شبكة ذي قار
عـاجـل










التزم النظام التعليمي في العراق بالأسس التي بني عليها شكل الدولة العراقية الحديثة خلال كل الحقب السياسية التي تعاقبت عليه، وكانت سماته الاساسية هي علمية ورصانة المنهج، وتنمية الروح الوطنية والقومية، والابتعاد التام عن أية صفة دينية أو طائفية. ولم يكن هنالك أي شعور بالخوف من أنحرافه حتى عندما بدأت التيارات السياسية العراقية بالعمل داخل أروقته، وممارسة عمليات الكسب الحزبي، والتبشير العلني والسري بالافكار السائدة، لأن تلك الاحزاب كانت وطنية المنشأ بالرغم من أن بعضها كانت أمتداداته الايديولوجية خارج الحدود كالحزب الشيوعي العراقي، أو له هيكلية قومية كحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب، وبالتالي فإن الصفة الوطنية لمناهجهم السياسية جعلتهم يلتقون مع الاسس التي بني عليها هذا النظام، بينما فشلت الاحزاب الدينية في العمل الحزبي داخله لأن توجهاتهم الفكرية الطائفية أصطدمت ببنائه الوطني الرصين.


ولقد حصل التعليم الاولي والعالي في العراق على دفعة تطويرية هائلة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما أعلن عن الزامية ومجانية التعليم بكافة مراحله ليكون في متناول الجميع، وتم رفده بالكفاءات العلمية عالية المستوى بقرار تسهيل عودة التدريسيين والعلماء والخبراء العراقيين الذين كانوا يعملون في أرقى الجامعات العالمية، مما أعطى مصداقية أعلى للمنهج العلمي الذي كانت تسير عليه الجامعات العراقية، فأنعكس ذلك بصفة أيجابية على الاعتراف العالمي بالشهادات العراقية الممنوحة للطلبة الدارسين فيها، فشهدت أروقتها العديد من الطلبة الوافدين للتحصيل العلمي من الدول العربية والاسلامية.


كما حرص صاحب القرار على أستيزار الكفاءات العراقية لتتولى وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي منذ تأسيس الدولة العراقية، فكانوا من الاسماء اللامعة في الفكر والتربية، وعندما حاولت السلطات منح هذا المنصب لبعض الشخصيات الحزبية من غير الاكاديميين ومن غير الوسط التربوي، سارعت الى أعفائهم من هذا المنصب بعد أن شعرت بأمتعاض الكوادر التدريسية منهم .


وأذا كانت فترة الحصار الجائر قد أثرت سلبا على المستوى العلمي في هذا الوسط نتيجة الضغط الاقتصادي الذي مس الوضع المعيشي للمدرسين، وعلميا من خلال منع وصول البحوث والدراسات والنشريات العلمية التي تبين التطور العلمي الحاصل في كافة المجالات، وعدم دعوة الاساتذة العراقيين للمشاركة في المؤتمرات العلمية لمراكز البحوث والجامعات العالمية، فإن الجريمة الكبرى بحق هذا القطاع المهم كانت قد بأت مباشرة بعد الغزو والاحتلال في العام 2003، حيث أنطلقت خطة منهجية مدروسة لافراغ الجامعات والمعاهد العراقية من كل الكفاءات العلمية التدريسية، بعمليات القتل والاختطاف والابتزاز كي يسهل تنفيذ الصفحة الثانية من المخطط، لملىء المقاعد التدريسية الشاغرة بعناصر حزبية طائفية، كي تسهل بعد ذلك عمليات التزوير للوثائق والشهادات ومعادلة الشهادات الغير معترف بها عراقيا، ومنح الجهلة والاميين شهادات الدكتوراه والماجستير في مختلف الاختصاصات، وكذلك قبول غيرهم من العناصر الحزبية في الدراسات الجامعية الاولية والعليا خلافا للضوابط والشروط المعمول بها في الجامعات. كما خضعت الجامعات الى السيطرة الحزبية من قبل أحزاب السلطة وتم أقتسامها، وأصبح من المعتاد رؤية المعممين في أروقتها لا للدراسة والبحث بل لما يسمى الوعظ الديني ونشر الفتاوى الطائفية التي تحقر الآخرين وتحط من معتقداتهم. وأنخرطت هذه المؤسسات العلمية في أحياء المناسبات الدينية كالولادة والوفاة للائمة والصحابة، فكانت جدرانها تتشح بالسواد كلما حلت هذه المناسبات، وتعطل فيها الدراسة، وتنطلق في أرجائها أصوات لطم الصدور والنواح والبكاء من مكبرات الصوت. أما مناهج التدريس فقد عبثت فيها مقصات الجهل والامية التي تتمتع بها الاحزاب الطائفية، وأنطلقت حملات واسعة لطمر صفحات مشرقة من التاريخ العربي والاسلامي، أرضاء لنزعات خرافية مريضة ولصالح أجندة أيرانية يزعجها التغني بالارث الحضاري الاسلامي الذي أسقط الامبراطورية الفارسية، كما لايوافق توجهاتها أن تغرس القيم العربية في عقول أبناء العراق التي تعزز الانتماء العربي لديهم، بل حتى الكويت دخلت على هذا الخط لتفرض أرادتها ورؤيتها الجغرافية والتاريخية لحقيقة وجودها، من خلال المطالبات العلنية المتكررة بتغيير المناهج الدراسية العراقية، أو من تحت الطاولة بالضغط المادي على هذا الطرف السياسي أو ذاك. كما لم يعد مصرحا للطلبة العراقيين الدراسة والبحث في الاختصاصات العلمية النادرة، التي تدخل في المجالات التي تعتبرها الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم في النطاق العسكري والتكنولوجيا النووية، وباتت كل البحوث الدراسية العراقية تخضع للرقابة الصارمة، كي لاتتكرر تجربة الابداع العلمي العراقي مرة أخرى.

 

أن التعليم البديل الذي تسعى له السلطة القائمة اليوم في العراق، هو الدراسات الحوزوية المحصورة في نطاق العلوم الفقهية واللغوية، بغية أستخراج ما أمكن من مكامن الخلاف المفتعلة بين المذاهب الدينية، وأشاعتها بين الناس لإشغال الاجيال بالزمن الماضي، لان القادة الجدد أثبتوا أنهم يعيشون بأوهام الماضي السحيق ولاتربطهم بالحاضر الا الحسابات المليونية التي يملكونها في البنوك العالمية. كما أنهم ليسوا بحاجة بعد الآن الى المدرسين من العلماء والخبراء، في ظل هذا العدد الهائل من المعممين الذين يلهثون وراء الناس كي يجبروهم على أتباعهم في ما يسمى التقليد الديني. لذلك لاغرابة أن ينبري وزير التعليم العالي فيلقي بالمئات من أساتذة الجامعات على قارعة الطريق، بحجة حرصه على تطبيق قانون الاجتثاث، بينما لايجتث الظواهر المدمرة التي تعبث بالتعليم في العراق، ولا ينظر الى سير العملية التدريسية التي باتت تشرذم العقل العراقي وتقتل تاريخه وتمزق جغرافيته، والتي لايمكن مجابهتها بالردود الباردة الخجلة لانها تمس مستقبل الشعب والوطن، وملايين الطلبة الذين يجري أستلاب هويتهم الثقافية والحضارية والاخلاقية، لذلك فأن نصيحة طارق الهاشمي لوزير التعليم العالي (أن يتق الله) هو كلام شخص يائس لايمتلك سلطة القرار والموقف الشجاع والمشارك في العملية التدميرية التي يتعرض لها العراق بأجمعه.أن الانهيار الذي يهدد أسس العملية التربوية والتعليمية في العراق مسؤولية كل الشرفاء والوطنيين العراقيين، لأن هذا الحقل كان يبنى بشكل تراكمي منذ عقود من الزمن، ولم يتجرأ أحد على المساس به والتلاعب بأنظمته وقوانينه، وهو المصنع الوطني لانتاج العقول العراقية السليمة التي لاتعرف الطائفية، وبالتالي فإن الحفاظ عليه هي مسؤولية الجميع. كما أنها أيضا مسؤولية المنظمات العربية والاقليمية والدولية المعنية بالعلوم والتربية، التي يجب أن تتحرك بدفع واستنهاض من قبل كل الاصوات العراقية الخيرة، كي تنهض بمهمتها وتدرس الواقع التعليمي العراقي جيدا وتتخذ الموقف المناسب لايقاف مهزلة الاجتثاث والتلاعب بالمناهج التدريسية فيه.


أن المراهنة على القوى السياسية الاخرى المشاركة في العملية السياسية لايقاف هذا التغول التدميري في حقل التعليم لن يجدي نفعا، بل سيكون كسابقاتها التي طواها النسيان وسارت كما أريد لها من قبل الطائفيين المتسلطين على رقاب شعبنا. لكن خطورة هذه المشكلة تفوق كل ماقبلها لأنها تتعلق بأنتاج أجيال، وسرقة عقول الاجيال لاتضاهيها في الخسارة سرقة أموال العراق كله.

صحيفة القدس العربي

 

 





الاربعاء٢٨ ذو القعدة ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٦ / تشرين الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة