شبكة ذي قار
عـاجـل










من ذكريات حرب القادسية الخالدة.

مآثر رفاق السلاح التي لا تنسى...

 

 

أثناء خدمتي كجندي احتياط في معركة القادسية الخالدة، لم أتعرض إلى الإصابة الا مرة واحدة فقط وبنيران صديقة، نيران باردة ولكنها مؤلمة مؤذية وما زلت أعاني منها..

 كما قلت لكم سابقاً إن وحدتي في الجبهة كانت من وحدات التموين والنقل والمختصة بتوفير كافة مستلزمات المعركة من عتاد وأرزاق ووقود وكل ما يخص وحدات الجيش من مواد ضرورية يستخدمونها في وحداتهم.

 في الشهر الثالث من الحرب التي اندلعت في أيلول 1980، كنت أقف قرب شاحنة محملة ب 200 صندوق عتاد للمدفعية عيار 130 ملم، كانت تنتظر تفريغها في إحدى أكداس العتاد البالغ عددها 70 كدساً وتمتد على أرض واسعة غرب مدينة بدرة الحدودية.

 جاءت مجموعة من الجنود فتسلقوا الشاحنة وقامت مجموعة أخرى بفتح إحدى البوابات الجانبية لها، كي يبدؤوا تفريغها من الوسط..

 وقفت مع جندي آخر نتجاذب أطراف الحديث تحت صناديق العتاد وبمحاذاة الباب الجانبية المفتوحة بانتظار حضور فاحص العتاد.

 كان مع الجنود اعلى الشاحنة جندي يعاني من خفة في عقله، وكان الجميع يستهزؤون به (ينصبون عليه) وهو مستأنس بهم بل ويضحك معهم ولا يهمه شيء أبداً.

 قام هذا الجندي بسحب أحد صناديق العتاد وبقوة من أجل احداث فجوة يستطيعون بعدها تفريغ الصناديق تباعاً، غير أن سحبه للصندوق كان قوياً جداً فحدث ما لم يكن في الحسبان!!

 أفلت الصندوق من بين يديه وسقط شاقولياً وفوق رأسي مباشرة، وبسرعة بديهية دفعني رفيقي الذي كان معي بيده فانحنى جسمي إلى الخلف ومر الصندوق بسرعة البرق أمام وجهي فتوجه إلى الأرض لكنه أصاب أصابع قدمي اليسرى مباشرة..

 صندوق وزنه 88 كغم سقط على أصابع صغيرة فتصوروا مدى الألم الذي شعرت به، ولولا صديقي لسقط الصندوق على رأسي ولقتلني في الحال، ولكنه لطف الله الذي سبق قدره وسبب الأسباب..

 هل تذكرون أفلام الكارتون الأمريكية وكيف إذا ضرب أحدهم ضربة قوية تظهر أمام عينيه نجوم وعصافير تزقزق.

 هذا والله ما حصل معي، لقد كان الألم لا يطاق وفقدت البصر لثواني معدودة وأحسست أن جسدي مشلول ولا أستطيع الحراك..

 تجمع رفاقي حولي وأخذ أحدهم يغسل وجهي بماء بارد والآخر قام بفتح حبل البسطال مكرم القارئ ثم قام بسحبه وبسرعة بطيئة جداً ثم قام بسحب جوربي الأسود (الصوف) وأنا أصرخ من شدة الألم، عندها رأيت اظفري الكبير قد اقتلع من مكانه وأصابعي الأربعة الأخرى محمرة، حيث تحمل إصبعي الكبير قوة الضربة فخفف شدتها على أشقائه الأربع..

 لم تكن معنا سيارة ولا دراجة، حيث تأخر ضابط العتاد والفاحص بالحضور، فحملني جنديان، وأرجوكم هنا أن تركزوا على ما أقوله....

 الأول كردي اسمه سالار والآخر عربي يسكن الأهوار اسمه عمران، ومعهما جنديان آخران أحدهما من الأعظمية واسمه نوري والآخر كردي أيضاً ومن أربيل لا يحضرني اسمه.

 وقبل وصولنا الشارع العام مرت سيارة واز وبسرعة عالية وما أن شاهدنا توقف بسرعة واستدار وجاء إلينا، فقال هيا اصعد أبو خليل ولا يهمك سهلة إن شاء الله وكانت نبرة صوته جنوبية واضحة.

 ما أن وصلنا وحدة الميدان الطبية الثانية حتى أدخلوني غرفة العمليات، جاء طبيب من أهل الحلة اسمه نقيب شمران (علمت أنه من الحلة من أحد الجنود) فقال لي سلامتك أبو خليل، دقائق وسترتاح بإذن الله. وبعد تخديري قام هذا الطبيب بإجراء اللازم، ولم استيقظ إلا في الساعة العاشرة ليلاً على ألم بسيط في أصبعي، فكانت مفاجأة كبيرة في انتظاري، كان هنالك صندوق كارتوني كبير قرب سريري مملوء بالفاكهة والبسكويت والعصائر وغيرها، ناديت العريف الممرض (من بغداد الجديدة) فقال لي الحمد لله على السلامة، قلت له ما هذه؟؟

 قال هذه هدايا من جنود وحدتك جاؤوا تباعا ليطمئنوا عليك، عندها اغرورقت عيناي بالدموع وحمدت الله على موقفهم النبيل معي ودعوت لهم بما أستطيع من الدعاء..

 هكذا كنا نتراحم بيننا أخوتي الأكارم، هكذا كان جيش القادسية العظيم، هكذا هم الرجال الرجال صناديد العراق النشامى.

 لم يسأل أحدهم من أين هذا الجندي المصاب وما هي طائفته وقوميته وعرقه، كان كل شيء ينبض باسم العراق، الماء والهواء والتراب والحجر والبشر كله عراقي خالص..

 وللعلم فإن كل من وقف معي في محنتي هذه حتى الذي كان سبباً في إصابتي، قد نال شرف الشهادة خلال الثمان سنوات من الحرب، فأسأل الله العلي العظيم أن يشملهم بواسع رحمته وعظيم عطفه..

بقيت في المستشفى الميداني يومين فقط ثم منحت إجازة مرضية لمدة أسبوعين..

رفضت أن أتقدم بشكوى على الجندي حسن، وقلت للنائب الضابط الذي زارني ليفتح مجلساً تحقيقياً إن الخطأ كان مني.. والمضحك أن هذا الجندي أرسل لي نصف دينار (فصل)، فضحكت ضحكة لن أنساها ما حييت وضحك كل من كان معي على موقف هذا الجندي الطيب القلب رحمه الله.

وإلى ذكريات جديدة مستقبلاً إن شاء الله.

 

ملاحظة..

كتبت هذه الذكرى قبل عشر سنوات وأعيد نشرها تكريماً للشهداء الأبطال، رفاق السلاح النشامى..






الاربعاء ١٧ ذو الحجــة ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / تمــوز / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ذي قار نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة