شبكة ذي قار
عـاجـل










عندما فاجأنا السيد الرئيس!

 

موفق الخطاب

 

تعالوا معي سادتي الأفاضل لأطوف بكم في جنبات بغداد الجميلة ولنحط بكم في أحد مدنها الساحرة الغافية على نهر دجلة (الأعظمية) حيث تدور أحداث ما سأقصه عليكم من واقعة ذات دالة ودلالة عظيمة حدثت في سبعينيات القرن الماضي.فكما هو معلوم لأهالي بغداد فإن مدينة الأعظمية سميت بهذا الاسم تيمناً بالإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه والذي عاش وأثرى الحياة بعلومه الدينية وفقهه الحنفي ودفن هنالك وما زال ضريحه ومنبره وجامعه الذي يحمل اسمه شاخصا وشاهقا ويمثل رمزا كبيرا لأهالي بغداد الأصلاء، وقد شُيدت أغلب بيوتاتها وأزقتها القديمة بجواره وحوله. وهي تحمل طابع وعبق الماضي. وكنت أحد ساكنيها وأنا طالب جامعي ضمتني والعائلة أحد بيوتاتها البسيطة الواقعة في محلة (رأس الحواش)، حيث البساطة في البناء والقناعة في العيش، وتزامن أن قامت أمانة العاصمة في حينها بتطوير ساحل نهر دجلة الذي يمر بها ليكون متنزها متاحا لأهالي الأعظمية وليطلق عليه (كورنيش الأعظمية)، وهو من أجمل المنتزهات في حينها بعد أبي نواس والزوراء. وكان متنفساً لعموم أهالي بغداد ولساكني الأعظمية على وجه الخصوص، وجدت حالي وحال اغلب الطلاب مشدودين اليه وأنه أفضل مكان لنقصده أيام الامتحانات النهائية والتي تصادف مع بداية الصيف اللاهب.وكنا مجموعة طلاب ومن كليات وتخصصات مختلفة تجمعنا الصداقة الحميمية و الجيرة لنتوجه عصر كل يوم ومع انكسار أشعة الشمس وقيض الحر الى ذلك الكورنيش نحمل معنا كتبنا ومصادرنا وحاجاتنا الضرورية لنجلس تحت ضلال أشجاره لنغوص في كتبنا وتداعب وجوهنا نسمات دجلة الخير رغم بعض المنغصات التي تعترض جلوسنا كون أن الكورنيش متاح للجميع ولا يخلو من صخب الأطفال والتجمعات الشبابية ،إلى أن أبلغنا أحد الزملاء أنه قد اكتشف لنا مكانا في نهاية الكورنيش من جهة جسر الصرافية معزول ومعد بطريقة تجلب الانتباه ومحاط بالأشجار وسيباط الأعناب يعزله عن الممشى سياج خشبي بسيط ولا يوجد ما يشير الى أنه مكان خاص، و من السهل الدخول اليه ثم الجلوس فيه و مساحته بحدود ٥٠ مترا مربعا على حد وصف زميلنا. وفعلا توجهنا وبناءً على وصفه في اليوم التالي الى ذلك المكان وعبرنا السياج بسهولة وجلسنا كالعادة وفرشنا كتبنا على الأرض بهدوء غير معهود ونسمات رقراقة وزقزقة العصافير التي تخترق الصمت. وبقينا أياما ونحن في غاية السعادة نتوجه الى ذلك المكان الهادئ الذي يوفر لنا أجواء الدراسة المثالية، الى ان عكر صفونا صوت غليظ فيه زجر متسلل من بين الأشجار وباللهجة البغدادية (إشجابكم هنا؟ لملموا چوالاتكم (حاجاتكم) عالسريع لا اذبكم بالسجن) فتلفتنا فإذا به رجل بزي الشرطة يحمل عصى فارتبكنا أيما ارتباك ولملمنا كتبنا وحاجياتنا معتذرين منه دون اعتراض منا حيث أدركنا أن هذا المكان خاص وربما يعود لمسؤول أو رجل ثري، فإذا من خلفه رجل وقور يمشي الهوينا. اقترب منا شيئا فشيئا مع امرأة تصاحبه وهي في قمة الحشمة والسكينة تبين لنا لاحقا انها حرمه المصون وأن المكان هو محط استراحة بسيط لسيادته!ولم يفصلنا عنه سوى عدة أمتار فألقى على الجميع السلام بوجه بشوش. فتسمر الجميع وقوفا ورهبة ودققنا النظر فيه ونحن في حال ارتباك لا يعلم حالنا الا الله بعد أن أدرك الجميع أن المتكلم هو السيد رئيس الجمهورية الراحل احمد حسن البكر! فهدأ من روعنا وطمئننا مبادرا بالسؤال عن احوالنا ودراستنا واستفسر من كل واحد عن تخصصه ومرحلته الدراسية، وفينا من يدرس الطب والآخر الهندسة وثالث العلوم وهكذا حتى انتهى من الجميع. ثم طرح علينا سؤالا بريئا: متى ستنتهي السنة الدراسية لكم جميعا؟فقلنا: سيدي بحدود اسبوعين. فالتفت الى ذلك الشرطي الذي تبين انه سائقه وأمره بأن يقوم على خدمتنا بتقديم ما نحتاجه وجلب المأكولات الخفيفة والعصائر عصر كل يوم ومن حساب سيادته الخاص الى ان نكمل الامتحانات. ثم أردف قائلا وبصوت أبوي حنون.:أريد منكم أولادي أن تحققوا لي طلبا عندما تتخرجون وتتدرجون في الحياة الوظيفية فمنكم من سيصبح ضابطا والاخر قاضيا أو طبيبا أو مهندسا أو مدرسا. فقلنا له بصوت واحد: أنت تأمرنا أمر سيدي الرئيس. فقال:أريد منكم أن تضعوا العراق في حدقات عيونكم وتخدموا الشعب العراقي، فالعراق عزيز وغال وشعبه كريم، ويستاهلون منكم التضحية.  فساد الصمت ونزلت كلماته كالسكينة في قلوبنا، ثم غادرنا بهدوء. رحمه الله. وكان هذا هو اول واخر لقاء جمعنا به، لله درهم من رجال عظماء.






الاثنين ٢ ذو القعــدة ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٢ / أيــار / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب موفق الخطاب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة