شبكة ذي قار
عـاجـل










لا أظن أن السيد أد ميلكرت يستحق مني أن أفرد له مقالا خاصا ، حتى لو أنه تصرف بنزعة فردية ومنح شهادة حسن السلوك للحكومة بشأن تطبيقات حقوق الإنسان ، حينما اعتبر أن هناك خطوات متميزة تم قطعها على طريق تكريس قيم جديدة في التعامل الحكومي في هذا الملف ، نعم هو لا يستحق شخصيا حتى مجرد أن يذكره عراقي حقيقي واحد بالاسم ، ولكنه لما كان ممثلا للأمين العام للأمم المتحدة في العراق ، فحاله يقتضي عدم السماح له بأن يجلس على كرسي القضاء ويصدر حكما ببراءة القتلة والجناة الذين ما تزال أصابعهم تقطر من دماء العراقيين ، نعم وظيفة ميلكرت سياسية دبلوماسية وليست إنسانية ، فهو ليس ممثلا لمنظمة العفو الدولية أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، وهو أيضا ليس ممثلا لمنظمة هيومن رايتس ووتش ، ولكنه ممثل للأمين العام للأمم المتحدة والذي خرج من أروقة المنظمة التي يفترض به أنه يقودها أكثر القرارات التي اتخذتها المنظمة العالمية جورا وظلما ضد بلد مؤسس لها وعضو فيها ، ومنظمة هي بهذه المواصفات ستواصل انحيازها ضد العراق وستقتنص الفرص لفتح المزيد من الجروح في جسده المثخن بها ، خاصة وأن المنظمة ما تزال أسيرة بيد الولايات المتحدة .


ما أعرفه عن ميلكرت أنه هولندي الجنسية ، وللحكومة الهولندية كما هو معروف تاريخ حافل في معاداة العرب وربما العراق بشكل خاص بسبب الحصص الهولندية في شركة شل التي تم تأميمها في 1 حزيران عام 1972 ، وليس من حقنا أن نفترض أن ارتداء السيد ميلكرت قميص الأمم المتحدة الأزرق وجلوسه في مكاتبها في بغداد وأمام علمها سيحوله ميكانيكيا إلى ميزان للعدل والإنصاف وينزع مشاعره الشخصية ، وعلى الرغم من أن الشعب الهولندي لو أتيحت له فرصة إرسال محلفين إلى محكمة ميلكرت في بغداد ، يمكن ألا يوافقوا على الحكم المتسرع والمبني على الغرض والمشاعر الشخصية والذي أصدره وأثار ردود فعل غاضبة من قبل الضحايا وذويهم ، إلا أن ذاكرتي المتعبة بفعل التقدم بالعمر أعادتني إلى عقد السبعينات من القرن الماضي ، حينما كشف النقاب عن فضيحة الرشاوى التي دفعتها شركة لوكهيد وهي من بين أكبر الشركات الأمريكية لصناعة السلاح من أجل ترويج انتاجها ، لعدد من السماسرة والوسطاء وعدد من كبار المسؤولين في مختلف دول العالم بمن فيهم كاكوي تاناكا رئيس وزراء اليابان وقتها ، وكان من بين المتهمين بتلقي الرشا أيضا زوج ملكة هولندا الملكة جوليانا وعدد كبير من المسؤولين الأقل شأنا في هولندا ودول أخرى في العالم ، تاناكا ترجل من سيارته الحكومية وغادر مبنى رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب الليبرالي وطويت صفحته على الرغم من أنه من أكثر رؤساء الوزارات في اليابان فاعلية وذكاء بعد الحرب العالمية الثانية ، ولكن ملكة هولندا سكتت رسميا على الأقل وربما لم تعاتب زوجها حتى في غرفة النوم الملكية ، لأن هذا الملف قد يجرح مشاعر زوجها الأمير ويعكر صفو حياتهما الزوجية .


لا أدري لماذا تذكرت قصة لوكهيد في هذا الظرف بالذات ، مع أنني تعاملت باهتمام محدود مع قصة الساعة الذهبية التي يقال إنها ثمينة جدا والتي حصل عليها ميلكرت ، فلست أظن أن مواعيد الرجل بهذه الأهمية الاستثنائية التي يحتاج أن يضع على معصمه ساعة دقيقة جدا وثمينة جدا تضاربت الأرقام بشأن سعرها من أجل ضبط وقته في بلد لم يعد للزمن فيه أية قيمة أو أهمية ، ثم ما قيمة التقرير الذي يصدر عن جهة دبلوماسية تابعة للمنظمة التي ذبح العراق باسم قرارات مجلس الأمن فيها ؟ هل هو شخصية رسمية ذات اختصاص ؟ وما قيمة شهادة تصدر بهدية معلنة حتى لو كانت ساعة ذهبية ؟ وما هو موقف الأمم المتحدة في حال تأكدت من حصوله على هذه الساعة ؟ شخصيا احمل من الأسباب ما يدعوني إلى الاعتقاد أن موظفا أمميا بهذا الوزن وعرف مصير من مر قبله على هذا المنصب أذكى كثيرا من أن يقبل أية هدية حتى لو كانت سيارة ذهبية ، ومع ذلك فمن أجل حماية سمعة الرجل وسمعة المنظمة الدولية التي تلوثت سمعة الكثير من مسؤوليها في أفريقيا ومناطق أخرى جراء مهمات دولية مماثلة ، من أية شوائب تعكر صفوها ، أرى أن يتم تشكيل لجنة تحر لجرد ثروة الرجل قبل تكليفه بمهمة ممثل الأمين العام في العراق وبعد أن تنتهي هذه المهمة ، كي لا يبقى شاخصا توجه إليه السهام ببراءة أو بغرض ، وأرى أن تضم اللجنة ممثلين على الأمم المتحدة والحكومة الهولندية والمقاومة الوطنية العراقية والمنظمات الحقوقية العربية ، على أن تصدر تقريرها في مدة لا تتجاوز ستة شهور .


الملف العراقي أكثر تعقيدا من أن يفهمه موظف هولندي حتى لو كان بوزن ميلكرت ، لأنه يكوّن أفكاره من ترجمة التقارير التي تقدم إليه من جهات متباينة ومختلفة على كل شيء ، وتضم بين طياتها الكثير مما هو مغرض ومرتب ، ولو أخذنا بعض التوصيات التي خرجت من مكتب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق سواء ما يتعلق بما يسمى بملف المناطق المتنازع عليها ، أو المصالحة الوطنية ، والتعذيب في السجون السرية والعلنية التابعة للحكومة وبعض أحزابها ، لوجدنا أن تقارير لجان برلمانية كانت أكثر دقة وواقعية وجرأة على الرغم مما في مهمتهم من مجازفة ، من موظف دولي يفترض أن يكون أكثر شجاعة في وصف المرض وتشخيص العلاج له خاصة وأنه مطوق بالحصانات الدبلوماسية ، ومما أسقط مصداقيته أن تقرير ميلكرت يأتي متزامنا مع القمع العلني الذي لم بوسع الحكومة إخفاءه والذي تتعرض له الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي شهدتها مدن العراق ، مما دفع للاعتقاد أن توقيت التقرير جاء وكأنه يريد إلقاء قارب النجاة للحكومة التي بدأت تختنق في بركة المئة يوم والاخفاق في كل ما واجهها من قضايا وملفات ساخنة وتتعقد أكثر فأكثر مع الوقت ، فما هي مصلحة موظف دولي في أن يفقد نزاهته وحياديته ؟ هل يظن أن سلامته أهم من قول الحقيقة ؟ هذا من حقه قطعا ولكنه كان بإمكانه الاعتذار عن قبول هذا المنصب في العراق خاصة وأنه عرف بتجارب من سبقه ، من حقه أن يخشى على سلامته من المليشيات الرسمية ، ولكن كان بإمكانه أن يتريث بعرض تقريره حتى يغادر العراق وحينذاك كان يمكن أن يكون تقريره متوازنا ومحايدا ، ولكن حدود شجاعة الإنسان تتباين من شخص لآخر ، ومتانته الأخلاقية ليست متقاربة ، ولهذا يمكن أن تكون أكثر من علة دخلت على خط كتابة التقرير الذي بذل ميلكرت جهدا في نفيه والاعتذار عنه أكبر بكثير من الجهد الذي بذله في كتابته على عجل ، فخرج وكأن الحبر قد اختلط بالدم فأضاع على المراقبين القدرة على قراءته ومعرفة مقاصده .


التقرير ومهما صيغ بعبارات بليغة لن يغير شيئا من الواقع الذي يعرفه العراقيون جيدا ، ومهما حاول ميلكرت والجهات التي تقف وراءه ، فإن غاطس المحنة التي يعيشها العراقيون لن تخفف منها تقارير الأمم المتحدة ، ولكن مثل هذه التقارير ربما تنفع من يصدرها وخاصة المنظمات الدولية ، إذا كانت إنسانية ومنصفة أكثر مما تنفع العراقيين ، وربما تبعث برسالة لشعوب الأرض بأن هناك ضمائر ما تزال حية وعلى استعداد للوقوف إلى جانب المظلومين مهما كان الثمن الذي يدفع على طريق ذلك ، ولكن هل تتفهم الشخصيات المناطة بها مهمات دولية هذه الحقيقة أم أنها لا تفهم إلا مصالحها الصغيرة والتي لن تستمر طويلا .

 

 





الثلاثاء١٢ رجـــب ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٤ / حــزيــران / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة