شبكة ذي قار
عـاجـل










 

المعارك المصيرية للدفاع عن كرامة الوطن تستحق الأثمان الباهظة من التضحيات

أ.د. مؤيد المحمودي

 

عندما يكون مصير الوطن مهدد تسقط جدوى حساب مقدار التضحيات التي تقدم لدرأ الخطر عنه.  اذ تصبح الحياة بلا معنى إذا ما نشأت في ظل الذل والهوان تحت وطأة الاحتلال والقوى المتسلطة على مقدرات الشعب. فتضطر عند اذن قوى التحرر للجوء الى وسائل عسكرية غير تقليدية لمواجهة هذا التحدي الكبير بكل جرأة وحسم، بغض النظر عن صعوبة المواجهة أو انعدام التكافؤ مع القوة المضادة. بدلا من اتباع مسار المهادنة المشكوك في فعاليته لأنه يرضى ببقاء الوضع السياسي على ما هو عليه بانتظار حصول معجزة تغير الأمور نحو الأحسن.

تعتبر الحرب العراقية الايرانية أطول حرب في العصر الحديث والتي امتدت لمدة 8 سنوات من عام 1980 الى 1988. وكانت بالنسبة للعراق هي حرب دفاعية ضد محاولات إيران التوسع في أراضيه عن طريق تصدير الثورة الخمينية الطائفية. ولم يكن العراق وحده مقصودا بهذه الهجمة الصفراء، بل ان اختراق العراق كان يمثل البوابة التي تطمح حكومة الملالي من خلالها بسط نفوذها على دول عربية أخرى من أجل اعادة مجد الامبراطورية الفارسية القديمة. لكن العراق نجح في ايقاف الزحف الايراني بعد أن لجأ الى تعبأة أكبر عدد ممكن من قوى الشعب لمواجهة التغلب العددي الكبير التي كانت إيران تضخه في المعارك. وعلى أثرها دفع العراق بتضحيات جسيمة تقدر بما يقارب 340 ألف قتيل عسكري وخسائر أخرى غير منظورة في المدنيين والجوانب الاقتصادية من أجل دفع الخطر عن البوابة الشرقية للوطن العربي. وقد اتضحت أهمية التحدي الكبير الذي واجهه العراق في تلك الواقعة، عندما انهارت البوابة الشرقية بعد الغزو الأمريكي سنة 2003 مما سهل على إيران استغلال هذه الفجوة للتمدد في أربعة دول عربية. ان القلة في وقتها أدركت أهمية البعد القومي لتلك المعركة المصيرية بين العراق وإيران، بل أن الغالبية كانت تنظر الى تلك الحرب على أنها مجرد خلافات حدودية عبثية كان بالإمكان تلافيها عن طريق المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة. متناسيين ان الخلافات الحدودية بين العراق وإيران كانت موجودة أصلا منذ عهد الشاه لكنها لم تتطور في حينها الى حرب واسعة بين الطرفين مثلما حصل في زمن خميني. وذلك لأن الشاه لم يكن يمتلك نفس الطموحات التوسعية على جيرانه التي يمتلكها الخميني. وهذه الحقيقة عن طموحات حكومة الملالي الخبيثة بدأت تتكشف مؤخرا للكثير من العرب بصورة متأخرة بعد أن وقع الفأس في الرأس إثر فقدان الدور الفعال للعراق. فأصبحت إيران الأن في مأمن لتتدخل بصورة مكشوفة في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية.

حرب التحرير الجزائرية بدأت عام 1954 ودامت 7 سنوات وهي تمثل أول حرب شعبية انطلقت في الوطن العربي والتي شارك فيها جميع طبقات الشعب رجالا ونساء من مثقفين وعمال وفلاحين ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم للجزائر. مارست فرنسا عملية ممنهجة لفرنسة الجزائر عن طريق محاربة الهوية العربية والطابع الاسلامي لها والاستيلاء على أرشيفها الوطني.  كما سنت قوانين الفصل العنصري التي تجعل الجزائريين مجرد عبيد لدى المستعمرين الفرنسيين بعدما سلبت منهم أراضيهم. ولم تكتفي فرنسا بذلك بل عمدت على استخدام الجزائريين كحقل تجارب في سلسلة من التجارب النووية التي قدرت ب 17 تجربة أجريت تحت وفوق الصحراء الجزائرية في الفترة بين من عام 1960 الى 1966. كما قامت قوات الاحتلال الفرنسية بقتل بعض قادة المقاومة الجزائرية وارسال جماجمهم للاحتفاظ بها في متحف الانسان في العاصمة باريس. ناهيك عن أكبر وأبشع مجزرة ارتكبتها فرنسا في يوم واحد، حيث خرج مئات الآلاف من الجزائريين، في 8 أيار 1945، للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية، ولمطالبة فرنسا بالوفاء بوعدها بمنحهم الاستقلال، الا أن قوات الاستعمار استخدمت الرصاص الحي وقتلت 45 ألف من المتظاهرين العزل في تلك الحادثة. وتكررت هذه المجزرة عام 1961 عندما تظاهر حوالي 12 ألف جزائري في باريس مطالبين مرة أخرى باستقلال الجزائر فهاجمتهم القوات الفرنسية بالسلاح وقتلت الكثير منهم ورمت جثثهم في نهر السين. ورغم العديد من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها المستعمر الفرنسي وأدت الى وفاة ما يقارب المليون ونصف المليون جزائري، نجحت قوات التحرير الشعبية على اجبار الحكومة الفرنسية لمنح الاستقلال للجزائر في الخامس من تموز عام 1962 بعد احتلال دام 124 سنة. 

    بدأت الحرب الفيتنامية في الستينيات على شكل مناوشات عسكرية بين جزئيها الجنوبي المدعوم امريكيا والشمالي المدعوم من قبل الاتحاد السوفييتي السابق والصين. وكانت تمثل امتدادا للحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب. الا أن العام 1967 شهد تطورا جديدا في هذه الحرب عندما رمت أمريكا بثقلها العسكري مباشرة فيها فتحولت الى حرب غير متكافئة بين القدرات العسكرية البسيطة للفيتناميين وبين الامكانات العسكرية المتطورة للجيش الأمريكي الذي لجأ الى استخدام القاصفات الجوية الثقيلة في تلك الحرب.  مما اضطر القوات الفيتنامية الجنوبية في اللجوء الى استخدام تكتيكات حربية غير نظامية مستعينين بالغابات والأحراش والجبال كموانع تصدهم عن تلك الهجمات الأمريكية المدمرة. كما نجحوا في ادخال نظام الأنفاق التي امتدت لحوالي 250 كم واستخدمت كملاجئ حماية ضد القصف الجوي كما كانت تستعمل ككمائن لشن هجمات خاطفة على قوات المشاة الأمريكية. وهذه الوسائل في التخفي ومفاجئة قوات العدو في الوقت المناسب ساعدت الفيتناميين كثيرا على تعويض الفرق الشاسع في ميزان القوى مع الجيش الأمريكي. ومكنتهم في الأخير بالحاق هزيمة مذلة بهذه القوة العسكرية الجبارة في العام 1975 ولكن بالمقابل فقد الفيتناميون حوالي 2 مليون قتيل في معارك التحرير.

من أهم معارك الحرب العالمية الثانية هي معركة ستالينكراد بين قوات هتلر الغازية والقوات الروسية المدافعة عن تلك المدينة الحيوية. كان هتلر مزهوا بالانتصارات التي حققها في اوروبا خاصة بعد اجتياحه توا لفرنسا ولذا وضع نصب عينيه الاستيلاء على مدينة ستالينكراد كواحدة من أولوياته في الحملة العسكرية التي شنها على روسيا عام 1942. وكانت عدة أسباب جعلته يهتم بشكل خاص في اجتياح هذه المدينة الروسية.  منها لكونها أهم مركز تصنيع عسكري في الاتحاد السوفييتي وكذلك ما يتعلق برمزيتها لأنها تحمل اسم ستالين زعيم الاتحاد السوفييتي وسقوطها في يده سيوجه ضربة معنوية كبيرة جدا للسوفيات. بالإضافة الى أن مدينة ستالينكراد تقع في الجزء الغربي من الاتحاد السوفييتي المستهدف ضمن مخططات ألمانيا النازية لغرض تحويله الى مستوطنات للألمان. لقد دامت معركة ستالينكراد حوالي 6 أشهر من تموز 1942 ولغاية شباط 1943 وبلغت خسائر الروس فيها نحو 1,13 مليون لكن نتيجة المعركة حسمت لصالحهم. اذ منيت القوات الألمانية الغازية بشر هزيمة واعتبرت هذه المعركة بداية النهاية لقوات هتلر النازية.

عملية طوفان الأقصى تعتبر أهم نقطة تحول في القضية الفلسطينية خلال ال 75 سنة من الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية. وقد سببت الكثير من الوجع لإسرائيل ما جعلت نتنياهو بأن يصفها بمعركة الوجود الثانية بعد حرب اسرائيل الأولى في عام 1948.  وما يميز هذه العملية أنها أنجزت بتخطيط علمي مدروس من قبل المقاومة الفلسطينية فاق كل التوقعات لاختراق وسائل الحماية المعقدة التي كانت تحيط بمنطقة أطراف غزة والمحصنة بالقوة العسكرية الكبيرة الموجودة في داخلها. حيث نجح العقل الفلسطيني في التغلب على أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية المعروفة بقدراتها الفائقة، عن طريق استخدام أجهزة حاسوب مستهلكة تم شراؤها من الإسرائيليين أنفسهم. وشملت هذه العملية أيضا أسر عدد من الإسرائيليين وخاصة العسكريين البعض منهم برتب عالية والاحتفاظ بهم في شبكة أنفاق معقدة تحت الأرض يعتقد أنها تمتد الى حوالي 750 كم.  وهذا التخطيط الناجح في الهجوم صاحبه أيضا تخطيط ناجح في العملية الدفاعية للمقاومة ضد الهجوم البري والجوي الإسرائيلي الذي مازال مستمرا منذ 6 شهور. وقد تبينت ملامح هذا النجاح في صمود المقاومة طوال هذه الفترة الطويلة واستمرارها في استنزاف العدو من خلال حرب عصابات لم يألفها سابقا.

اسرائيل من ناحيتها لا زالت تعاني من صدمة كبيرة بسبب عملية 7 اكتوبر وكلما وضعت هدفا لتعويض تلك الكارثة التي حلت بها، تأتي النتائج مخيبة لأمالها. وقد انعكس هذا الفشل على الشارع الاسرائيلي الذي بدأ يفقد الثقة تدريجيا في حكومة نتانياهو فعصفت بها الخلافات من كل جانب وباتت مهددة بالسقوط أكثر من أي وقت مضى. وبالرغم من تعاظم الأصوات الدولية والمحلية التي تدعو الى وقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات جدية لإطلاق الرهائن الا أن تعنت نتنياهو وعنجيته الفارغة تقف حائلا أمام نجاح المفاوضات التي يمكن أن تفضي الى نهاية حكمه السياسي. لكنه في النهاية لا يملك خيارا أخر وسوف يتجرع السم مثلما تجرعه خميني من قبله بعد فترة تعنت ومراوغة وسيضطر الى الرضوخ لشروط المقاومة لإنهاء هذه الحرب الظالمة. للأسف بعض الأصوات المغردة خارج السرب والتي لم تقدم شيئا يذكر في خدمة القضية الفلسطينية، ما برحت تشكك في جدوى عملية طوفان الأقصى. بل تحملها السبب في سقوط الضحايا من المدنيين الفلسطينيين الذي تجاوز عددهم ال 32 ألفا والأبنية العديدة التي تهدمت في غزة. وهذا النقد الظالم الموجه نحو الخطوة الجريئة التي قامت بها المقاومة الفلسطينية.، يتجاهل المكاسب الايجابية التي حققتها تلك العملية والمتمثلة في:

 1.  اعادة القضية الفلسطينية الى الواجهة العالمية بعد أن عمد نتنياهو وحكومته اليمينية على ازالتها من الخارطة السياسية

.  جعل فكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة أكثر قبولا لدى المجتمع الدولي.2

3.  اجبار اسرائيل على التفاوض لإطلاق سراح أكبر عدد ممكن من المناضلين الفلسطينيين القابعين في السجون الاسرائيلية تحت ظروف قاسية والبعض منهم صدرت بحقه أحكاما باطلة لمدد طويلة.

4.انهاء اسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر.

5. وضع حد للحصار الجائر الذي تفرضه اسرائيل على غزة لمدة 17 سنة.

إن المعارك المصيرية في الغالب تحسمها توفر الارادة الكافية للصمود في وجه القوى المعتدية بغض النظر عن وجود عنصر التكافؤ في ميزان القوى، لكن مثل هذا التحدي الكبير قد يتطلب ثمنا غاليا من التضحيات.

 






الاربعاء ٢٤ رمضــان ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٣ / نيســان / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة