شبكة ذي قار
عـاجـل










 

التاريخ لا يرحم الحكام المتغطرسين إذا ما ارتكبوا أخطاء استراتيجية فادحة

أ.د. مؤيد المحمودي

 

 

من المعروف عن روسيا أنها واحدة من أكثر دول العالم التي يصعب احتلالها، والسبب كما كشفت عنه المجلة العسكرية الأمريكية "نحن الأقوياء" لا يرتبط فقط بالظروف المناخية القاسية ومساحتها الشاسعة وشراسة جيشها. بل يتعدى ذلك أيضا الى حجم التضحية المستعد تقديمها الشعب الروسي من أجل وطنه، بحيث أنهم لا يترددون إذا اقتضت الأمور عن تدمير بلدهم بأنفسهم، بدلا من تسليمه للمحتل.

ويبدو أن هذه الحقائق قد غابت عن نابليون بونابرت الذي أصيب بالغرور بعد احتلاله العديد من الدول قبل أكثر من مئتي عام، فقرر أن يجرب حظه العاثر باجتياح روسيا في 12 تموز عام 1812 مستخدما جيشا كبيرا قوامه 600 ألف رجل. ورغم التضحيات البشرية الهائلة التي قدمها الروس، إلا أن نابليون لم يتمكن من احتلال هذه البلاد. واضطر الجيش الفرنسي إلى التراجع بعد أن لقي حوالي 400 ألف من جنوده حتفهم، الغالبية منهم سقطوا بسبب البرد والجوع والمرض. ولقد ساهمت تلك الحملة الفاشلة على روسيا كثيرا بعد ذلك في انهيار الإمبراطورية الفرنسية التي سبق وأن سادت معظم القارة الأوروبية. وصار هذا الغزو الفرنسي لروسيا نقطة تحول كبيرة في مستقبل تلك الامبراطورية، التي لم يستطع جيشها النهوض ثانية. فانتابه حالة شديدة من الضعف بحيث سهل على قوات الحلفاء آنذاك أن تهزمه في سنة 1813 بمعركة الأمم. وبعدها بعام تقريبا اجتاحت تلك القوات فرنسا ودخلت العاصمة باريس، التي أجبرت نابليون على التنازل عن العرش، ومن ثم نفيه الى جزيرة نائية.      

والأمر نفسه تكرر بعد أكثر من مئة عام إبان الحرب العالمية الثانية، عندما تم غزو روسيا من قبل النازيون الألمان بقيادة أدولف هتلر. وهي الحرب التي كانت الأكثر دموية في تاريخ الدولة الروسية لما شهدته من معارك شرسة بين الجيشين، ولعل معركة ستالينغراد خير مثال على ذلك. ولكن بالمقابل فان عدد الالمان الذين قتلوا في تلك الجبهة أكبر بكثير من العدد الذين قُتلوا في جميع حملات الحرب العالمية الثانية الأخرى معًا. وقد لعبت التضاريس الصعبة والأحوال الجوية الشديدة البرودة بالإضافة الى استبسال القوات المدافعة دورا كبيرا في حصول هذه الخسائر الكبيرة بصفوف الجيش الألماني. وعليه اضطر هذا الجيش المهزوم الى الانسحاب من روسيا تاركا وراؤه العديد من جنوده في الأسر بالإضافة الى الخسائر الكبيرة في المعدات والأرواح. وتحول هذا الانكسار الألماني لاجتياح روسيا الى بداية النهاية لدولة الرايخ بقيادة هتلر التي اجتاحت معظم الدول الأوربية. فقد تغير مجرى الأحداث بعد هذه الهزيمة القاسية، التي توجت باجتياح قوات الحلفاء الأراضي الألمانية في العام 1945 لتنهي بذلك الحرب العالمية الثانية التي صاحبها انتحار أدولف هتلر. والمأخذ الكبير الذي يسجل على هذا القائد الألماني المتهور أنه كرر نفس الخطأ الاستراتيجي الذي سبقه اليه نابليون بونابرت بالمجازفة في محاولة اجتياح روسيا ودفع الثمن باهظا ما جعل تحقيق أحلامه المجنونة بالسيطرة على القارة العجوز في مهب الريح.

الحقد الفارسي على العرب قديم ومتأصل، تعود جذوره الى فترة دخول الفرس الى الاسلام التي اعتبروها عن مضض تحولا عن دينهم المجوسي الكافر ونهاية غير مرغوب فيها للإمبراطورية الفارسية التي كانت سائدة في بلادهم قبل الاسلام. وهذا الحقد الدفين كان يقابله دائما حالة من التسامح والرغبة في التعايش من جيرانهم العرب والذي فسر خطأ من قبلهم على أنه حالة ضعف وعدم القدرة على مواجهة التحدي الفارسي. والغطرسة الفارسية الفارغة كانت سببا رئيسيا في نشوب حرب القادسية الأولى بين الفرس تحت حكم كسرى والعرب في زمن الخليفة عمر ابن الخطاب. اذ كان العراق وقتها محتلا من قبل دولة الفرس فأرسل الخليفة عمر القائد سعد ابن أبي وقاص للتفاوض مع قائد الفرس في العراق رستم يزدجرد. وقام سعد بدوره في بعث عدة رسل الى القائد الفارسي يدعوه فيها الى الإسلام بأسلوب مهذب يوضح خصاله الحميدة كالرحمة والعدل، والانصاف بين الناس. لكن رستم اعتبر حُسن الكلام المهذب للوفود المرسلة اليه دليل على ضعف العرب المسلمين، فعاملهم معاملة دنيئة وأخذ ينعتهم بأنهم من أشقى الأمم وأقلها عددا وأسوئها حالا. ولما رفض الخيار الآخر بدفع الجزية كان لا بد من قتاله ودحره رغم استنجاده بالفيلة في معركة القادسية الأولى.

بعد حوالي 1400 عاما من تلك الواقعة سقط خميني في نفس الخطأ الاستراتيجي الذي سبقه اليه الملك المجوسي كسرى، عندما غلب نزعته الفارسية المتعجرفة استخفافا بكرم الضيافة والرعاية الانسانية التي أولاها العراق له. فقد جاء الى بلاد الرافدين في السبعينيات ذليلا وطالبا للحماية من حكم الشاه الذي كان يتربص للإيقاع به بسبب معارضته له آنذاك. ثم بقي في هذا البلد فترة طويلة معززا مكرما لكن العراق اضطر بسبب اتفاقية الجزائر مع الشاه الى الطلب منه اختيار دولة أخرى للجوء اليها، وعلى أثرها ذهب خميني الى فرنسا. وعندما أوشك نظام الشاه على السقوط بعثت القيادة العراقية أحد الأشخاص الى خميني ليستفسر منه عن خططه اتجاه العراق بعد زوال حكم الشاه وعودته الى طهران. فأجابه بكل صلافة ونكران للجميل أن الأولوية بعد نجاح الثورة الإسلامية ستكون إسقاط نظام البعث في العراق. وقد أكد أفكاره المسمومة هذه بعد استلام السلطة في إيران، عندما رد بعبارة "السّلام على مَن اتبع الهدى" كجواب استفزازي غير لائق على رسالة التهنئة التي بعثتها له القيادة العراقية آنذاك بمناسبة نجاح الثورة الايرانية. وهذه العبارة عادة تستعمل مع المشركين، أو ممَن لم يهتدوا الى الاسلام بعد. وواصل خميني إطلاق نواياه المبيتة ضد العراق عندما ذكر في خطابه من منبر حسينية جماران، في يناير 1980 " إذا لم تتوافر فرصة إسقاط النظام في بغداد من الداخل، يتعين في هذه الحالة العمل على إزاحته من الخارج". ولدعم هذا التوجه من خميني كانت الإذاعة العربية الموجهة من إيران تبث حملات إعلامية ضد العراق تحث المواطنين فيها على القيام بالتمرد المسلح ضد الدولة، وقتل المسؤولين العراقيين. وقد ترجمت القوات الايرانية أهداف خميني التوسعية الى واقع ملموس عندما احتلت المناطق الحدودية العراقية في زين القوس وسيف سعد في نيسان وقصفت بالمدفعية الثقيلة مناطق مندلي وخانقين وزرباطية في تموز من العام 1980. وبالتالي فان حرب خميني على العراق لم تكن مشكلة حدود بين البلدين كما يحاول أن يصورها البعض، بل هي حرب انتقامية مبيتة سار أراد فيها خميني تصفية حسابات مع النظام العروبي في العراق، مدعوما بدوافع من الحقد الفارسي على العرب بشكل عام وعلى العراق بشكل خاص. ولأن خميني فعلا دجال ومشكوك بعمالته للمخابرات الأمريكية التي ساعدته في تولي الحكم، ادعى لنفسه فقها لا يستحقه وطلب من السذج الأخرين أن يتبعوه تحت مظلة ولاية الفقيه الدخيلة على الدين الاسلامي. كما صدع رؤوسنا في ذلك الوقت بتصريحات زائفة من أن الطريق نحو فلسطين يمر تارة عبر بغداد وتارة أخرى يدعي بانه يمر عبر كربلاء. وبالرغم من التضحيات الجسيمة فان الحرب مع إيران في الثمينينات أثبتت أن العراق لا يقل منعة من روسيا في التصدي للاحتلال الأجنبي، ما جعل خميني يتجرع السم مرغما عندما قرر الرضوخ لقرار وقف إطلاق النار بعد أن خسر الحرب وفشل في نشر التمزق الطائفي بين العراقيين تحت ما يسمى تصدير الثورة.

نتنياهو يمارس الدجل في السياسة مثلما كان خميني يمارس الدجل باسم الدين. ففي خلال 13 عاما من فترة حكمه كرئيس للوزراء في اسرائيل حاول أن يقنع العالم بأن الفلسطينيين شعب بلا أرض وبالتالي فهم لا يستحقون دولة مستقلة تجمعهم معا.  من جهة أخرى ادعى بأنه حاول فتح حوار مع الفلسطينيين حول مستقبلهم لا كنه لم يجد فيهم من يستحق مشاركته في هذا الحوار علما انه عمد على زج معظم القادة والمثقفين الفلسطينيين في السجون وفرض عليهم أحكاما طويلة بتهم باطلة كي يسكت الأصوات التي تطالب بحل عادل للقضية الفلسطينية. أما المقاومة الفلسطينية من جهتها فقد سئمت هذا التجاهل وحالة الانسداد التي وصلت اليها هذه القضية العادلة، كما انها تعرف جيدا مدى تعنت العدو الصهيوني وعدم استعداده لتلبية مطالب الفلسطينيين الا إذا أجبر على ذلك. لذا بدأت منذ زمن طويل التخطيط لتنفيذ معركة طوفان الأقصى التي تتضمن مهاجمة منطقة غلاف غزة المحصنة بجدار محكم واختراق القوة العسكرية التي تدافع عن تلك المنطقة. وكان تنفيذ تلك الخطة في 7 أكتوبر أشبه بالمعجزة التي صاحبها جلب عدد من الرهائن وخاصة العسكريين الى غزة. لكن ردة فعل نتنياهو على عملية طوفان الأقصى كانت متشنجة وغير متوازنة مما أوقعه في مطب استراتيجي كبير ظهرت ملامحه على النحو التالي:

أولا: لجأ الى استخدام الهجوم البري في حربه على غزة بالرغم من تحذيرات الأمريكان له بتجنب مثل هذه الخطوة المكلفة بشريا على الجيش الاسرائيلي. لا سيما وأنهم سبق وأن خاضوا تجربة عسكرية استنزفت جنودهم عندما دخلوا مدنا صعبة الاجتياح في العراق مثل الفلوجة.

ثانيا: لم يتعظ من التجربة البراغماتية لشارون اليميني المتطرف، الذي لجأ في العام 2005 الى فك الارتباط مع غزة وتفكيك المستعمرات الاسرائيلية فيها نتيجة للخسائر الكبيرة التي مني بها الجيش الاسرائيلي في جنوده أمام المقاومة الفلسطينية. علما أن المقاومة في ذلك الوقت لم تكن تمتلك شبكة أنفاق طويلة ومعقدة ولا الخبرة الكافية في تصنيع سلاحها ذاتيا بما فيها الصواريخ التي يصل مداها الى تل أبيب.

ثالثا: استخفافه بعقلية الفلسطيني المقاتل الذي نجح في التخطيط لعملية ناجحة أدت الى اجتياح غلاف غزة المنيع بإمكانيات متواضعة، ما جعله لا يتوقع قدرة هذا المقاتل على التخطيط لخطة دفاعية متكاملة ضد الاجتياح الاسرائيلي لغزة.

 بعد مرور 114 يوم على حرب غزة، لم يحقق نتنياهو أي من الأهداف التي وضعها لهذه الحرب، سوى تدمير ما يقارب 40 % من المباني في القطاع وقتل أكثر من 26 ألف فلسطيني بريء وتهجير السكان من منازلهم وتحطيم معظم المستشفيات. بالمقابل فان الجيش الاسرائيلي قام بسحب لواءين من أكثر المناطق سخونة وهي خان يونس ولم يبقى من فرقه الستة التي كانت موجودة بداية الحرب سوى 3 فرق ناقص. وهذا ليس الانسحاب العسكري الأول الذي يحصل في غزة مؤخرا، لكن المعروف عن هذه الانسحابات من المعركة أنها في العادة لا تتم الا إذا فقدت الوحدة العسكرية أكثر من 30 % من قدراتها. ما يؤشر على أن الجيش الاسرائيلي قد انزلق في مستنقع خانيونس الذي أخذ يستنزفه تدريجيا. كما أن الملفت للانتباه في الانسحابات التي تمت في شمال غزة هو عودة الادارة المدنية التابعة للمقاومة اليها. وبسبب هذا الصمود الطويل للمقاومة نجحت عملية طوفان الأقصى في جعل فكرة قيام الدولة الفلسطينية واقعا ملموسا لا يمكن انكاره. أما نتنياهو المتعجرف فان سلسلة محاكمات تنتظره تحت طائلة الفساد وسوء الادارة بعد توقف الحرب في غزة والتي قد تنتهي به الى مزبلة التأريخ عاجلا أم أجلا.






الثلاثاء ١٩ رجــب ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣٠ / كانون الثاني / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة