شبكة ذي قار
عـاجـل










غزة اليوم، تضحية وعزم يتجدد

نزار السامرائي

 

 

عملية "طوفان الأقصى"، والتي انطلقت فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، اتسمت بالمباغتة العالية والتخطيط الحاذق، ونُفذت من قبل رجال مضحين تركوا وراءهم متاع الدنيا وكل ما يملكون، وحملوا الهّم الوطني والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل وضع حد لمعاناة أبناء شعبهم، وسياسة الإذلال التي اتبّعها الكيان الصهيوني مع سكان الأرض المحتلة، لكسر إنسانيتهم وتحطيم كرامتهم الوطنية، والمتطلعة إلى بناء غد أفضل بعيدا عن قيود الاحتلال وتبعاته وتداعياته.

وقد أشّر متابعو المشهد، "سياسيا وعسكرياً" ملاحظات جوهرية عن هذه العملية تخطيطاً وتنفيذاً ونتائج، لعل في مقدمتها أن المؤسسة العسكرية الصهيونية، اعترفت لأول مرة بضخامة الخسائر التي تكبدتها، أو لحقت بالمستوطنات التي أقامتها لتوسيع دائرة الاحتلال، والزحف على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية عجزت عن إخضاعها لغطرستها ونزعتها العدوانية، وقد ذهب بعض المراقبين إلى تفسير هذا التوجه الصهيوني الجديد على أنه محاولة من إسرائيل لعرض مظلوميتها في المنطقة بإطار جديد، وذلك من خلال تغطيتها لمسار المعارك ونتائجها  أو المبالغة في خسائرها، إنما حصل لتبرير جرائمها في أوساط المدنيين الفلسطينيين، لا سيما أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، من أطفال ونساء وشيوخ كبار السن، على أساس أنه عملية دفاع النفس.

ومع أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أقامت حول نفسها فيما مضى، سياجا عاليا من المبالغة والكذب في تقليص خسائرها إلى أدنى ما تستطيع، وتضخيم خسائر العرب في حروبها السابقة، كي تمنع تأثير ذلك على نفسية المستوطن الصهيوني من الانهيار أو التراجع، والتي حرص الكيان الصهيوني عليها منذ أن أُقيم فوق الأراضي الفلسطينية، وهي نظرية التفوق المنفرد على العرب مجتمعين، والقدرة على الحسم السريع للحرب من دون السماح لها بأن تحصل داخل الأراضي المحتلة، وظلت إسرائيل تُسّوق لمقولة "الجيش الذي لا يقهر"، مما يعكس عدة أهداف مرة واحدة من بينها:

1 - تأجيج نزعة الانتقام لدى مجتمع المستوطنين، ودعم الجيش الصهيوني في أي مدى يذهب إليه في رد فعله على عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، حتى خارج حدود النزعة العدوانية التي عرفها عنه الفلسطينيون والعرب والعالم، منذ عام 1948 وحتى اليوم، هذه النزعة الانتقامية التي تخطت كل حدود المنطق العسكري المعروف في الحروب، وردود الفعل التي كانت إسرائيل تعتمدها في حروبها النظامية مع الجيوش العربية، وهذا ما تجسد في حجم الدمار الذي خلفته الغارات الجوية على غزة وكأن إسرائيل تريد أن تبعث برسالة واحدة للفلسطينيين، بأن عليكم وحدكم أن تقفوا حائلا دون تكرار ما جرى.

 لقد تعدت حدود الانتقام الذي نفذته إسرائيل منذ أكثر من شهر، كل المدارك العقلية للمراقبين السياسيين والعسكريين، وحتى المنظمات الحقوقية والإنسانية على حد سواء، ووسع الطيران الإسرائيلي من قصفه الجوي، بحيث تعمّد استهداف المستشفيات بمن فيها من مرضى وأطقم طبية، ومراكز التعليم بما فيها التابعة للأمم المتحدة وكذلك المجمعات السكنية المكتظة بالسكان المدنيين، وكأنها تريد أن توصل رسالة للفلسطينيين، أن عليهم أن ينوبوا عن "إسرائيل" بالانتقام من كل المنظمات الفلسطينية المسلحة أو حتى الإبلاغ عن أي فعل مستقبلي، تحت لافتة أن ردّ الفعل هذا قابل للتكرار حيثما اقتضت الضرورة، وما كان له أن يحصل لو لم يوفر سكان المدن والمخيمات، لها الحاضنة الاجتماعية، وبالتالي عليهم أن يتحولوا إلى شرطة سرية للمحتلين كي يرضوا عنهم.

2 – لقد تأكد أن نزعة الانتقام التي استشرت في الكيان الصهيوني، سلطةً سياسيةً ومؤسسةً عسكريةً ومجتمعَ مستوطنين، كانت تنتظر أي حدث يمنحها شارة البدء في استعراض قوة الانتقام العام من دون تمييز ظنا منها أن الدعم الدولي سيبقى مفتوحا إلى الأبد، متجاهلة أن الإعلام صار ينقل الحدث ساعة بساعة من ساحات المعارك، ويسهم في بلورة رؤيا أخرى قد تغير المعادلات السياسية السائدة حتى أمد قريب.

إن المباغتة التي فاجأت فيها المقاومةُ الفلسطينية، إسرائيلَ في السابع من أكتوبر واسقطت نظرية الأمن القومي للكيان الصهيوني، وأسقطت فرضية أن المؤسسات الأمنية الإسرائيلية المدعومة من أقوى أجهزة المخابرات في العالم وخاصة CIA تعرف كل شيء حاصل في العالم، أو سيحصل في المستقبل وإن كان بعيدا، كما أذهلت من يسمون أنفسهم بأعداء إسرائيل الإقليميين، نتيجة ما تركته من دهشة لدى كل من كان يزعم أن دعمه لقوى الممانعة والمقاومة هو وحده الذي يُبقي جذوة المقاومة على قيد الحياة، وسقطت كل المزاعم المطروحة عن وحدة الساحات، بحيث نام كثير من حََسني النية على وهم أن الجبهة اللبنانية ومهرجها الأكبر، وهي الأكثر ضجيجاً وتبجحاً عن قيادة قوى الممانعة والمقاومة إلى شاطئ النصر، وكذلك الشعارات الخادعة التي ظلت إيران تسوقها عن تحرير فلسطين قد انهارت فجأة وأظهرت زيف كل ما يطرحه عملاء إيران، فقد تأكد أن طريق القدس لا يمر ببغداد أو صنعاء أو القلمون أو ادلب وإنما من الجولان السوري أو الناقورة، وأن الشعارات المتهافتة من إيران لأكثر من أربعة عقود كانت لمجرد إحداث شرخ في الصف العربي وتبرير توسيع المجال الحيوي الإيراني على حساب الأراضي والممرات البحرية في الوطن العربي، وظلت طهران تُسوق لكذبة فاضحة بأنها هي المتبنية الأولى للقضية الفلسطينية ولوحدها، ولولا دعمها المزعوم ما كان للمقاومة أن تستمر يوما واحدا.

لقد اسقطت عملية طوفان الأقصى، اسطورة المؤسسة الأمنية الصهيونية، ومعها سقطت هيبة المخابرات المركزية الأمريكية، التي كانت تزعم معرفتها بكل ما يخطط في السر والعلن في كل بقعة في الأرض، ولهذا كنا نطلع على تحذيراتها قبيل ستة شهور عن عملية "إرهابية يمكن أن تحصل في الفلبين أو في الصومال أو المكسيك، وتنصح مواطنيها بعدم السفر إلى هناك أو تنصحهم بمغادرتها"، وبهذا فقد نجحت عملية طوفان الأقصى، في تأكيد زيف تلك المزاعم وإن كان علينا أن نقول بأن الهدف من طوفان الأقصى، لم يكن هذا بل له أهداف أبعد من ذلك بكثير ويجب المحافظة عليها كما يجب ألا يكون الثمن المدفوع أكبر من النصر المفترض تحقيقه.

3 – من بين أهم مبادئ الحرب، تشتيت قوة العدو من خلال فتح أكثر من جبهة له، لسلب العدو القدرة على المناورة بقواته الاحتياطية، أو الاستفراد بجبهة واحدة وتهدئة الجبهات الأخرى، لأن أكثر من جبهة سيجبره على ترقيق ثقل قوته الأساسية وإفقاده المرونة في إشغال جبهة واحدة، وإجباره على نقل قواته إلى أكثر من خط مواجهة، وهذا خلل حصل في حرب أكتوبر 1973، عندما كانت الجبهة المصرية تشتعل بالقتال، لتعيش الجبهة السورية حالة استرخاء لافتة، وهذا الأمر كنت اناقشه في إطلالة من تلفزيون بغداد في ذلك الوقت في متابعة شبه يومية لمسار الحرب، حتى قلت في واحدة من حلقات البرنامج الذي كان يذاع على الهواء مباشرة، "كأن المصريين والسوريين اتفقوا على أن يمنحوا إسرائيل فرصة الاستفراد بهما كلا على حدة".

إن أي جيش في العالم يحرص بكل قوة على ألا يتمكن العدو من الزج بقواته المسلحة على جبهة واحدة، وربما كان من حسابات المقاومة في غزة أنها حتى وإن تعمدت عدم إبلاغ ما يسمى بحلفائها في لبنان والمليشيات العاملة في سوريا بتفاصيل خطة هجومها المباغت فجر السابع من أكتوبر "هذا ما أكدته لاحقا بعض قيادات حماس في الخارج بتزامن مع تصريحات مسؤولين إيرانيين والمليشيات العاملة بأوامرهم"، إلا أنها كانت تظن وعلى مستوى المخططين لعملية طوفان الأقصى وحتى منفذيها، أن مراهنتها على فتح جبهة من جنوبي لبنان من قبل حزب الله الوكيل العام للمشروع الإيراني في المنطقة، أو جبهة الجولان التي يعمل فيها الحرس الثوري الإيراني وبعض المليشيات الإيرانية من حَمَلَةِ الجنسية العراقية، والتي تأتمر بأوامر "فليق القدس" الإيراني، أو من قبل الحوثيين، وربما قفز الخيال ببعض المتفائلين بالدور الإيراني، أن تُقدّم إيران على استخدام قوتها "الجوفضائية" ضد إسرائيل أو على الأقل مجرد التلويح بذلك، ولكن عشرات الإشارات خرجت من طهران وجاءت كتعليمات لعملاء إيران للالتزام بها حرفياً فيما يخص التعاطي السياسي والإعلامي مع حرب غزة، جسدتها أكثر من إشارة لعل من أهمها ما جاء في مقالة لصحيفة كيهان، المعبرة عن موقف الزعامة الإيرانية المتمثلة بالولي الفقيه، ومما ورد فيها "أن إيران لن تقاتل نيابة عن أمة أخرى أو بلد آخر"، أو ما جاء على لسان حسن نصر الله في خطابه، الذي طبّل له أتباعه من "أنه على وشك أن يُزامن خطابه مع برشقات من الصواريخ" على حيفا وتل أبيب، وإذا به يضرب تلك الآمال بطعنة غادرة فيصيبهم بخيبة أمل مريرة وإحباط كامل ويمنعهم من الاستثمار السياسي في أكثر تجارة مربحة في الساحتين العربية والإسلامية وهي قضية فلسطين، فبدلا من ذلك أمر مليشيا الحوثي والمليشيا المسماة عراقية بالقيام بذلك.






الاحد ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / تشرين الثاني / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة