شبكة ذي قار
عـاجـل










خمسة أشهر مضت على أعلان نتائج انتخابات الاستحقاق الأمريكي، وعمليَّة المحتلِّ السياسيَّة ما تزال عاجزة عن إنجاب حكومة الاحتلال الخامسة.
خمسة أشهر و "ديمقراطيَّة بوش وأوباما" التي كلَّفت شعبنا الملايين من القتلى والأسرى والمهجَّرين، ودمَّرت البُنى التحتيَّة للدولة العراقيَّة وموسَّساتها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة غير قادرة على تشكيل حكومة، وحسم التنافس المصطنع لحفنة من العملاء المتهالكين على الاستئثار بالسلطة ومكتسباتها المادِّيَّة في أكبر مزادٍ لبيع وطن عرفه التاريخ البشري.


لقد كُتب الكثير عن معوِّقات تاليف حكومة الاحتلال الخامسة، وقُدِّمت تفسيرات متباينة لأسباب تأخُّر تشكيلها. عزاها فريق إلى ما وُصف بـ "الحراك السياسي" بين التجمُّعات والأحزاب التي أفرزتها عمليَّة المحتلِّ السياسيَّة، وأرجعها آخر إلى صراع دول الجوارعلى تقاسم النفوذ، وسعيها إلى خلق جيوب موالية لها ولمصالحها في العراق. إلاَّ أنَّ جلَّ ما كُتب أخفق في تشخيص دورالإدارة الأمريكيَّة في تعليق تشكيل الحكومة.


من جانبهم، قدَّم أصحاب نظريَّة "الحراك السياسي" وصفًا محرَّفًا لآليَّات صناعة القرارفي العراق المحتلِّ، فقد أرجعوا تأخير تشكيل الحكومة إلى تنافس أطراف العمليَّة السياسيَّة، وسعيهم لجباية استحقاقات الانتخابات الأخيرة بشكل يوحي بوجود حراكٍ سياسيٍّ بين أطراف مستقلَّة قادرة على اتَّخاذ القرارات الخاصة بها!
الشطط في هذا النمط من الآراء، عدم اتِّساقها مع الواقع الفعلي لهيكل القوَّة السياسيَّة ومصادرها في العراق المحتلِّ، وأهمالها احتكار الإدارة الأمريكيَّة جميع القرارات الخاصة بالملفَّات العراقيَّة، وتغافلها عن حقيقة كون جميع المشاركين في عمليَّة المحتلِّ السياسيَّة، على اختلاف هويَّاتهم وألوان عماماتهم، ومرجعيَّاتهم السياسيَّة والعرقيَّة، يبقون لاعبين هامشيِّين فاقدي التأثير والفعَّاليَّة، وتُحدِّد أدوارهم وحجمها سلطة الاحتلال، كما أنَّهم فرادى أو مجتمعون لا أكثر من فقاعات هوائيَّة، في وسع المحتلِّ الغازي فقعها في أيِّ لحظة يشاء.


ولم تبتعد تحليلات من ارجعوا تاخير تشكيل الحكومة الى تأثيرات دول الجوارفي شططها عن ما طرحه اصحاب نظرية "الحراك السياسي" . أوَّل ما يسجَّل على هذا النمط من الآراء افتقارها إلى الدقَّة واعتمادها العموميَّة في تحديد المتدخِّلين فعليًّا في الشأن العراقي، وإغفالها حقيقة كون إيران الدولة المجاورة الوحيدة المتورِّطة بشكل فعَّال في هذا المجال. غير أنَّ ذلك لا يُعفي دولاً مجاورة أخرى من وجود طموحات لديها، ورغبتها في التأثير في مجريات الأحداث في العراق، ولا يُسلَّم بتبرئتها من جريمة المشاركة في استباحة شعبه.


بعيدًا عن تحجيم دور إيران وتقليل مخاطر مشروعها التوسُّعي على وحدة شعب العراق وهويَّته الوطنيَّة والقوميَّة، فقدرتها على تحديد المسارات الأساسيَّة لمشروع الاحتلال، تبقى محدودة ومرهونة بقرار الإدارة الأمريكيَّة التي حدَّدت طبيعة الدور الإيراني وحجمه وفقًا لمتطلَّبات مشروع الاحتلال. إيران مع تأثيرها الملموس في مواقف مجموعة كبيرة من المشاركين في العمليَّة السياسيَّة لا تملك في نهاية الأمر من عناصر القوَّة والتأثير ما يمكِّنها من تحديد هويَّة حكومة الاحتلال الخامسة.
اللافت في غالبيَّة ما قُدِّم من مبرِّرات تأخُّر تشكيل الحكومة، إغفالها العلاقة بين تعليق الحكومة ومساعي الإدارة الأمريكيَّة لإيجاد مخرج لمأزقها في العراق، يتيح لها الإيفاء بوعود أوباما في سحب القوَّات الأمريكيَّة المحتلَّة من الأراضي العراقيَّة بأقلِّ قدر ممكن من الخسائر السياسيَّة مع الحفاظ على مكتسبات الاحتلال العسكريَّة والاقتصاديَّة.


لقد عانت إدارة أوباما منذ عشيَّة استلامها المسؤوليَّة من "هاجس عراقيٍّ" مقلق، وواجهت ملفًّا عراقيًّا معقَّدًا حدَّد أبعاده عاملان متضادان. الأوَّل، ويتمثل في تعهُّد "المرشَّح أوباما" بسحب القوَّات الأمريكيَّة من العراق في حاله فوزه بالرئاسة. هذا الالتزام، وضع إدارة أوباما في موقف لا يحمل أي قدرٍ من المرونة بعد انتخابه رئيسا . والسبب واضح، نكوص الرئيس الأمريكي عن تنفيذ تعهُّداته في سحب القوَّات الأمريكيَّة من العراق، يهدِّد آمال الإدارة الديمقراطيَّة في الفوز بمدَّة رئاسيَّة ثانية. من المهم الإشارة إلى أنَّ قرار سحب القوَّات الأمريكيَّة من الأراضي العراقيَّة لا يرجع إلى وعود أوباما الشخصيَّة حصرًا، بل إلى عوامل أخرى أجبرت الإدارة على اتِّخاذ هذا القرار، ومن أهمَّها، الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعاني منه الولايات المتَّحدة، ورغبة الإدارة في تركيز جهودها وقدرتها الماليَّة والعسكريَّة على احتلال أفغانستان. كما لا بدَّ من الإشارة هنا إلى الفرق الكبير بين سحب القوَّات وإنهاء الاحتلال.


العامل الثاني الذي واجهته إدارة أوباما في صياغة سياستها في العراق، يكمن في أنَّ ضرورات الأمن القومي، ومصالح الولايات المتَّحدة الاستراتيجيَّة تتطلَّب تواجدًا أمريكيًّا مكثَّفًا وهيمنة عسكريَّة أمريكيَّة مباشرة على ثاني أكبر "بحيرة" نفطيَّة في هذا الكوكب.


لا شكَّ في أنَّ قرار سحب القوَّات الأمريكيَّة من العراق ليس قرارًا سهلاً خاليًّا من التبعات. صنَّاع القرار السياسي الأمريكي يدركون قبل غيرهم التبعات السلبيَّة لسحب القوَّات على هيبة الولايات المتَّحدة وموقعها الدولي، وتأثيرها في مستقبل مصالحها في المنطقة والعالم. الأهمُّ من ذلك، يدركون استحالة إلغاء دور مقاومة شعب العراق وانجازاتها القتاليَّة والسياسيَّة وتأثيرها في قرارسحب القوَّات الغازية.


إلى جانب العاملين الأساسين، ثمَّة عامل ثالث ساهم في دفع الإدارة الأمريكيَّة إلى التعليق الزمني لقرار اختيار فريق حكومة الاحتلال الخامسة. خلال المرحلة المنصرمة، عبَّرت إدارة أوباما بأكثر من صيغة عن خيبتها من أداء عملائها في العراق، وعجزهم عن تحقيق حلم سلطة الاحتلال في تأسيس "العراق النموذج الديمقراطي الجحديد المزهرد". هذه الخيبة تطوَّرت إلى رغبة جدِّيَّة في تعويم أطقم العملاء الفاشلين والفاسدين الذين فرضتهم إدارة بوش على شعب العراق، والتخلُّص منهم بطريقة بارعة متناغمة مع تبجُّحات "المكتسب الديمقراطي".


هذه العوامل مجتمعة، دفعت الإدارة إلى تعليق قرار تشكيل الحكومة، والمراهنة على عامل الزمن للخروج في صيغة تحقِّق أهدافها بشكل متوازن وفي ضوء التعهُّدات المشار إليها.


ما هي الآليَّة التي تتيح لإدارة أوباما الإيفاء بوعود الانسحاب، وتغيير طاقم المنطقة الخضراء دون خسارة مكتسبات الاحتلال ، وفقدان الهيمنة العسكريَّة المباشرة على الأراضي العراقية بدون نسف الإنجازالديمقراطي في العراق"؟


في ضل العاملين المشار اليهما اعلاه فان الخيارت المتاحة أمام إدارة أوباما محدودة . في مقدِّمة الخيارات التي يمكن ان توفِّر للإدارة قدرًا من المرونة ومخرجًا يتيح لها تحقيق أهدافها، يأتي خيار تدويل القضيَّة العراقيَّة أو "أمننتها" إن صحَّ التعبير.


تدويل القضيَّة العراقيَّة، ونقل الملف العراقي إلى "مجلس الأمن"، والخروج بقرارات معدَّة أمريكيًّا من شأنه أن يقدِّم حلاً متوازنًا قد يتيح لإدارة أوباما تحقيق أهدافها في المدى المنظور. أكثر تحديدًا، التدويل يتيح للإدارة الأمريكيَّة آليَّة تمكِّنها من الإيفاء بتعهُّدات سحب قسمٍ من قوَّاتها المسلَّحة من الأراضي العراقيَّة، ومن ثمَّ إعادتها تحت عناوين أخرى، منها "إعادة القوَّات الأمريكيَّة" كجزء من قوَّات دوليَّة أو "قوَّات حفظ السلام " بتكليف أممي وقيادة أمريكيَّة. يُضاف إلى ذلك ، ان التدويل يتيح لإدارة أوباما فرصة التخلُّص من أطقم العملاء الفاشلين ، واستبدالهم بوجوه جديدة "أكثر قبولاً " لدى شعب العراق، دون خسارة مكاسب الاحتلال أو التفريط بـ "الإنجاز الديمقراطي الأمريكي".


تعليق تشكيل الحكومة وهندسة " شلل سياسيًّ "، وتطويره لاحقا الى "أزمة سياسيَّة " ذات تبعات خطرة على أمن العراق واستقراره والمنطقة قد يستوجب تدخُّل مجلس الأمن في الشأن العراقي لاحتواء "الأزمة"، وحلِّها بإيجاد "حكومة طواريء" أو ما يصفها آخرون بـ "حكومة وحدة وطنيَّة"، تضمُّ شخصيَّات لم يسبق لها التعاون مع سلطة الاحتلال، لكنَّها مهيَّأة للتعامل معها وفقًا لترتيبات معيَّنة قي مقدِّمتها حماية المصالح النفطيَّة الأمريكيَّة في العراق.


قد يكون من المفيد الإشارة إلى أنَّ ما سلف من احتمال إقدام إدارة أوباما على التملُّص من تبعات مأزقها في العراق عبر بوَّابة مجلس الأمن، يبقى اجتهادًا نظرَّيًا يحتمل الصواب أو الخطأ، لكنَّه يبقى استناجًا منطقيًّا. لكن ما لا يقبل الشكَّ أنَّ مصير الانعطاف الجديد في خطَّة الاحتلال لن يكون بأفضل حظًّا من مصير ما سبقه من تغييرات في رداء الاحتلال الأمريكي البالي، وأنَّ التغيير المقبل لن يقدِّم حلاًّ ناجعًا لمأزق الولايات المتَّحدة في العراق، وأنَّ غطسها في رماله المتحرِّكة مستمرٌّ طالما تجاهلت مطالب شعب العراق ومقاومته المشروعة.


الحقيقة الوحيدة المسلِّم بها التي يصحُّ عليها الرهان، هي حتميَّة انتصار شعب العراق ومقاومته على المحتلِّين وعملائهم.

 

 





الاحد٠٥ رمضان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٥ / أب / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سعد داود قرياقوس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة