج السياسية المعلنة، ولا في الخيارات الاجتماعية، بل يجب أن يرفع شعارات ثورية حتى لو زايد فيها على العرب فيما يتعلق بفلسطين بشكل خاص بسبب التعلق الروحي للعرب بهذه القضبة المحورية.

أيُ بديلٍ لإسرائيل يجب أن يكون بلدا من المنطقة، كي يكون من المستحيل رفض التعاطي معه كما هو الحال مع إسرائيل، بسب الاختلاف في القيم الدينية والتقاليد الاجتماعية، ولكن على شرط أن يحمل موروثاً معادياً للمحيط الذي يقع فيه، لا سيما في العقيدة الدينية، وهي العامل الأكثر تأثيرا في قناعات الأفراد والجماعات في مجتمعات المنطقة.

وبسبب وجود التقاء في برامج البناء والتوجيه الديني بين العقيدة اليهودية، وعقيدة الدولة الصفوية التي استندت في كثير من برامجها وممارساتها على ما جاء في كتب المؤسسين الأوائل للتشيع الصفوي فعقيدة الصفويين ترتكز على جملة من القواعد التي تعتبر الولاء لمركز التشيع "أي بلاد فارس" أهم مرتكزاتها وتحذف روح المواطنة والانتماء لوطن من قاموسها، فهي تعتبر أن الوطن هو الانتماء للمذهب ولولي الفقيه، وبالتالي فإن التبعية للمذهب تسبق الانتماء لأي وطن، وهنا تلتقي العقيدة اليهودية مع القوالب الي وضعها الكليني في كتابه الكافي، ومع ما جاء به الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" والذي وضع أساس نظرية "الولي الفقيه".

 ولكن علينا أن ننتبه إلى قضية أساسية وهي أن إيران في ظل ما يسمى بالحكم الإسلامي، تبنت برنامجا متعدد الصفحات للتغيير المذهبي، يبدأ بالترغيب بالوجاهة عبر المناصب الكبيرة، وبإنفاق الأموال والذي خصصت له ميزانيات مفتوحة، واستغلت المجتمعات التي تعاني من فقر وجوع وانعدام الخدمات التعليمية ففتحت المدارس، وأغدقت في منح الزمالات الدراسية على الطلاب الأفارقة والآسيويين، وأخضعتهم لمنهاج مكثف بهدف تغيير مذاهبهم إلى المذهب الجفري الاثني عشري، مع اليقين المطلق بولاية الفقيه، وكذلك افتتحت المراكز الصحية والمستوصفات، وجعلت منها أوكارا لخدمة المشروع الفارسي الإمبراطوري المغلف ببراقع دينية مذهبية تحت لافتة "حب أهل البيت النبوي".

وهنا تبرز نقطة الخلاف المركزي مع الحركة الصهيونية التي تطرح مفهوما دينيا، يتلخص بأنها لا تؤمن بمبدأ التبشير بالديانة اليهودية على الإطلاق، فتاريخ إسرائيل منذ قيامها وحتى الآن لم يسجل حادثة واحدة لفرض الدين اليهودي بالقوة أو بالترغيب، وهذا ليس معناه أن إسرائيل كانت تجسد مبادئ إنسانية عالية، لا على الإطلاق، بل لأن الديانة اليهودية محصورة بعرق واحد وهو نسل يعقوب "إسرائيل" عليه السلام.

فبقدر ما تنجح إيران في التوسع المذهبي، فإنها تنشر الكراهية والضغائن في المجتمع العربي والإسلامي، وبقدر ما تُخفق، فإنها على استعداد لإثارة الفتن الداخلية في المجتمع العربي، وإثارة النزاعات والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد أو بين قطر عربي وآخر ثم تقدم نفسها كوسيط لحل الأزمات البينية، كل ذلك بخطط مدروسة في طهران وتحظى بدعم الغرب، على الرغم من أنه برنامج يصب في خدمة دولة الولي الفقيه.

فطفقت إيران في تشكيل مليشيات مسلّحة لتكون خطها الدفاعي الأول في أية مواجهة ميدانية مع القوى الدولية، التي قد تتصادم معها لأي خلاف قد يقع بين الأصدقاء، ولا تكتفي بمثل هذا الواجب حيثما شعرت بأن إيران تواجه أزمات خارجية، فإنها وعلى وفق ما يصلها من أوامر من الزعامة الإيرانية تكون على أتم الاستعداد للدخول في مواجهات نيابة عن إيران، ضد أي طرف إقليمي أو دولي قد يهدد الأمن القومي الإيراني، وأحيانا فإن إيران تعزز من موقفها التفاوضي في أي ملف ملّح فتقوم بواسطة الحرس الثوري أو وكلائها الإقليميين، باختطاف رعايا غربيين بهدف الحصول على مكاسب سياسية لصالح دولة الولي الفقيه أو تعزيز موقفها التفاوضي، وأكثر من هذا كله فإنها على استعداد لتنفيذ مجازر وتصفيات في أية بيئة عربية تشكل خط صد بوجه الانتشار الإيراني، ولو أجرينا إحصاءات لعدد ضحايا الإرهاب الإيراني، سواء الذين سقطوا برصاص الحرس الثوري "فيلق القدس" أو برصاص المليشيات المرتبطة به، فإننا سنخرج بنتيجة صادمة، لأن ضحايا الإرهاب الإيراني في سنة واحدة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، يفوق بعدة أضعاف عدد الشهداء الذين سقطوا بنيران إسرائيلية من العرب والفلسطينيين، منذ قيام إسرائيل وحتى الآن، وما يفعله التشيع السياسي في تلك الدول من تفريط بمصالح شعوبها من أجل تطمين مصلحة إيران التي تأخذ مرتبة أولى على ما عداها.






الجمعة ٢٨ جمادي الثانية ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٠ / كانون الثاني / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة