شبكة ذي قار
عـاجـل










من ذاكرة أهل البصرة (اللص الظريف)

 

في بداية السبعينات وفي مدينة البصرة، كان لي صديق مقاول من الأخوة الأرمن اسمه (أبو إسكندر) ولم أعرف اسمه إلاّ بعد مرور سنة حين وقعنا عقد تنفيذ عمل وكتب اسمه (كريكور بوغوصيان) والأخوة الأرمن معظمهم قد عشقوا حرفي الألف والنون في اللغة العربية ومعظمهم ينتهي اسمه بالألف والنون.

كان أبو إسكندر يسكن منطقة الجنينة في البصرة ويملك دار حديثة، وحديقة الدار الأمامية كبيرة ومكسوة بالحشيش (الثيل) الجميل ومؤطرة بالأشجار والنخيل، ترش عصراً بالماء فتكون محل تجمع العائلة ليلاً في ليالي صيف البصرة، فكان داره الجميل محل أنظار سكان المنطقة والمارة ويثير لعاب اللصوص.

فبعد منتصف أحد الليالي الصيفية يتسلق لص السياج الخارجي للدار يحمل معه عدة لفتح الأبواب مصباح يدوي للإضاءة، ويتمكن من فتح باب المطبخ المطل على الحديقة والعائلة تغط في نومٍ عميق فوق سطح الدار كعادة العراقيين النوم صيفاً٠

يفتح الثلاجة أولاً فيرى قنينة ويسكي مأخوذٌ ربعها ويرى خضروات وفاكهة بالثلاجة فيقرر أن يشرب أولاً ويؤجل ما جاء من أجله لسرقة الدار لساعة قادمة.

يأخذ بطل الويسكي وملحقاته من الفاكهة والخضر ويجلس وسط الحديقة ويشرب كل ما في القنينة ويأكل كل ما جاء به من ثلاجة الدار، ويتمدد على حشيش الحديقة البارد وإذا به يغفو وينام بعد أن دارت الخمرة في رأسه وفعلت فعلها ولم يعد يحس بشيء.

ينهض أبو إسكندر صباحاً كعادته في السادسة صباحاً وينظر من السطح الى الحديقة ويرى غير مصدق أن شخصاً غريباً بفانيلا وبنطرون ممزق وجنبه آلات السرقة وبطل الويسكي، نادى على أم إسكندر لترى هذا اللص فأشارت عليه أن يخابر الشرطة ولكن أبو إسكندر رفض الاتصال ونزل من السطح وأخذ بساط (جودلية) وجلس قرب اللص بعد أن جمع الأغراض وبدأ ينده الحرامي وهنا فتح الحرامي عينيه ليرى رجلاً جالساً بقربه وأولاده واقفين ينظرون اليه، فسأله أبو إسكندر من أنت؟ فقال عمي اسمي (مهاوي) ولماذا جئت الى بيتنا وفاتح باب المطبخ فقال الحرامي (مهاوي) عمي تعطيني الأمان وما تخبر الشرطة فقال له أبو إسكندر لك الأمان، فقال مهاوي عمي دخلت بيتكم لأسرقكم ووجدت بالثلاجة بطل الويسكي والمأكولات بالثلاجة ورأيت صورة العذراء معلقة على الحائط فقلت في نفسي هؤلاء الناس طيبين ولا يستحقون أن أسرقهم وإنما أشرب الويسكي في حديقتهم وأروح ولم أدري أن النعاس قد غلبني ونمت حتى الصباح وها أنا أمامك تقرر ما تشاء.

ضحك أبو إسكندر وعلى مهاوي مشفقاً، وعرف أن مهاوي لم يأخذ أي حاجة من البيت، سأله أبو إسكندر ما هو عملك فقال مهاوي عاطل معظم الوقت وأشتغل أحياناً في مسطر العمال وليس لي عائلة سوى كوخ صغير خارج المدينة وكم أتحسر عندما أرى الناس يشربون في البارات والنوادي وأنا لا أملك شيئاً نادى أبو إسكندر على زوجته لتجلب صينية الإفطار فجاءت أم إسكندر بالفطور مستغربةً من زوجها وتصرفه مع لص كما وشارك مهاوي الفطور.

وكل مرة يقوم مهاوي ويقبل يد أبو إسكندر لأنه عفي عنه وأكرمه، وطلب من مهاوي أن يأتي الى مكتبه عصراً ليشتغل چايچي عنده ويرجع مهاوي ليقبل يد أبو إسكندر ويقول له عمي (لو غيركم چان شبعوني گتل قبل ما يسلموني للشرطة).

ذهبت أيامٌ وسنين وأنا أتواجد كثيراً في مكتب أبو إسكندر وأجد مهاوي يقدم لنا الشاي مبتسماً وبراتب شهري ويقول لي إستاذ أنور دير بالك على أبو إسكندر لأن هذا الرجل ذهب مصفّى، فأقول له طالما أصبحت أنت أميناً ومحل ثقة أبو إسكندر فهو بخير.

كم أنتم طيبون وكرماء يا أهل البصرة حتى مع الذين يؤذونكم تغفرون لهم لأن الخير مجبول في نفوسكم قبل أرضكم ومياهكم وخيراتكم التي غطت الجميع.

رحمك الله يا أبا إسكندر فقد تغرب أولادك في شتى بقاع الأرض وتغربت معهم الطيبة والأخلاق وحب الآخر وأجدبت أرض العراق من بعدكم٠

ولا أملك لأبو اسكندر سوى أن أذكره بهذه الأبيات القليلة:

الناس للناس مادام الوفاء بهم             

والعسر واليسر أوقات وساعاتُ

وأكرم الناس ما بين الورى رجلٌ             

تُقضى على يده للناس حاجاتُ

قد مات قومٌ وما ماتت فضائلهم         

وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ






السبت ٢ رجــب ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٣ / كانون الثاني / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب شبكة ذي قار نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة