شبكة ذي قار
عـاجـل










المُخَطَّطات الخَفِيّة والجُغرافيا السِياسيّة

لما يُسمّى" بالشرق الأوسط الجديد "

 

د. عبد الرزاق محمد الدليمي

 

يشهد وطننا العربي والاقليم المحيط به خاصة، كما العالم باسره بصورة عامة، تحولات سياسية واقتصادية كبرى لابد من متابعة وقعها على امتنا ووطننا ومستقبل اجيالنا. سيما وان الكثير من هذه التحولات والمتغيرات في وطننا العربي هي ليست متغيرات ونتائج تلقائية، بل هي نتاج مخططات معادية قديمة ذات طابع استراتيجي بعيد المدى بعضه مُعلَن واغلبه خفيّ. لذا فان بحثها والكشف عنها والتوعية بها هو امر لابد منه لتمكين اجيال الامة من التصدي لما يحاك ضد امتهم، والانتصار عليه.

  من الامور التي ادركتُها مبكراً ان وسائل الاعلام في كثير من الحالات تتجه الى صوب محدد، بينما تعمل السياسة في حدب اخر. ففي الوقت الذي يركز فيه الاعلام وما يعتقده البعض من احتمالات ان العالم يتجه الى الصدام النووي بين الغرب الامريكي والشرق الروسي الصيني، بسبب تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية، تشير الوقائع على الارض ومنذ العقد الماضي، الى ان متغيرات خطيرة تجري في الوطن العربي يصاحبها اهمال او تعتيم دولي، وان هذه المتغيرات تستند في تنفيذها الى ان البيئة الأمنية الإقليمية تشكلت على نطاق واسع من خلال دورة انعدام الأمن وعدم الاستقرار وذلك وصولا الى اهداف ابعد من ذلك بكثير.

 

بعض العوامل الفاعلة والمؤثرة:

 

تساهم في ذلك قوى تعمل على زعزعة استقرار المنطقة مستغلة او مُحدِثة صراعات متعددة الأوجه، وبمشاركة العديد من الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والعالمية التي تسعى من خلال ذلك الى احداث التحول الهيكلي في هذه المنطقة.

كما أدت المخاطر والتحديات الأمنية الناتجة عن موجة عدم الاستقرار والصراعات سيما بعد جريمة احتلال العراق والفوضى في اغلب الدول العربية إلى تغيير العلاقات الدولية في منطقة ما يسمونه " بالشرق الأوسط " وشمال إفريقيا، والهدف الحقيقي هو الوطن العربي.

تشير القراءة بأثر رجعي إلى أن عقدين من الاضطرابات نتجت بشكل أساسي عن اساءة التعامل مع مطالب التحول السياسي الشرعية للجماهير التي انتفضت في العديد من البلدان.

كما أدت التحولات الأوسع في النظام الدولي التي برزت ملامحها بوضوح بعد بداية النزاع المسلح بين روسيا وجارتها اوكرانيا  إلى تسريع وتيرة واتجاه إعادة الهيكلة الإقليمية بشكل كبير.

وقد تعزز التحول في النظام الإقليمي بعد موجة من الانتفاضات والحراك الشعبي المشروع الذي نادى بضرورة تحقيق التحول الديموقراطي في اقطار الوطن العربي والقضاء على الفساد والهيمنة الاجنبية واذرعها. الا ان هذا الحراك الشعبي العربي الذي جرى تناوله تحت مسمى " الربيع العربي"، تم حرفه عن مساره في العديد من الساحات بفعل اختراقه والاطباق عليه تارة، وركوب موجتَه تارة اخرى من قبل قوى داخلية وخارجية معادية للتغيير السياسي والتحول الوطني الديموقراطي الحقيقي.

لذا فعلى الرغم من أن الوعد بالتحول الديمقراطي الذي بشرت به المرحلة الأولى من الحراك قد ولّدَ التفاؤل، إلا أنه في مرحلته الثانية، كان يُنظر إلى التحول الإقليمي بشكل متشائم على نحو متزايد، لذا أنتجت التكهنات الأولية المعنية بإرساء الديموقراطية، مشاعر مختلطة حول الاتجاه المستقبلي لهذه التحولات.

وأدت المواقف المتباينة التي اتبعتها الجهات الفاعلة الدولية المختلفة إلى توقف الإصلاحات السياسية، كما انجرفت الاقطار العربية إلى دائرة من العنف، كما حدث في ليبيا و سوريا و العراق ولبنان واليمن وتالياً السودان، مما خلق تحديات أمنية متصاعدة لا تعد ولا تحصى، وهذا يعني بالضرورة ان هذه البيئة الأمنية الجديدة الهشّة غيرت في نهاية المطاف المواقف الإقليمية وخارج الإقليمية تجاه قضية التحول السياسي، مما أدى إلى تضييق نطاق أجندة " الإصلاح " نظراً الى بروز تهديدات وجودية هائلة  كالتقسيم والتدخل الاقليمي والتهجير القسري للملايين وغيرها.

 

تغيير ديناميكيات الأمن الوطني و الإقليمي

اليوم،  اذا فكرنا  بأثر رجعي في العمليات المتداخلة لإعادة تشكيل الدول والمنطقة وديناميكيات الأمن الإقليمي للوطن العربي، والتي اتخذت معالمها العريضة شكلًا هجينا في الوقت الحالي، بسبب ان الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والصراعات المختلفة والتدخل الإقليمي قد قوضت وحطمت أسس النظام الإقليمي، وخاصة السلوك المنفلِت وغير المنضبط لنظام ملالي طهران ومشروعه التوسعي الاستعماري، والذي كان احد اهم اسباب الفوضى في المنطقة، ناهيك عن تداعيات كبيرة على الهويات والحدود وتوازن القوى والاصطفافات، والحروب الأهلية المطولة، وظهور جهات فاعلة من غير الدول ومؤسساتها، والحروب بالوكالة، والتدخلات الخارجية، كل ذلك ادى إلى تقويض مظهر النظام المعياري، وهي ظاهرة في المجتمعات البشرية تتمثل في وصف بعض الأفعال أو النتائج بأنها جيدة أو مرغوب فيها أو مسموح بها،  او أنها سيئة . لذا ففي ظل كل هذه المتغيرات الجذرية اخذت العديد من الاقطار العربية  تكافح للحفاظ على سيادتها وسلامة أراضيها ، في حين اختارت اقطار أخرى إعادة تنظيم شركائها تكتيكيا لبعض الوقت ، لمواجهة الضغوط على الدول القومية وحدودها الحالية .

والسؤال المنطقي الذي يُطرَح هنا : هل ان كل ذلك يحدث تلقائياً او اعتباطاً ؟ ام انه فعلٌ ممنهج ونتاج تخطيط سابق بعيد المدى؟.

 

مؤتمر كامبِل بنِرمان

إن قراءة ممنهجة لفهم ما حدث ولايزال يحدث تحيلنا  الى المؤتمر الذي دعا إليه رئيس وزراء بريطانيا وهو مؤتمر كامبل بنرمان، والذي انعقد في لندن عام 1905 واستمرت جلساته حتى 1907، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين بهدف إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية إلى أطول أمد ممكن. وقدم فكرة المشروع لحزب الأحرار البريطاني الحاكم حينها.

وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية سموها وثيقة كامبل نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان. وهو أخطر مؤتمر حصل لتدمير الأمة العربية ، وكان هدفه إسقاط النهضة وإحداث عدم استقرار المنطقة التي تسكنها، والتي وصفها بانها جنوب البحر الابيض المتوسط.

قدّم المؤتمر توصيات إلى حكومة الأحرار، بعد سقوط حكومة المحافظين عام 1905 برئاسة أرثر بلفور، وكان المؤتمر برئاسة هنري كامبل بانرمان، وهدف في البداية الى إقناع رئيس الوزراء الجديد بالعمل لتشكيل جبهة استعمارية لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني، ومن ثم لتحقيق بعض الأهداف التوسعية في آسيا وأفريقيا. وتأسست هذه اللجنة العليا، واجتمعت في لندن عام 1907، وكانت تضم ممثلين عن الدول الاستعمارية الأوروبية وهي: انكلترا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وهولندا، إلى جانب كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول.

واستعرض المؤتمر الأخطار التي يمكن ان تنطلق من تلك المستعمرات، فاستبعد قيام مثل تلك الأخطار في كل من الهند والشرق الأقصى وأفريقيا والمحيط الأطلسي والمحيط الهادي، نظراً لانشغالها بالمشاكل الدينية والعنصرية والطائفية، وبالتالي بُعدها عن "العالم المتمدّن". وأن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المنطقة العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد ان أظهرت "شعوبها" يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية. كما اكدت الوثيقة ان خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها وهي : وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان. ولم ينس المؤتمر أيضاً، عوامل التقدم العلمي والفني والثقافي.

 

توصيات المؤتمر

رأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار وضع هذه المنطقة العربية متأخرا، وعلى ايجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. لذا أكدوا على ضرورة فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة (الدولة العازلة) Buffer State، تكون عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية. وهكذا مهدوا لقيام الكيان الصهيوني، وتوصلوا إلى نتيجة مفادها: (إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات. والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة: ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان).

وأبرز ما جاء في توصيات المؤتمِرين في هذا المؤتمر: إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: دول "الحضارة" الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا.

الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الفئة الاولى ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواءها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدا على الغرب او يعمل على تفوقها عليه.

الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديدا لتفوقها (وهي بالتحديد المنطقة العربية بشكل خاص) والواجب تجاه تلك المنطقة هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه فيها لامتلاك العلوم التقنية.

 

محاربة أي توجُّه وحدوي:

ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه "الشعوب"، الا وهي دولة "إسرائيل". واعتبارها مجال صديق للتدخل الأجنبي وأداة لتحقيق الاهداف المعادية لسكان المنطقة ومنع وحدتها. كما دعا إلى ان فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا لا يكون فقط فصلاً مادياً عبر الدولة "الإسرائيلية"، وإنما اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، مما يبقى العرب في حالة من الضعف.

 

المتغيرات الاخيرة و مستقبل نظام سايكس بيكو الاستعماري:

 

ان توقيت المتغيرات التي تحدث في وطننا العربي المشار اليها اعلاه، ليس بعيداً عن الذكرى المئوية  للاتفاقية التي افرزت نظام "سايكس بيكو" . فمنذ بداية الألفية الجديدة تتركز المناقشات على مستقبل هذا النظام، الذي يمكن القول إنه وضع أسس نظام لتقسيم الوطن العربي في حقبة ما بعد الدولة العثمانية. 

ومع مرور الذكرى المئوية لاتفاقيات سايكس بيكو، فان التأثير الأكبر والأطول أمداً للتحول الهيكلي على ديناميكيات الأمن الإقليمي يستند الى أن أصحاب المصالح المختلفة في الدول العربية لم يتمكنوا من تحقيق الاستقرار في المنطقة. فقد تم إضفاء الطابع الأمني على الوسائل المُعتمَدة لحل القضايا ذات العلاقة بالشؤون الدولية لمنطقة ما يسمونه "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".

وعندما فشلت الجهات الفاعلة الإقليمية في تطوير أدوات فعالة لمنع أو تخفيف النزاعات السياسية أو النزاعات العسكرية ، ظهرت في المقدمة ميزة المنطقة كنظام عُرضة للتغلغل الدولي وبالتالي تم تدويل الأزمات في المنطقة كلما امكن ذلك.

ونتيجة لذلك فقد أشعلت الانتفاضات العربية المشروعة، شرارة التنافس الجيوسياسي الإقليمي والعالمي، فانفتحت شهيته واطماعه للتدخل في الوطن العربي بالضد من اهداف النضال المشروع للانتفاضات والحراك الشعبي لتحقيق التحول الديمقراطي والتحرير والقضاء على الانظمة الفاسدة. وقد ساهم كل هذا التضارب بتحطيم الهياكل الجيوستراتيجية التقليدية القائمة على الانقسام بين المؤيد للغرب مقابل المناهض للغرب.

كما شجع التأييد الأمريكي النظري والصُوَري للثورات الشعبية، الايماءات المضادة للثورة على مستوى المنطقة. كما كانت مشاركة الجهات الفاعلة من خارج المنطقة، بعيدة كل البعد عن ان تكون مفيدة او ايجابية او بنّاءة، فعكست الحالة السيئة لآليات حل النزاعات الدولية، وكذلك تضارب المصالح الدولية. وقد أدى تراجع التزام المجتمع الدولي، وسياسة الاحتواء، وفك الارتباط النسبي، إلى تعميق الفراغ في إدارة الأمن الإقليمي.

 اليوم ، يُنظر إلى اقطارنا العربية على أنها أكثر خطورة مما كانت عليه ، بسبب العديد من العوامل المزعزعة للامن والاستقرار. واذا لم تنتبه الانظمة العربية الى ما يجري من حولها من اعادة هيكلة، ومشاريع تقسيم، وتفكيك الدولة الوطنية، وتعزيز الجهل والتخلف.. وغيرها، فان الامر سيتحول الى فوضى في عقر دار حتى المستقرة منها، وهذا ما تم تخطيطه منذ زمن بعيد كما ذكرنا اعلاه ويتم تنفيذه الان.

 لذا فان توعية الاجيال بالمخططات الخفية القديمة الجديدة ضد الامة العربية ، والربط بين تلك المخططات وبين ما يجري حالياً هو امر في غاية الاهمية لتمكين الامة من التصدي بوجه ما تتعرض له من استهداف منقطع النظير، على الرغم  من ان البعض مع الاسف مازال يعتقد واهماً، ان الغرب والصهاينة هم حلفاء مضمونين،  وانهم سينجّونهم مما لا يحمد عقباه!!

 






الخميس ٢٥ ذو الحجــة ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٣ / تمــوز / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عبد الرزاق محمد الدليمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة