شبكة ذي قار
عـاجـل










كانت أكثر من عشرين عاماً مرت حين رأيت وجهه على الشاشة وهو ينفي "إستسلامه" للعدو ويؤكد مواصلته قيادة المعركة وإصراره على تأدية المهام المكلف بها.
اللواء الركن خالد الهاشمي؟ نعم، هذا هو وجه الملازم أول خالد حاتم صالح، آمر الفصيل الثاني، السرية الثالثة، الفوج السادس الآلي، اللواء المدرع السابع عشر. وذلك صوته وتلك نبرته التي أتذكرها، نبرته المفعمة بالأنضباط حين يتحدث مع قادته، وبالحزم والصرامة، وبالتهذيب أيضاً حين يتحدث مع جنوده. ذلك هو الشاب القومي العربي الذي جاء إلى "الجيش العقائدي" من أزقة الأعظمية ومن خلايا الحزب في الأتحاد الوطني لطلبة العراق متحمساً للعروبة ومعاركها القادمة في فلسطين قبل أن يتحمس لألتماع النجوم على كتفيه.


- يا الله! هل أخطأت في التشخيص؟
- لا، أنت لم تخطىء، إنه هو، ذلك الضابط، الإنسان الذي أحببته وكنت تتمنى أن يكون كل ضباط الوحدة، لا بل كل ضباط الجيش، مثله.
لم أخطىء إذاً.


كنت لا أفارق الشاشة إلا لماماً وقلبي على العراق ومع مقاتلينا من جنوده وضباطه في أم قصر. الآن تسمرت أمام الشاشة وقلبي على خالد، أقلب المحطات لأرى المشهد مرات عديدة ولأسمع صوته كي تطمئن روحي على جريان الماء في شط العرب كما على النخيل في البصرة، على بغداد ونينوى كما على كل ذرة من تراب العراق.
ولكن، من أنا كي ينتظر قلبي العراق؟ المهم أن قلب خالد ما زال هناك ينبض بالعزة ويصهل بالكرامة. المهم أن قامته ما زالت شامخة، أمام الكاميرات مثلما أمام الصواريخ، قلبي ودموعي لا يساويان شيئاً أمام ذلك.


- سقطت البصرة.
- لا لم تسقط، أؤكد لكم أنها لم ولن تسقط ما دام فيها خالد.
ورفضت أن أصدق.
- لكن ماذا يفعل اللواء خالد وهو يقود جزءاً من جيش أنهكه الحصار في مواجهة أقوى جيوش العالم المدججة بأحدث التقنيات.
- لا أدري... المهم أنني مقتنع بأنه لن يتركها تسقط.
ورفضت أن أصدق.


- في عام 1958 وبعد ثورة الرابع عشر من تموز في العراق وثورة الشعب اللبناني ضد الرئيس كميل شمعون، وصل مشاة البحرية الأميركية الى الشواطئ اللبنانية بدعوة من شمعون، وكان اللواء فؤاد شهاب قائداً للجيش آنذاك "فأعطى الأوامر بتوجيه المدافع باتجاه القوات الأميركية وإطلاق أول طلقة تحذيرية في الهواء فوق تلك القوات... إلا أن القيادة الأميركية تحسبت للموضوع فتم الإتصال باللواء شهاب واجتمع الفريقان. وفي الإجتماع وافق الجانب الأميركي على الشرط الذي وضعه شهاب وهو أن تبقى القوات الأميركية في مناطق محددة قرب الشاطئ وأن لا تدخل العاصمة، وهذا ما حصل. حيث كان موقف اللواء شهاب مرتكزاً على واجب الحفاظ على الشرف الوطني والعسكري وإن كانت موازين القوى غير متكافئة".
- مبادئ خالد، انضباط خالد، ضمير خالد، روحية خالد وشجاعته هي التي ستصمد وتتفوق وتنتصر.


- لكن "الرأي قبل شجاعة الشجعان" كما يقول المتنبي.
- ...................
رويداً رويداً، وبعد مداولات طويلة بدأت أستفيق وأستعيد الوعي بالواقع.


نعم سقطت البصرة كما يسقط دمعي الآن، ولكن هل توقف جريان الماء في شط العرب؟ لم يجب دمعي وواصل جريانه حتى تبدل لون الماء، واستبد بي القلق:
- ولكن أين هو الآن خالد؟ أما زال في البصرة أم في طريقه إلى بغداد؟ هل إنسحب مع ما تبقى من قواته إنسحاباً قتالياً منظماً أم أنه اضطر الى ان يتخفى كي يحاول الإنسحاب إلى بغداد منفرداً؟


- طريق الإنسحاب طويلة ومقطعة بينما القوات تفتقر الى غطاءات جوية ومدفعية، كما تعوزها شبكة اتصالات لتنظيم إنسحابها، في المقابل هناك سيطرة جوية كاملة للعدو وهنالك تشويش الكتروني على جميع الأجهزة. لذلك فإن الإنسحاب القتالي المنظم مستحيل، لكنه من الممكن ان ينسحب المقاتلون الذين تقطن عوائلهم في بغداد على شكل مجموعات صغيرة لا تقاتل إلا حين تصطدم بالعدو كي تستطيع الوصول الى العاصمة سليمة للمشاركة في معركة الدفاع عنها. بينما من المفترض ان يتخفى المقاتلون من محافظة البصرة في مدينتهم وينسحب الآخرون كل إلى محافظته ليقوموا بعمليات خلف خطوط العدو حيث من المتوقع أن تتعرض بغداد لحصار طويل الأمد وليشكلوا نواة لمقاومة شعبية مسلحة، خصوصاً وإن وزير الدفاع العراقي، وأمام وسائل الإعلام، توقع وصول القوات الغازية الى بغداد خلال أيام، كما أن الغزو لم يكن مفاجئاً وقد جرى التحضير له علناً منذ فترة طويلة، فالأحرى أن يكون المدافع قد تهيأ لذلك ووضع الخطط الملائمة.


- هذا كلام في "الإستراتيجية والتكتيك" لا يحسم الإجابة عن مصير خالد، هل سيصل إلى بغداد أم لا؟ هل سيشارك في معارك الدفاع عنها أم لا؟ هل سينجو من الخصوم والأعداء أم انه سيقع في أيديهم؟
تزدحم الأسئلة وتتفاقم الحيرة بينما قوات العدو تزحف كالأفاعي نحو عاصمة الرشيد من كل حدبٍ وصوب، الحمم الصاروخية تشعل ليلها وتدمر أحياءها، المشهد مؤذٍ وغامض، مؤذٍ لأن هناك من يبكي عليها وهناك من ينتظر لحظة سقوطها بفرحٍ غامر. غامض لأنه لا أحد يعرف فيما إذا كان قد وصل إليها خالد أم لا، ولا أحد يعلم فيما اذا سيكون مرّة أخرى بانتظار القوات الغازية.


ما زلنا أمام الشاشات، نقلب المحطات ونتقلب معها على جمر القلق والإنتظار، في كل محطةٍ نبحث عن إسم خالد، وحين لم نجده. نتحول إلى محطة أخرى، نحاول أن نبحث عن أسماء أخرى، علّهم موهوا بها إسم خالد، يغلب علينا النعاس، نغفو، نغط قليلاً، ولكن ليس عميقاً في النوم.


فجأة نصحو على طرق الباب.
- خبر عاجل: "سقطت بغداد"
- إذاً، لم يصل إليها خالد.
ألم أقل إن الكلام في "الاستراتيجية والتكتيك" لم يحسم الإجابة عن مصير خالد.

 

 





السبت٢٢ جمادي الاول ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٤ / نيسان / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ك . ح نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة