شبكة ذي قار
عـاجـل










 

في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي

 

البــَعـث

مُحَرِّضَاتُ التَّأسِيس والنَشْأة وتَحَدِّيَات المَسِيرَة النِضَاليَّة

الجزء 1

بعض مُحَرِّضاتُ التَّأسِيس ومُحَفِّزاتِه

 

د. محمد رحيم آل ياسين

                                 

في ذروة تكالب الاستعمار الغربي على الأمة العربية بُعَيد مرحلة الاحتلال العثماني لبلاد العرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تبلور عن هذا الوجود الاستعماري عددٌ كبيرٌ من الأفكار والأحزاب والجمعيات القومية. وكان دُرَّة هذه الأفكار وتاجها ما جاء به المُفكِّر والفيلسوف العربي الأستاذ أحمد ميشيل عفلق من فكرٍ قوميٍّ عروبيٍّ وحدويٍّ تقدميّ، فكانت ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي في السابع من نيسان لعام1947م. ولم يكن تأسيس البعث حالة اعتيادية كما هو حال بقية الأحزاب القومية والنخب العربية المثقفة، التي لم تكن تنظر الى مفهوم الأمة وسعيها نحو الاستقلال والسيادة على نفسها وقرارها إلّا بنظرة هامشية، على العكس من ذلك كان البعث وهو الحركة القومية الأكثر ايماناً وجديَّة وتفاعلاً مع تاريخ الأمة وتراثها المجيد، من أجل تحقيق وحدة الأمة وحريَّتها واستقلالية قرارها السياسي، وفي تَبنِّيه رسالتها الانسانية الخالدة. فقد جاء التأسيس بعد معاناةٍ وآلامٍ وأوجاعٍ أحاطت بالقادة المؤسسين وخاصة القائد المؤسِّس وملَكَت عليه نفسه، وبعد كمٍّ هائلٍ من المُحرِّضات والمُحفِّزات التي كانت الشعلة والنور الذي أرسى لأفكار البعث ونظريته القومية في فكر وذهن الرفيق عفلق رحمه الله، ولم تكن الولادة حدَثاً عابراً بل هي خلاصة دراسة تحليلية وتفكيكية لتاريخ الأمة، وحضارتها وقيَمها، وقراءة معمَّقة لسيرةِ رجالها من طراز القادة العِظام، وايجاد العلاقة الجذرية بين العروبة والإسلام، وكلّ ذلك كان يجري في حوارٍ ذاتي عقلي معمَّق بين المؤسِّس ونفسه، في محاكاةٍ واقعيةٍ لما وصلت اليه الأمة من تدهور وانحطاط وتَخلّف.

 وفي ذكرى ميلاد البعث العظيم، وجدنا أن نسلِّط ضوءً كاشفاً على العوامل والأسباب التي كانت هي المُحَرِّض والمُحَفِّز والتي بدورها كانت تتلاقح وتتمازج فيما بينها ثمَّ تنضج في فكر المؤسِّس رحمه الله ليظهر على العَلَن هذا الفكر القومي الخالد.

 

البعث والأمة ومعاناتهما اليوم

واليوم ونحن نستذكر ميلاد البعث الميمون، فإنَّنا نستشعر بألمٍ عميقٍ ومعنا كلّ مناضلي الحزب وجماهيره الواسعة، أنَّ بعثنا الخالد وأمتنا العربية يعيشان في مرحلةٍ هي من أصعَب وأثقل المراحل في تاريخهما، وأكثرها تَحدياً وقسوةً وايلاماً. فالأمةُ تَتعرَّض الى أزَماتٍ ومِحنٍ عَصيَّةٍ ثقيلةٍ ما بين العدوان الأمريكي الصهيوني الأطلسي والإيراني الفارسي على العراق واحتلاله، وتَفرّد الصهاينة بشعبنا الفلسطيني بعد أن طَبَّعت بعض الأنظمة العربية علاقاتها مع الكيان الصهيوني المغتصب، والتَغوّل الإيراني الفارسي في الأرض العربية، والاستهداف المتعدد الجوانب للسودان العزيز ارضا وشعبا وموارد، وما تعانيه الأمة اليوم من فرقةٍ وتَشتّتٍ بما يَتعارَض ويتقاطع مع الروابط التاريخية والمصيرية بين أبناء الأمة الواحدة، التي كانت خيرُ أمةٍّ أُخرِجَت للناس.

فلم تعد قضايا الأمة المصيرية الكبرى هي ذات القضايا التي عاشت عليها جيلاً بعد جيل، فأينَ النظام العربي اليوم من قضية الشعب الفلسطيني؟! وأينَ تقع الآن قضية فلسطين في سجلَّات المسؤوليات العربية، التي تَحوَّلت الى آخر قائمة في هذه المسؤوليات، ولم تَعُد من الأولويَّات. وبسبب تخاذل الأنظمة العربية وتهميشها لمأساة شعبنا الفلسطيني، واتِّباع سياسة قطرية منزوية على حساب الأمة وفلسطين، فقد وصل الصهاينة الى أعلى درجة من القوة والغرور والبطش بشعبنا الفلسطيني، أمام حالة من التراجع العربي، فقد تَغيَّرت الارادات وضعُفَت العزائم لصالح الكيان الصهيوني المغتصب.

وأصبح كلّ قطر عربي ينوء بحمل قضاياه لوحده، فأُضيفَت وفُرِضَت على كلّ قطر عربي معاناة وهموم خاصة به، وهذا هو هدف أعداء الأمة، مما أفضَى الى تَسرّب الرُّوح الانهزامية الى نفوس البعض من أبناء الأمة بما فيهم بعض المفكرين والمثقفين، مما يحتم علينا دراسة وتحليل الظروف الموضوعية التي نشأ فيها البعث، ومقارنتها بواقع الامة اليوم وكيف حفزت تلك التحديات الى انطلاق البعث كمشروع حضاري للثورة على كل التحديات والصعوبات بدلاً من الانكسار والاستسلام لما يريده اعداء الامة العربية.

 

نفحاتٌ من فكر القائد المؤسِّس

وقبل أن نواصل وقفتنا فيما كان من مُحرِّضات، نقدِّم خُلاصة سريعة لما قاله المؤسِّس فيما تميَّز به البعث عن الأحزاب الأخرى، فاصلاً بين الكلام دونما فعلٍ، والكلام المؤسَّس على الأفعال، في حالة استشراف لما سيجري على البعث والأمة، بقوله: (لم نعرف في تاريخنا زمناً كثُرَ فيه الكلام وطغى على كلِّ شيء مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومع ذلك فهو أقلّ العهود حيويَّةً وانتاجاً)، في سبيل البعث، ص122-134. ويتساءل القائد المؤسِّس: هل يكون الكلام مساعداً على الشَلل والعقم بدلاً من أن يكون دافعاً الى العمل؟). كانَ العربُ شديدي التأثُّر باللفظ، كما يذكر المؤسِّس، لأنَّ الألفاظ كانت عندهم حقائق نابضة مُترعة بالحياة، لذلك كان للفظةِ قُدسيَّة وكانت بمثابةِ تعهّد يتحتم ان يتبعه الفعل المعبر عنه.

 سنستعرض اهم المحفزات التي ساهمت في انطلاق البعث وستكون البداية من المُحَفِّز والمُحرِّض الإيماني وما يتعلَّق بتاريخ الأمة وتراثها المجيد.

 

المُحَفِّز والمُحرِّض الأول: ما بينَ العُروبة والإسلام

بعد أن تجزَّأت الأمة واضمَحلَّت حضارتها، وصارت تزاحم لغتها وثقافتها اللغات الأوروبية والثقافات الغربية، من خلال النهضة الكبرى في أوربا بعد الثورة الفرنسية، التي أصبحت فيما بعد عاملاً تَحريضياً لقيام البعث، فقد كانت البذور الفكرية القومية قد تبلورت في بداية القرن العشرين، وكان في مقدمتها وطليعتها فكر البعث العظيم. بعد أن خشيَ مفكرو الأمة من ضياع الهُوية القومية للأمة بفعل الغزو الحضاري والثقافي للاستعمار الغربي. وكان من مُحرِّضات التأسيس أيضاً هو انقطاع الأمة عن ماضيها التليد الزاخر بالإنجازات والبطولات والمفاخر، والتناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب. فقد بقينا زمناً طويلاً نعيشُ في جوٍّ ثقيلٍ خانق، لأنَّه زمن كاذب، والقول للمؤسِّس، طلاقٌ بين الفكر والعمل، بين اللسان والقلب، فالإسلام كما يراه البعث من خلال القائد المؤسِّس، هو تجربة واستعداد دائم، وهو بالتالي المُحرِّض الأساسي لنشأة البعث. وأنَّ حركة الإسلام المتمثِّلة في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليست بالنسبة الى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، بل أنَّها لعمقها وعنفها واتِّساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب. فالإسلام كما يراه المؤسِّس هو الهزَّة الحيوية التي تُحَرِّك كامِن القوى في الأمة العربية، فتَجيش بالحياة الحارَّة، جارفة سدود التقليد وقيود الاصطلاح. ويربط القائد المؤسِّس بين تراث العرب والإسلام وبين ضرورة البدء في التَغيِّير بالنسبة لمناضلي البعث وجماهير الأمة، فيذكر أنَّ كلّ ما أثمرَ الإسلام فيما بعد من فتوح وحضارة انَّما كان في حالة البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة، فقبل أن يفتح العربُ الأرضَ، فتحوا أنفسهم وسَبِروا أغوارها وخَبِروا دواخلها، وقبل أن يحكموا الأمم حكموا ذواتهم وسيطروا على شَهواتهم وملَكوا ارادتهم. وهذه التجربة ليست حادثاً تاريخياً يُذكر للعِبرة والفَخر، بل هي استعدادٌ دائمٌ في الأمة، إذا فُهِمَ الإسلامُ على حقيقته، لكي تَهبّ الأمة في كلِّ وقتٍ تسيطر فيه المادة على الرُّوح، والمظهر على الجوهر.

وفي تبيانه للعلاقة بين العروبة والإسلام، يقول المؤسِّس رحمه الله: رَجلٌ من العرب بَلَّغ رِسالةً سماويةً فراحَ يدعو اليها البشر، ولم يكن البشر حوله إلَّا عرباً، فمَلحَمة الإسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو أرض العرب، وعن أبطالها والعاملين فيها وهُم كلّ العرب.

ومقارنة بين ما جابه العرب المسلمون من تحديات آنذاك وما يواجهه البعث ومناضلوه اليوم من تحدياتٍ جسامٍ يقول القائد المؤسِّس: مشركو قريش كانوا ضروريّون ليحقِّق الإسلام ضرورة المؤمنين له، والذين حاربوا الرسول الأكرم ساهموا في ظفَر الإسلام كالذين أيَّدوه ونصروه. وأنَّ الله قادرٌ أن ينصر دينه ويهدي اليه كلّ الناس في يومٍ واحدٍ، ولكن اقتضى أكثر من عشرين عاماً، فأظهرَه في وقتٍ معيَّنٍ، واختار الأمة العربية وبطلها الرسول العربي، وفي كلّ ذلك حكمة، فالأمة العربية خير أمة أُخرجت للناس. انَّ اختيار العرب لحمل الأمانة الإلهية والتكليف بالتبليغ والدعوة للناس أجمعين، كان بسبب مزايا وفضائل أساسية فيهم كما يقول المفكِّر المؤسِّس. وتالياً فالتحديات التي تواجه البعث والأمة، أرادها الله تعالى أن تكون باعثاً ومُحفِّزاً لهما على النهوض بكلّ قوة من جديد، أمة الحضارة والعلوم والمعارف والانجازات التاريخية الكبرى، وأنَّ ما يواجهه مناضلو الحزب اليوم من معاناة وآلام، تساهم في تقوية

إرادتهم وتَمتَحِن صبرهم وثباتهم على المبادئ، وتدفعهم بكلّ قوة الى أمام دون تهاون أو تراجع.

إنَّ علاقة الإسلام بالعروبة هي ليست كعلاقة أيّ دين بأيِّ قومية، ويضرب المؤسِّس مثالاً على ذلك فيقول: انَّ الفكرة القومية المُجَرَّدة في الغرب منطقية عندما تُقَرِّر انفصال القومية عن الدين، لأنَّ الدين دخل على أوربا من الخارج، فهو أجنبي عن طبيعتها وتاريخها. ولم ينزل بلغاتهم القومية، كما هو القرآن، ولم يُفصح عن حاجات بيئتهم ولم يمتزج بتاريخهم، في حين أنَّ الإسلام بالنسبة للعرب، ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجرَّدة، بل هو أفصح عن شعورهم الكوني ونظرتهم الى الحياة، وأقوى تعبير عن وحدة شخصيَّتهم، وهو فوق ذلك كلّه أروع صورة للغتهم وثقافتهم وآدابهم. كان

الإسلام وليد الآلام، آلام العروبة، وقد عادت هذه الآلام الى أرض العرب بدرجة من القسوة والعمق لم يعرفها عرب الجاهلية. فما أحراها بأن تبعث فينا اليوم ثورة مُطَهِّرة مُقَوِّمة، وليس غير الجيل الجديد يستطيع أن يضطلع بها، لأنَّ آلام الحاضر قد هيِّأت لحمل لواء الثورة. وما الحراك الشعبي العربي وثورات الشباب في عدد من أقطار الأمة ألَّا تأكيداً للحقيقة التي لا غبار عليها، وهي أنَّ الجيل العربي الجديد، قادمٌ لا محالة، ذلك الجيل الصاعد الذي هيَّأته آلام الحاضر وتحدياته في حمل لواء التَغيِّير والخلاص، كما يجري في العراق حيث الثورة الشبابية التشرينية، وانتفاضة أهلنا في السودان. 

 

المُحَفِّز والمُحَرِّض الثاني: التُراث العربي والحداثة

يرى كثيرون أنَّ التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة هُما نقيضَين، غير أنَّ البعث وهو الأكثر التصاقاً بالتراث العربي والإسلامي، ينظر الى التراث والحداثة بأنَّهما يكملان بعضهما الآخر، وأنَّهما لم يكونا في تَناقضٍ أو تَضاد. فالبعث هو الذي فسَّر العلاقة بين هذين المفهومَين ومدى ترابطهما، حيث أنَّه لا ينظر الى التراث بمعنى الأفكار والقيَم والتقاليد الموروثة، وما سجَّله التاريخ من ألقٍ عربيٍّ في فترات تاريخية مهمَّة فحسب، بل هو وَعيٌّ من نوعٍ جديدٍ تبنَّاه الحزبُ فيما يعنيه الماضي من قدرات وانجازات حضارية هي مبعث ثقة ضروري لانطلاقة اليوم، فالربط بين الماضي والحاضر على الصعيد القيَمي والثقافي هو ما أصَّلَ له البعث. فالحداثة التي يراها الحزب بكل ما تتطلبه من الانفتاح على العصر وتبني المفيد منه ومواكبة تطوراته والقضاء على جوانب التخلف والعزلة العربية، هي في احدى اوجهها تُجسِّد ذلك التراث الحضاري المجيد من التقدم والانجازات الباهرة ولكن بصيغ وروع العصر الحالي والنظرة المستقبلية المتطورة دائماً. لذا فان ذلك التراث الحضاري للامة لا يعني فقط الثقة بالنفس التي تتطلبها عملية النهضة المعاصرة فقط وانما استنباط روحه الوثّابة والحالات المشرقة منه.  فالحداثة دون التراث تعني قطع الجذور التي يتغدى من خلالها جسد الأمة، فما هو مشرقٌ ومضيءٌ من التراث يتزاوج مع ما هو مفيدٌ ونافعٌ من الحداثة أو المعاصرة.

وبعد ذلك ينظر البعث الى الوعي بالتاريخ (التراث) هو حالة مفروضة لفهم الحاضر والتغلب على صعوباته، فالبلدان تحيا بوعي شعوبها، وتقوى من خلال قدرتها على التماسك كالبنيان المرصوص يَشدُّ بعضه بعضا، وأنَّ أي شعب أو أمة يغيب عنها الوعي، ستبقى تُبحِرُ بين أمواجِ بحرٍ هائجةٍ، تُحرّكها الرياح العاتية كيفما تريد. فالوعي هو ايمانٌ ينير العقول عندما يشتدّ الظلام، من هنا فالعربي الذي ينتمي الى الأمة ويَلتحف بسمائها تقع على عاتقه مسؤولية الوعي بما عليه من واجبٍ تجاه أمته. وبالتأكيد فهذا الوعيُ يتطلّب تعليماً وثقافةً ومواكبة مستمرة كيما يدرك الفرد مناضلاً كان في الحزب أم من جماهيره حجم التحديات التي تواجه البعث والعرب عموماً، وتالياً يدرك حجم وأهميَّة الواجب المناط به ويتزود من الوعي بالوقود اللازم للنهوض بذلك الواجب. فالحزبُ ليس جمعيةً أو كياناً سياسياً، بل هو حزبٌ جماهيريٌّ شعبيّ يعتمد في عمله ونضاله الثوري على تنظيماته الحزبية كافّة وبكلّ المستويات ليس بأعدادها المجردة وانما بقدراتها الواعية. من هنا تَكمُن أهميَّة الوعي باعتباره الجسر الرابط بين البعث فكراً ونظريةً ونهجاً، وعمله وممارسته على أرض الواقع.

وبناءً على ما تقدَّم فقد صاغ البعث نظريته القومية النابعة من جذور الأمة وقيمها وحضارتها ومن روح الدين (الإسلام)، ولم ينكر البعث الانفتاح على الثقافات والانجازات والتجارب للشعوب والأمم الحيَّة والفاعلة. لكنَّه في الوقت نفسه أبدى رفضاً كليَّاً للعقل والفكر المُقَلِّد، بل اعتمد العقل المُبدِع والمُبادِر، كما هو عقل وفكر المؤسِّس رحمه الله، الذي صاغ فكر البعث القومي الفلسفي الاجتماعي الحضاري والانساني النبيل.

 

المُحرِّض الثالث: مزاعم وادِّعاءات أعداء الأمة

بهدف التهيئة لتقسيم الامة من خلال الوجود الاستعماري الغربي الذي تقاسم أقطارها العربية، وخاصة البريطاني والفرنسي، فقد كثُرَت المزاعم الغربية والصهيونية التي تم نشرها عمدا، بأنَّ العرب في تاريخهم الطويل كانوا في شِقاقٍ وانشقاق، في فُرَقٍ وأحزابٍ مُتَناحرةٍ ومُتَباينة، بعد أن ضَعُفَت الأمة واستُبيحَت أرضاً وثقافةً ولغةً وديناً. من هنا فقد كانت خشية القائد المؤسِّس من أنَّ ضعف الأمة هذا وهوانها وتَردِّي أحوالها، سيؤدي يوماً الى أن يَتمُّ قضمها وهضمها من قبَل الأمم الأخرى، إن لم تَتَمكَّن من مغالبة سواها من خلال نهضة بشرية تنموية وحدوية شاملة، وأنَّ حظّها من الوجود بقدر حظّها من الوحدة وبذا يرتبط وجودها ونهضتها بوحدتها ارتباطا عضوياً محكماً. من هنا كان هدف البعث أن تتحد الأمة وتعلو هِمَمها، وتَسمو شِيَمها، وأن يَتواصل عزمها، فتتَّجِه نحو الاستقلال والسيادة والغلَبَة في أمورها دون تدخّل الأمم الأخرى.

 

المُحَفِّز والمُحرِّض الرابع: اتفاقية سايكس بيكو

كانت توصيات مؤتمر كامبل بنرمان، الذي انعقد في لندن عام 1905 -1907، لغرض إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية الغربية، قد خرج بتوصيات تهدف الى تدمير الأمة العربية وإسقاط النهضة فيها وضمان عدم استقرار المنطقة. مؤشرا الى ان " مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المناطق العربية، لا سيما بعد ان أظهرت شعوبها يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية. كما ان خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها هي: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد عدد السكان اضافة الى وجود عوامل التقدم العلمي والفني والثقافي". واوصى المؤتمر "بضرورة العمل على استمرار وضع المنطقة العربية متأخرا، وعلى ايجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. ولذا أكدوا فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة (الدولة العازلة)، عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية".

 وهكذا قامت دولة الكيان الصهيوني.

 

لذا وتنفيذاً لمقررات هذا المؤتمر أعلن عن اتفاقية سايكس بيكو. فكانت هذه الاتفاقية في العام 1916م، التي بدورها قسَّمت أقطار المشرق العربي الى مناطق نفوذ لدَولَتَيّ الاستعمار الغربي بريطانيا وفرنسا، ومن هنا استشعر القوميون العرب حجم التآمر على الأمة وبالذات على قضية بقائها موحَّدة مما اكَّد اهمية هذه الوحدة وحتمية الدعوة اليها والتمسك بها واعطائها الارجحية على بقية الاهداف الاستراتيجية.  كما أدركوا حجم العدوان على الامة والاستهانة بها من خلال تقاسم أوطانها كغنائم، وكأنَّها ضياعٌ مُباحةٌ لا وجود لأهلها، فهم لا حول ولا قوة لهم ليدافعوا عن أرضهم العربية.

 

المُحَرِّض الخامس: وعد بلفور المشؤوم

كانَ هذا الوعد المشؤوم من بريطانيا على لسان بلفور وبوثيقة مكتوبة منه، في الاعلان عن تأسيس وطن قومي لليهود الشُتات في العالم، والذين أصبحوا فائضاً غير مرغوب فيهم في مجتمعات ودول العالم، وتالياً تشجيع هجرتهم الى فلسطين العربية. قد مثَّل ضربةً موجعةً في خاصرة العرب، بعد أن بدأت مشاريع الاستيطان الصهيونية تبتلع أراضي ومساكن شعبنا الفلسطيني المغلوب على أمره، وكان هذا الحدث الجَلَل دافعاً ومُحَرِّضاً لكلّ القوى الوطنية والقومية والمفكِّرين القوميِّين في تأسيسِ أحزابٍ وجمعياتٍ قومية، كان البعث في مقدمة هذه الأفكار والأحزاب القومية.

 

المُحرِّض السادس: الحركات والاحزاب التي وقفت بالضد من وحدة العرب

وهذه الحركات قد تَعدَّدت وتباينت أفكارها واهدافها الهدَّامة التي لم تكُن معنيَّةً بوحدة الأمة واستقلالية قرارها، منها الأحزاب اليسارية(الشيوعية) المستوردة، التي لا تؤمن بوحد العرب. وكذلك الحركات السلفية، وحركات الإسلام السياسي (الإسلاموية)، والتي كانت تقف بالضدّ من التوجهات القومية وأفكارها، إما لأنها تجد في البعث منافساً معاصراً لها، او لأن بعضها الآخر مرتبط اصلاً بالقوى الاستعمارية ذاتها.

هذه بعض العوامل التي كانت بمثابة المُحَرِّك لانطلاق الحركات القومية العربية، وفي مقدمتها حزبنا المناضل، حزب البعث العربي الاشتراكي والتي اتَّخذت صفة المُحَفِّزات في نفس الوقت. وفي الجزء الثاني سنتناول ما واجهته الأمة والبعث من تحديات وتداعيات كثيرة منذ تأسيس الحزب وحتى اليوم.






الخميس ١٥ رمضــان ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / نيســان / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. محمد رحيم آل ياسين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة