شبكة ذي قار
عـاجـل










بين يدي الآن نص شعري لشاعر عراقي عُرف بتميزه الشعري ، ومواقفه الوطنية العالية ، ذلك هو الشاعر المبدع رعد بندر الذي ظلَّ وفياً لأرضه وشعبه وقيمه العليا.


لقد تميز الشاعر رعد بندر بعذوبة صوته، وانتشاره الواسع في الساحتين العراقية والعربية ، وقد عرف بمحاولاته في استقراء ذاته وذوات الآخرين، مستخدما تلك المزامير المخبوءة بين طيات القلب ، كي تطلق أنغامها ،ليمسك بجوهر الألق الكامن فيها، ولهذا فقد كان الشروع بكتابة من هذا النوع ، يعد بالنسبة له ، محاولة للتخفيف عن كاهل كل من كان يئن تحت وطأة الإجابة عن سؤال مؤجل ، يمنحه الفرصة في أن يدلف في نهاية المطاف ، داخل تلك فضاءات تطبع سيمياء الشعر، ليتلمس تلك العناقيد المدلاة ، والمثقلة بالؤلؤ والياقوت والمرجان ، علّه يشعر بشيء من السعادة المؤقتة ، ورغم أن النص الذي بين أيدينا ، يحمل من الشجن والحزن الكثير الكثير ، إلاّ أنه رغم ذلك يحاول إسماعنا شيئا من عزفه الداخلي الذي كان ينبثق من محراب يسكنه ذلك الجسد المعنى.


سلامُ أيها الوطنُ ........... سلام كلّهُ شجنُ
سلامٌ أيها الدامي ........... وما لدمائه ثمنُ
سلامٌ أيها المقتول............. لاقبرٌ ولاكفنُ
سلامٌ ياعزيزا ذل........... ذلَّ لذله الزمن
سلامٌ من غريب الدار.. عاف عيونه الوسنُ
يقيل عثار غربته...... بما جادت به المحنُ
ويبصرُ، كلّهُ عينٌ......... ويسمعُ كلّهُ أذُنُ
بأن خيولك العرباءَ...... هدَّل سجها الوهنُ
وقد صارت كلابُ الليل.. خيلاً فوقها رسَنُ
سلامٌ أيها الوطنُ


***************
 

إن مفردات مثل الشجن والدماء والغربة والمحن والوطن المقتول والخيول التي سرجُها الوهن ، كلها حاضرة داخل مخيلة مستلبة ، ولهذا كانت الأسئلة تنمو نموا تلقائيا لتفضي إلى أسئلة أخرى ، قد يجيب عنها المدى ، أو ذلك الحزن الذي لا يفجر إلاّ النواح المكتوم ، لأنه ينسرب في الأخاديد والمسامات ، لـُيدخل الفراغ َ في الغياب ، ولهذا أيضا يرى القاريء أن النص منفتحٌ على عوالم جديدة مفرداتها الألم والموت والغربة ، وقد ظل الشاعرفيها مقيما مابين أسئلته المدماة، وحراب الغزاة التي عصفت بأرجاء روحه ، ولهذا رأيناه يسكن تجليات الكلام ، ويسافر بين طيات آلامه الذهبية وهو يبث لنا حزنه وعذابه بسبب احتلال بلاده.


سلام أيها الحاني......... وليس لغصتي مننُ
وياجرحاً أكابده............ على بلواهُ مؤتمنُ
وياشجرا من الأوجاع... عمري فوقه غصُنُ
أُعيذك من معاتبتي ..... عتابك مركبٌ خشنُ
تظنُّ بأن قافيتي ..... لها في الصمت مرتكنُ
وإني غير جمر الشعر.... لي جمرٌ ومُحتضنُ
وتعلم أنني الأعتى..... رياحا حين أمتـــــــحنُ
وأني الملتظي ضرما....... وأني القائلُ اللسنُ
وأني للعراق فتىً ........يُصانُ بريقُهُ اللبـــــنُ
سلامٌ أيها الحاني........ وإن كثرت بي الظننُ
ومثلي لايُظنُ به........ وإن كثرت بي الظننُ
نذرتُ دمي فقوَّسني........ رماةٌ النبل واتّزنوا
فمات بشعري المحتل........ والمأفون والنتنُ
ولم أنحب على الأطلال.... غيري دمعه هتنُ
متى بالدمع محض الدمع..... عاد لأهله وطن
**************************************


هكذا يصبح القتيل إذن صيادا ماهرا ، يطلق الومضات نحو يمامات المعنى اللائي يحلقن في الأعالي ، ليمطرهن من بعيد برحيق رؤاه الباشقة .


إن كل هذا الجهاد المضني الذي كانت قد صنعته شهوة التجلي في استخراج كل تلك الهمهمات من صدره الجريح الممتليء بالأسى يكشف لنا حجم ذلك التوهح في البوح المتراكم والمخزون والذي صنعته عذابات الاحتلال ، ثم إن هذا الدوران في المعاني ، وارتدادها على بعضها في كشف الغصة التي اشتعلت في صدر الشاعر ، وهو يرد على البعض من المتخرصين ممن يحاولون التشكيك بدمعته الساخنة ، وبجرحه النازف ، محاورا وطنه الذي يعرف صدق محبته ، ونبل مبادئه ، ورسوخ انتمائه ، ليجيء النص الشعري ، محملا بالوميض الذي يشبه البرق المرسل من الأعالي، ذلك أنه كان ينهل بريق صوره من تلك القناديل التي ظلت ولسنوات طويلة تضيء مملكة كان بناها الشاعر المبدع رعد بندر لنفسه عبر سنوات النضال والابداع ، ولهذا فقد بقي ملتصقا بنفسه ، ومنبثقا من أناه .


سلام يستجير به ...........غريب سرهُ العلنُ
تفنن طاعنوه به............ بما ذموا وما لعنوا
وهم أدرى وقد طعنوهُ..... أية ُ صخرة طعنوا
وهم أدرى بشسع النعل...... من نعليه ماوزنوا
وقد كانوا زرازيرا............. لها أكتافها فننُ
وسائلة ترى ضحكي.... ويُدهشُ وجهها الغضنُ
أقول وقد بُهتُّ بها...........دعي الموتى بما دُفنوا
متى ماشئت أنبشهم............ فيفضح نفسه العفنُ
سلام أيها الوطن


بهذه اللوعة ، وبهذا الألم يسبر الشاعر المبدع رعد بندر أغوار معاناته ، بحواس صوفية ، تبعث على الذهول، وهو يحاصرنا بهائل من الإيحاءات التي تختزنها المعاني المضمرة ، ذلك أنه يعمل بصوره المركبة على كسر كل تلك المهيمنات ، ليوصلنا إلى المعنى الذي يرتجيه ، وإن هذا يعني فيما يعنيه ، ،أن الشاعر يحاول أن ينسل من خلال الإضاءات التي تعكسها مرايا الألم ، ليسمعنا شيئا من ذلك الرنين الداخلي ، وهو بكل ذلك لايتكيء على عصا الغواية لأنه لم يعد ممهورا بصلصال الصمت ، بل خرج من تردده في الرد على الآخرين ، ليعري وجوههم ، ويصرخ بوجوههم ، وأن يريهم أنهم أصغر من أن يطفئوا صوته المسكون بهديل يمامات العراق .


أجلّك أن تكون دماك....... ملهاة لمن ذعنوا
وإن يستمكن الأقزامُ...... فوق ثراك والدرنُ
فقاعات مجوفةٌ .............تطير بقدر ما تهنُ
لهم أطماعهم أمل.ٌ ............لهم محتلهم وثنُ
أترجو من سماسرة........ خلاصا أيها الفطنُ
وما في صوتهم صوتٌ..... ولا في أفقهم مزن
وكيف لفاقد يعطي.......... وكيف لريشة تزنُ
فصبرا طائر العنقاء...... وعدك في غد يحن
عراقٌ أنت لايفنى........ ومن سفكوا دماه فنوا
ستبقى ندَّ هذا الموت ........مهما بالغ الضعنُ
وحراً ياسجينا فيه ...........سجانوه قد سُجنوا
سلام أيها الوطنُ


***********


نعم يا أبا معتز ، لقد سُجن سجانو العراق ، وقد دفنوا بخزيهم وعارهم ، وإن صوتك الزاخر بالقدرة على كشف وفضح صورهم السوداء ، نابع من قدرتك على استثمار الحاضنة المعرفية والخزين الباطني اللذين تمتلكهما، ومن حبك للعراق ، وتشبثك بكل ما فيه من القيم العالية والمباديء السامية ، فإذا ماوخزت قلبك شوكة ما ، خفقت خلجاتك ، ودقت سريعا نبضات قلبك لتسمعنا أصفى وأعذب الصور ، وأنقى وأرق المعاني ، ليتلقاها الواحد منا ، بكل حواسه، متأملا أبلغ مافيها من تجليات ، يذكرنا بذلك الثراء اللغوي والمعرفي الذي تمتلكه وأنت تتجول بنا متسللا ً بين طيات ألمنا وعذاباتنا .


سلامٌ ياكبير الهمِّ...............بعضُ الهمِّ يُختزنُ
أتعجبُ من قيود يديك..........وهي لثائر ٍ سُننُ
وأنت الصخرةُ اليخشى..... لظاها الراكدُ الأسنُ
ويدري أين مقتلهم.......... فيطعن رمحُكَ اللدنُ
عليك تحزّبَ البلهاءُ............... ظناً أنهم أمِنوا
وظناًّ أن لحمَ الأسد........... في أفواههم مرِنُ
وأن ترضى بداجية ....... تطيل ظلامها الفِتَنُ
ضحكتَ فخابَ موتور..... عليكَ وريع مضغِنُ
ورُبَّ مدجج ٍ بالحزن... أضحك حزنه الحزنُ
وقد عضوا أصابعهم...... لأي محارب كمنوا
فيا بحر الدّما والدمع .....من خاضوا به وهِنوا
ستجري الريحُ عاصفةً.... كما تومي لها السفنُ
سلام أيها الوطنُ

***********************


في الختام أقول : إن البعد الحسي والمعنى الإشاري اللذين يتميز بهما النص الشعري الذي يكتبه الشاعر المبدع رعد بندر ، غالبا ما يستندان إلى البوح النفسي والوجودي اللذين يكتنفان روح الشاعر وهو يتحفنا من وقت لآخر ، بنص شعري مذهل تبقى صوره ومعانيه راسخة في الذاكرتين العراقية والعربية فضلا عن بعده الكوني.

 

 





الاحد٠٥ رمضان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٥ / أب / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عادل الشرقي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة