شبكة ذي قار
عـاجـل










بسم الله الرحمن الرحيم

المشاركة في الشعائر الحسينية قبل مائة عام

الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي

 

كان من أسوأ آثار الاحتلال بعد الاحتلال نفسه هو شق الصف الوطني وإقامة نطام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية والتي كان من نتائجها تشكيل حكومات لا تقوى على الاطلاع بمسؤولياتها الوطنية فكتبت دستور يثبت التوجهات المذهبية والقومية والدينية للدولة العراقية ويؤطرها بإطار دستوري وقانوني لم يعهده العراق من قبل وما ترتَّب على ذلك من توزيع للمناصب والوظائف وتقسيم للغنائم والفوائد والمغريات على أسس طائفية  فرضتها أجندات المحتل ونفذها أعوانه من العراقيين الّذين يقدِّمون المذهب والطائفة على  الوطن واستحقاقاته ويقدمون  المنافع الشخصية والحزبية على خطط التنمية وخدمة المجتمع حتى  جرى الفصل الطائفي بين المحافظات والمدن العراقية وأحدث شرخاً كبيراً في العلاقات الاجتماعية بين أبناء البلد الواحد ولقد  زاد ذلك سوءاً ما تعرض له الناس من تهميش وتهجير وقتل واختطاف راح ضحيته ملايين من العراقيين بسبب التوجهات الطائفية التي سيطرت على سلوك السياسيين جميعاً صحيح ان الاختلاف المذهبي موجود كموروث ديني ومجتمعي منذ أزمنة بعيدة لكن لم يُعرف خلاف مجتمعي بين العراقيين على أساس طائفي حتى في ظل جميع الغزوات الخارجية التي تعرض لها العراق لأن الغزاة  راحلون ويبقى العراق وشعبه سليما ًمعافى وينعم أهله بعلاقات اجتماعية وتواصل اجتماعي لا مثيل له ومحبة وتعاون تصل إلى حد التضحية بالروح من أجل العراقي الآخر خاصة في ظروف الحروب والقتال  التي خاضها العراق ضد أعداءه أو في أوقات الأزمات والطوارئ التي يتعرض لها وأكاد أجزم أنه لا يوجد عراقي من أهل الجنوب لا تربطه صداقة مع أحد أبناء الغربية  أو أحد أبناء الشمال ولسان حاله يقول:

اسمع يا خاين وافهمني                          شيعي آني وأخويه السني

ما خيَّبْ بأفعاله ظني                           ولا يوم بحِقْدَكْ عاملني

شيعي آني ونسيبي السني                          ولا تكدر عنهم تبعدني

 

لكن تبقى الحسابات السياسية والمصالح الفردية هي التي تقود الى النزاعات حيث تميل سياسة الدولة القائمة على المحاصصة لفرض برامجها على الآخر لإضفاء الشرعية على الأحكام فتسخر رجال الدين ورجال الأعلام والمنتفعين من المال العام لإثارة المشاكل مع المذاهب الاخرى كلما تطرح سياسات عرجاء ترغب في إبعاد عيون الرأي العام عنها أو لصرف الانظار عن الفساد المستشري في البلاد وقد تستخدم الخلاف الفكري والسياسي أو الديني والاقتصادي وإن استوجب فإنها تفرض إرادتها بالقوة والاكراه.

لقد حفل التأريخ الإنساني بمحاولات عديدة للتقارب بين المذاهب والأديان وعقدت مؤتمرات واجتماعات على مختلف المستويات لكن لم تصل إلى اليوم إلى الى ما نتطلع له من تنسيق وتعاون وتوحيد مواقف بين المسلمين أنفسهم ومع الأديان الأخرى والعلاقات الدولية الحالية وظروف المجتمع الدولي تُشعرنا أننا نواجه أخطار جمّة وسننكسر أمام أي منعطف يواجهنا إن لم نرعوى ونرفض التفسيرات الجاهزة ونفسرها بمنطقنا دون مبالات لأفكار الآخرين ومعتقداتهم.

إنّ التفاهم الأخوي والتعايش السلمي والتعاون الصادق  بين الشيعة والسنة يتطلب عدم فرض تمثيل الدين من وجهة نظر مذهب دون الآخر بل سياق المحبة الصادقة والوطنية الجامعة مع استيعاب الخصوصية المذهبية لكل منهم في دائرة دينهم الواحد  ولقد حدثنا التأريخ أن مناسبة تأبين المجتهد  الشيخ محمد كاظم اليزدي  رحمه الله في صيف 1919م قد شهدت تقارباً واضحاً بين الشيعة والسنة ثم بدأ هذا التقارب تشتد مفاصله عام 1920 وتحديداً في رمضان الّذي صادف يوم 19 مايس حيث كانت الاجتماعات الدينية مشتركة لإحياء احتفالية المولد النبوي الشريف حيث يحضره علماء الشيعة ويشاركون فيه إخوانهم من علماء السنة كما شهدت المجالس الحسينية التي يقيمها علماء الشيعة حضور بارز من علماء الدين السنة وجمهور كبير من أهل السنة حتى أنّ الشعائر الدينية ومجالس العزاء تقام مجتمعة في الحسينيات والمساجد وبالتعاقب  ويشارك فيها الطائفتين معاً  ويقول المرحوم كاظم الدجيلي في كتابه  أحداث ثورة العشرين ( كان للتقارب الشيعي السني أثره الواضح في وحدة المجتمع التي  بدونها لا يمكن العيش بسلام واستقرار ولا بد أن يدرك جميع العراقيين بمختلف طوائفهم ودياناتهم وقومياتهم أن استقرار بلدهم لا يتم الا بالتقارب والتعاضد والوئام لذلك كان صاحب فكرة التقارب هذه السيد صالح الحلي حيث دعي الى تعطيل العمل يوم الجمعة وتوجيه دعوة عامة لجميع العراقيين سنة وشيعة للاجتماع وأعلن خلال  هذا الاجتماع أنه سيذهب إلى جامع السيد سلطان علي ليخطب في أهل السنة كما يخطب في أهل الشيعة) وعلى أثر هذه الدعوة توجه الجميع سنة وشيعة الى الجامع المذكور حيث أقيمت خطبة وصلاة موحدة في هذا الجامع فامتلأت الشوارع بالمصلين مما يعكس ذلك أثر الدعوة التي وجهها الحلي رحمه الله في التأثير على نفوس المسلمين عامة وشرحت صدورهم للتقارب والتسامح وشرع الناس لإقامة المولد النبوي الشريف ومأتم لقراءة مناقب الإمام الحسين عليه السلام  ومن هنا نشأت  فكرة (المولد التعزية ) فكانت منبراً  للتقارب والمحبة والشعائر المشتركة وفي رواية أخرى يؤكد الشـــــيخ محمد مهدي البصير أنه هو صاحب فكرة التقارب السني الشيعي حيث يقول رحمه الله ( أنه كان قد تحدث مع السيد محمد الصدر في ربيع عام 1920 م لغرض إثارة الشعور بين الناس عن طريق إقامة الحفلات  الدينية المشتركة حيث استمر التقارب الأخوي بين العراقيين وأقيمت عدة حفلات  مشتركة  تحت عنوان (المولد التعزية)  وهو ما يشير الى المولد النبوي الشريف ومجالس التعزية للإمام الحسين عليه السلام يلقي  فيها خطب الأئمة  والعلماء والخطباء والوعاظ وإقامة أمسيات رمضانية بدأت في جامع الميدان مساء الخميس 20 آذار وطبعت بطاقات دعوة باسم محلة الميدان ووزعت لجميع العرقيين لحضور هذه الأمسيات فعزز ذلك نداءات للوحدة الوطنية والتكاتف والتعاون بين المسلمين ومن هنا نقول أن النيات الصادقة تثمر نتائج طيبة المذاق وأن السعي لوحدة المجتمع وتقوية أواصر صلاته  يتحملها بالدرجة الأساس  رجال الدين والمفكرين وشيوخ العشائر وقادة الفكر وأن خطوط التواصل والمقتربات  أشد وأصلب من الفوارق ومن يريد أن يبني دولة فعليه أن يبحث في المشتركات لأن التناحر والخلاف والفوارق تضر بمصلحة الشعب  والوطن والأمة  .

لقد كانت الوفود تتقاطر ما بين الكاظمية والأعظمية  حيث يخرج  أهالي الأعظمية والجعيفر والسوامرة والتكارتة وهم يهللون ويكبرون ويعانق السيد الشيخ عناقا أخويا صادقًا ويصدح الجميع بالصلاة  والسلام على الرسول المصطفى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وكانت زيارات أهالي الأعظمية للإمام موسى الكاظم عليه السلام  دائمة وكان من دواعي الحب لآل بيت النبوة أن يشارك أهالي الأعظمية أهالي الكاظمية مواكبهم الحسينية وعندما تحل ذكرى وفاة سيدنا علي بن ابي طالب عليه السلام يذهب موكب أهالي الأعظمية الى الكاظمية وعند وصول الموكب الى صحن الكاظمية يهزج الجميع :

أبو بكر وعمر حزنانين     عالوصي حيدر

وملائكة السما وجبرائيل       لأجله تكدر

 

ومواكب أخرى تسير من محلة السوامرة  والتكارتة تذهب الى محلة الشيخ بشار للمشاركة في العزاء ولقد نقلت جريدة الاستقلال صورة واضحة لهذا التقارب والمشاركات في المأتم الحسيني حيث تقول ( أن المآتم الحسينية أشترك  فيها هذه السنة جميع المسلمين فكنت  تشاهد فوجًا من الشيعة معه أفواج من أهل السنةّ كما تشاهد مشعال للشيعة ومعه أضعافاً من أهل السنة وفي يوم العاشر من محرم ذهب الجميع الى الكاظمية للاشتراك بهذه الواقعة وكان بإمكان المرء أن يشاهد زيارات واسعة لجميع المسلمين الى كربلاء والنجف والكاظمية حيث تتحول هذه المواكب والشعائر الدينية الى خطابات حماسية ونداءات  روحية يمتزج فيها الشعور الديني المشترك ويسمو فيها الشعور الوطني على الشعور المحلي والمذهبي ولا يزال العراقيون يستذكرون قول الشيخ ضاري رحمه الله عندما رد على لجمن وهو يقول (ان الحكومة البريطانية  حائرة لا تدري هل تشكل حكومة شيعية أو سنية ) فرد عليه الشيخ ضاري (  بأن العراق ليس فيه شيعة أو سنة بل فيه علماء أعالم نرجع اليهم في  أمور ديننا ) فقال لجمن (أنكم عشائر والأجدر أن تكونوا مستقلين ) فرد عليه الشيخ ضاري(علمائنا حكومتنا وقد أمرنا القرآن بإطاعة الله  ورسوله وأولي الأمر منا  فإذا اعتديتم عليهم فأننا سننتصر لهم ونحاربكم بجانبهم والأولى  أن تلبوا ما أرادوا ). ما أحوجنا اليوم لهكذا أعمال جليلة ومواقف شامخة مسؤولة وصريحة تدعوا للوحدة والتعاون والتآلف بين المسلمين وقطع دابر من يحاول الإساءة للدين ومقدساته ورموزه.

 

 






الاحد ٢٤ صفر ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / أيلول / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة